الوجه الآخر للحرب... من الدمار إلى الابتكار
لطالما كانت العلاقة بين الحروب والاكتشافات التكنولوجية طردية ووثيقة، إذ شكلت الحاجة إلى اختراعات جديدة خلال الصراعات دافعاً كبيراً للتقدم التكنولوجي في ما بعد.
في وقت تطغى الحروب على أكثر من جبهة في هذا العالم مع ما يرافقها من مشاهد الدمار والمآسي، يبرز سباق بين الأطراف المتصارعة، يحاول فيه الجميع إظهار أحدث ما توصل إليه في المجالات العسكرية والتكنولوجية.
يؤدي التطور التقني، الذي ينتج من تضافر جهود علمية وعملية في أكثر من مجال، الدور الأبرز في هذا السباق. ولطالما كانت العلاقة بين الحروب والاكتشافات التكنولوجية طردية ووثيقة، إذ شكلت الحاجة إلى اختراعات جديدة خلال الصراعات دافعاً كبيراً للتقدم التكنولوجي في ما بعد.
نستعرض في ما يلي بعضاً من الاختراعات والابتكارات التي ظهرت أو تطورت بشكل ملحوظ في أوقات الحرب:
- نظام الرادار Radar: تم إنتاج أول نظام رادار عملي عام 1935 من قبل الفيزيائي البريطاني السير روبرت واتسون وات. وبحلول عام 1939، قامت إنكلترا ببناء شبكة من محطات الرادار على طول سواحلها الجنوبية والشرقية.
أدى مختبر الإشعاع التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا دوراً كبيراً في تطوير تكنولوجيا الرادار في الأربعينيات من القرن العشرين. كان الهدف الأصلي للمختبر هو استخدام الإشعاع الكهرومغناطيسي كسلاح، وليس كشكل من أشكال الكشف.
وقد تم تطوير نظام الرادار خلال الحرب العالمية الثانية، والذي أحدث ثورة في الاستراتيجيات العسكرية من خلال تمكين الكشف عن طائرات وسفن العدو خارج النطاق البصري. توسعت تطبيقات الرادار لاحقاً لتشمل الاستخدامات المدنية، مثل التنبؤ بالطقس ومراقبة الحركة الجوية.
- أفران الميكروويف: تم اكتشاف الطهو بالميكروويف مصادفةً خلال مشروع غير ذي صلة لمقاول عسكري بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة. كانت تكنولوجيا الرادار قد تطورت بشكل ملحوظ طوال فترة الحرب، واستمرت في أداء دور حاسم في الحرب الباردة آنذاك.
عام 1946، كان عالم يدعى بيرسي سبنسر يعمل على المغنطرون (جهاز ينتج الموجات الكهرومغناطيسية المهتزة) لزيادة مستويات الطاقة التي يمكن استخدامها في الرادار. وفي أحد الأيام، وفي منتصف تجاربه، أدخل يده في جيبه، واكتشف أن قطعة حلوى الفول السوداني التي كان يحتفظ بها لتناول طعام الغداء ذابت. ولرغبته في تجربة المزيد، ركز سبنسر الموجات الكهرومغناطيسية للمغنطرون على بيضة نيئة، فانفجرت في وجهه. لم يردع ذلك سبنسر، فأحضر بعض حبات الذرة وصنع أول فشار محضر بالميكروويف، وشاركه مع زملائه في المكتب.
- البنيسلين Penicillin: على الرغم من اكتشافه قبل الحرب العالمية الثانية على يد ألكسندر فليمنج، فإنَّ إنتاجه بكميات كبيرة خلال حقبة الحرب أنقذ أرواحاً لا حصر لها من خلال علاج الالتهابات البكتيرية بين الجنود والمدنيين.
وقد كان ذلك بمنزلة بداية العصر الحديث للمضادات الحيوية. كان تصنيع البنسلين للجنود أولوية رئيسية لوزارة الحرب الأميركية التي كانت تعتبره سباقاً ضد الموت. وقد انبهر الجراحون العسكريون في حينها من الطريقة التي يزيد بها الدواء من فرص البقاء على قيد الحياة، ويسهل عليهم رعاية الجنود في ساحة المعركة.
- لقاح الإنفلونزا: كان لوباء الإنفلونزا في عامي 1918 و1919 تأثير كبير في الحرب العالمية الأولى. وقد حفز الجيش الأميركي على تطوير أول لقاح ضده. بدأ العلماء في عزل فيروسات الإنفلونزا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
وقد ساعد الجيش الأميركي في رعاية وتمويل تطوير لقاح للوقاية منها. وافقت الولايات المتحدة على أول لقاح ضد الإنفلونزا للاستخدام العسكري في عام 1945 وللاستخدام المدني عام 1946. وكان أحد الباحثين الرئيسيين في المشروع هو جوناس سالك؛ العالم الأميركي الذي قام في ما بعد بتطوير لقاح شلل الأطفال.
