العبور الصينيّ إلى شمال الأطلسيّ.. استراتيجية الاستحواذ الصيني على حوض الكاريبي
أمام احتمال تفاقم الصراع الأميركيّ الصينيّ واحتمال فرض حصارٍ بحريٍّ عليها (بحر الصين الجنوبي وقناة ملقا)، قامت الصين بالتخطيط الاستراتيجيّ للاستحواذ على حوض الكاريبي لفرض مكافئٍ استراتيجيٍّ للمخططات الأميركية.
رغم أنّ الصين لم تبدِ رغبةً مباشرةً بعد في التحوّل إلى قطب منافسٍ للولايات المتحدة، كما لم تبدِ رغبةً علنيةً في تغيير النظام الدولي، فإنها في الوقت نفسه تعمل على حماية حضورها الدوليّ وتعزيزه، باعتبارها قوةً عالميةً، وتحتفظ لنفسها بحق التحول إلى قطبٍ دوليٍّ.
وأمام منافسةٍ شرسةٍ تبديها الولايات المتحدة ضدّها في الهادئ وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط، تعمل الصين على تأمين حضورها الدائم عالمياً. وفي سبيل ذلك، عززت حضورها في حوض الكاريبي وأميركا اللاتينية، وقامت ببناء "شراكاتٍ استراتيجيةٍ شاملةٍ" مع الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والإكوادور والمكسيك والبيرو وفنزويلا.
وأمام احتمال تفاقم الصراع الأميركيّ الصينيّ واحتمال فرض حصارٍ بحريٍّ عليها (بحر الصين الجنوبي وقناة ملقا)، قامت الصين بالتخطيط الاستراتيجيّ للاستحواذ على حوض الكاريبي لفرض مكافئٍ استراتيجيٍّ للمخططات الأميركية.
هذا الاستحواذ يشمل ركيزتين أساسيتين؛ الأولى هي الاستحواذ على قناة بنما، والأخرى هي استراتيجية الوصول المتقدم إلى شواطئ الولايات المتحدة، في حال اتسعت هوة الصراع بين الطرفين.
تمثل قناة بنما (82 كم) بوابةً استراتيجيةً بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وهي ممرٌ أساسيٌّ لسلع العالم، كما أنّ دولة بنما نفسها تربط أميركا الوسطى والجنوبية (محور الأميركتين). تم بناء القناة في أوائل القرن العشرين (1914)، بعد الحرب الأميركية الإسبانية مباشرة.
وبعد توسيع القناة في العام 2016، باتت في صلب الاهتمامات الجيواقتصادية الدولية، إذ يسجل الممر المائيّ سنوياً ما يقارب 14 ألف عملية عبور، وهي قيمةٌ تساوي 6% من التجارة العالمية (راجع مقالDaniel Ronda / CSIS).
وازداد دور الشحن العالميّ للقناة وسط اضطراب سلاسل التوريد العالمية خلال جائحة كورونا وتجاذبات العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، ولا سيما في العقد الثاني من الألفية الثالثة، بعد أن قامت الصين بتعميق العلاقات مع دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (21 دولة باتت ضمن مبادرة "الحزام والطريق").
وقد تبلور ذلك خلال زيارةٍ رسميةٍ لبنما قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ في كانون أول/ديسمبر 2018، وهي بالمناسبة أول زيارةٍ لبنما يقوم بها رئيس صينيّ، والتي نتج منها إبرام 19 اتفاقية تعاون في التجارة والبنية التحتية وغيرها.
وتمثل بنما بالنسبة إلى الصين فرصةً استراتيجيةً للدخول إلى الفناء الخلفيّ للولايات المتحدة الأميركية، إذ يعد ما بين 6% و35% من سكانها من أصولٍ صينية. وقد أدى سحب الاعتراف البنمي الرسميّ بتايوان والاعتراف (2017) بجمهورية الصين الشعبية إلى تعزيز هذه الفرصة وإطلاق مجموعة من الأنشطة الصينية في بنما، ولا سيما تلك المتعلقة بالبنية التحتية في القناة.