- تكنولوجيا الأقمار الصناعية: تسارع تطور تكنولوجيا الأقمار الصناعية خلال الحرب الباردة، مدفوعاً بالاحتياجات العسكرية والاستخباراتية للاتصالات والاستطلاع والملاحة. تؤدي الأقمار الصناعية حالياً أدواراً حاسمة في الاتصالات والتنبؤ بالطقس وأنظمة تحديد المواقع العالمية.
-نظام تحديد المواقع العالمي :(GPS) تم تطوير تقنية نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في الأصل من قبل الجيش الأميركي، وأصبحت جاهزة للعمل في الثمانينيات. تم استخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في البداية للملاحة والاستهداف في العمليات العسكرية، وهو يستخدم الآن في التطبيقات المدنية في جميع أنحاء العالم، بدءاً من أنظمة الملاحة للسفن التجارية وحتى الزراعة الدقيقة. كما أطلقت دول أخرى أقماراً صناعية وطورت أنظمتها الخاصة، بما في ذلك نظام GLOSNASS الروسي، ونظام BeiDou الصيني، ونظام Galileo التابع للاتحاد الأوروبي، وجميعها تتيح البيانات الملاحية المجانية للجمهور.
- الطاقة النووية: كان لتطوير الأسلحة النووية خلال الحرب العالمية الثانية في إطار مشروع مانهاتن آثار عالمية كارثية، حين قامت الولايات المتحدة الأميركية بإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناكازاكي، ما أدى إلى موت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين. في وقت لاحق، ظهرت الطاقة النووية كمصدر بديل وأكثر استدامة للطاقة المعتمدة على النفط.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا النازية وحلفائها والحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفياتي، لا تزال الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، تحتفظ بترسانة كبيرة من الأسلحة النووية في حين تمنع دولاً أخرى لا تتماشى مع سياساتها من امتلاك برامج نووية مستقلة عن الهيمنة الغربية حتى مع تقديم ضمانات حول سلميتها وتطبيقاتها الغير عسكرية.
- الطائرات من دون طيار أو ما يعرف بالمسيرات: تم تطوير الطائرات من دون طيار في البداية لأغراض الاستطلاع والمراقبة العسكرية خلال الحرب الباردة والصراعات التي تلتها. وقد تطورت الطائرات من دون طيار إلى أدوات متعددة الاستخدامات في التطبيقات المدنية، مثل التصوير الجوي والزراعة والإغاثة في حالات الكوارث الطبيعية. على الرغم من استعمالاتها المدنية، لا تزال الطائرات المسيرة تؤدي دوراً بارزاً في الحروب، وبخاصة في السنوات الأخيرة، إذ إن تطورها وقدرتها على المناورة وتجاوز وسائل الدفاع الجوي يجعل منها ورقة رابحة في يد الجيوش والجهات التي تمتلكها، وهو ما تجلى في الحرب الروسية-الأوكرانية، ومؤخراً في الحرب الإسرائيلية على غزة والجبهات الأخرى، وبخاصة في لبنان.
إضافة إلى ما ذكر، شكلت الحروب الدافع الأساس لظهور العديد من الابتكارات الأخرى المتعلقة على سبيل المثال لا الحصر بأجهزة الكمبيوتر الرقمية، وتكنولوجيا الحوسبة الحديثة، ومحركات الطائرات النفاثة، وتقنية الرؤية الليلية، والسونار، والمضادات الحيوية (مثل ستربتوميسين وتيتراسكلين)، وغيرها من الاختراعات التي كان لها تأثير مباشر في حياة الناس اليومية وصحتهم ورفاهيتهم (للمزيد حول ابتكارات الحروب يمكن للقارئ مراجعة كتاب "الاختراعات الاستراتيجية للحرب العالمية الثانية"1 لكاتبه جيري فريدمان، وكذلك كتاب "الاختراعات الاستراتيجية للحرب العالمية الأولى"2 لكاتبته سينتيا روبي.
لم تؤثر هذه الاختراعات في مجالات تخصصها فحسب، بل كان لها أيضاً تأثيرات مجتمعية أوسع، ما يوضح كيف يمكن للابتكار التكنولوجي الذي تحركه الحرب أن يشكل علامة فارقة في مستقبل الشعوب ولو بعد فترة طويلة من انتهاء الصراعات.