كما كانت بنما أول دولةٍ في أميركا اللاتينية توقع على مبادرة "الحزام والطريق" في العام 2018. وكانت الصين قد وقعت في العام 2016 على صفقةٍ استحوذت خلالها على جزيرة مارغريتا، أكبر ميناءٍ في بنما على الجانب الأطلسي، وعلى منطقة التجارة الحرة في كولون، وهي أكبر منطقة تجارة حرة في نصف الكرة الغربي، وأسست الاتفاقية لميناء حاويات بنما-كولون، وبالتالي سيطرت الصين على مدخلي القناة (بالبوا وكريستوبال).
الصين/بنما - الولايات المتحدة/سنغافورة
تسعى الصين لتفكيك العلاقة بين الولايات المتحدة وبنما، والسلاح الذي اختارته لهذا الغرض هو "دبلوماسية الإقراض غير المشروط" المرتبطة بمبادرة "الحزام والطريق" (BRI)، والهدف الكليّ لبكين هو فكّ حصرية هيمنة واشنطن على نصف الكرة الجنوبيّ الغربيّ، فلطالما مثلت قناة بنما التي بنتها الولايات المتحدة منذ أكثر من قرن من الزمن المحور الأساس لإبراز النفوذ والدفاع عن مصالح أميركا في نصف الكرة الغربي.
وتمثل القناة رمزيةً تاريخيةً للولايات المتحدة مرتبطة بفكرة صعودها كقوةٍ عالمية ذات إمكانياتٍ تجاريةٍ وعسكرية. لذلك، ساهمت القناة في جعل الولايات المتحدة القطب المهيمن عالمياً، من خلال السيطرة على المحيطين الهادئ والأطلسي.
أمّا اليوم، فقد باتت الصين، بدخولها القناة، تهدد مكانة هذه القوة. من جهةٍ أخرى، يعدّ الدخول الصيني إلى البنية التحتية للقناة مكافئاً استراتيجياً لدخول الولايات المتحدة إلى قناة ملقا، رغم أنه ما زال في بداياته، ففي حين تعد قناة بنما ذات أهميةٍ حيويةٍ لاقتصاد الولايات المتحدة، إذ يمر العديد من الصادرات والواردات الأميركية عبرها يومياً (أكثر من 10% من إجمالي الشحن الأميركي يمر عبر القناة، و60% من التجارة البينية الأميركية يمر عبر القناة)، فإنّ أيّ اضطرابٍ في تدفق البضائع عبر قناة بنما يمكن أن يضرّ بشكلٍ مباشرٍ بالولايات المتحدة والاقتصاد العالميّ، فالصين باتت تسيطر على مدخلي القناة عبر إدارة ميناءي الدخول والخروج.
من جهةٍ أخرى، تعدّ قناة ملقا التي تمتد بين إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة بوابةً رئيسةً للتجارة الصينية الخارجية. يتم شحن أكثر من 70% من صادرات الصين من النفط والغاز الطبيعي المسال عبر مضيق ملقا، ما يجعله طريقاً مهماً لأمن الطاقة في الصين. ومع ذلك، إنّ أهميته لا تقتصر على نقل المواد الخام. ووفقاً لحسابات مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، يتم نقل حوالى 20% من التجارة البحرية العالمية و60% من التدفقات التجارية للصين عبر المضيق وبحر الصين الجنوبي، ما يجعلها أهم خط اتصالٍ بحريٍّ بالنسبة إلى الاقتصاد الصينيّ.
استراتيجية الوصول المتقدم
تحاول الصين زيادة وجودها العسكري والاقتصادي في أميركا اللاتينية وحوض الكاريبي، بما يسمح لها مستقبلاً بزيادة انتشارها العسكريّ قرب سواحل الولايات المتحدة (أقرب نقطة من الحوض تبعد 50 ميلاً فقط عن الساحل الأميركي)، في حال قررت الأخيرة دعم انفصال تايوان أو فرض حصار بحريّ على الصين في قناة ملقا وبحر الصين الجنوبيّ. أما الدول المرشحة في حوض الكاريبي لهذا الانتشار، فهي كوبا وجامايكا وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا في أميركا اللاتينية.
ومن خلال هذا التعزيز، تسعى الصين لحصد مكاسب سياسيةٍ وعسكريةٍ؛ سياسياً من خلال دعم مبدأ الصين الواحدة في الساحة الدبلوماسية، والذي يعدّ أحد أهداف وجودها المتنامي في منطقة البحر الكاريبي، إذ كانت 8 من دول حوض الكاريبي الثلاثين تعترف رسمياً بتايوان، قبل تقليص هذا العدد إلى 4 فقط بعد اعتراف جمهورية الدومينيكان بالصين رسمياً وقطع العلاقات مع تايوان، إضافةً إلى بنما ونيكاراغوا.
عسكرياً، تطمح الصين إلى تأمين وصولها الاستراتيجي على المدى الطويل إلى موارد مثل البوكسيت والنفط في أميركا اللاتينية. لذلك، تسعى لتأمين طرق التجارة عبر الكاريبي. وقد نصت خطة العمل المشتركة بين الصين وجماعة دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي على إنشاء "منتدى الدفاع" الذي سيعمل على تعميق التعاون في مكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية والانتشار النووي والتطرف.
إضافةً إلى ذلك، وفي سبيل تعزيز الحضور العسكريّ الصينيّ في حوض الكاريبي، باعت الصين أسلحةً وطائراتٍ ودباباتٍ ومعداتٍ عسكرية أخرى لعدّة دول في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، بما فيها فنزويلا والأرجنتين وبوليفيا، ما ساعد على تطوير أقمارٍ صناعيةٍ وهندسة تحكّم أرضية. وقد زارت بحرية جيش التحرير الشعبيّ الصيني العديد من الموانئ في المنطقة، وبعضها قريب من الولايات المتحدة مثل كوبا.
معضلةٌ استراتيجيةٌ صينيةٌ
تصطدم مساعي الصين لفرض وجودها في منطقة الكاريبي بعقبتين استراتيجيتين؛ الأولى هي المعاهدة المتعلقة بالحياد الدائم وتشغيل قناة بنما بين بنما والولايات المتحدة، والتي تضمن حياداً دائماً للقناة مع وصولٍ عادلٍ إلى جميع الدول ورسومٍ غير تمييزية، ويحق لدولة بنما وحدها تشغيل القناة أو الحفاظ على منشآتٍ عسكريةٍ في الأراضي البنمية.
وتحتفظ الولايات المتحدة لنفسها بحق استخدام القوة العسكرية للدفاع عن قناة بنما ضدّ أيّ تهديدٍ لحيادها. لذلك، يمكن لأيّ تهديدٍ صينيّ لحياد القناة أن ينشط القوات الأميركية من خلال هذه المعاهدة.
العقبة الثانية هي إعادة تنشيط مبادرة أمن حوض الكاريبي، باعتبارها شراكةً أمنيةً مشتركةً بدأت في العام 2010 بين الولايات المتحدة ومعظم دول حوض الكاريبي. وتعدّ هذه المبادرة الركيزة الأمنية لاستراتيجية الولايات المتحدة – الكاريبي. وقد نشطّت الولايات المتحدة هذه المبادرة منذ العام 2020 لمنع نشاط الصين الملحوظ بالكاريبي.
في النتيجة، تمثل استراتيجية الاستحواذ الصينيّ على حوض الكاريبي الحلقة الأهم في الاستراتيجية العالمية الصينية، فنجاح الصين في الوجود الدائم في منطقة الحوض وضمان التأثير في سياسات القناة الدولية يضمن لها حضوراً عالمياً مستداماً، ويشكل طوقاً استراتيجياً متقدماً في حال نشوب صراعٍ أو نزاعٍ مستدامٍ مع الولايات المتحدة، وينزع من واشنطن ورقة قناة مضيق ملقا نهائياً، والتي شكّلت لعقودٍ معضلة استراتيجيةً صينية، كما أنّه يضعف الحضور العالميّ للولايات المتحدة، فلقرنٍ من الزمن شكّل حوض الكاريبي أحد روافع القوة العالمية الأميركية.