الزُّقيطة.. حكاية الشهيد ثائر خليل مصلط "اليازوري"
خرج "ثائر" ذلك اليوم مؤمناً بأنه سيلعب مع أصدقائه في فسحة المدرسة لعبة "الزُّقيطة" المفضلة لديه. كانوا يضعون طفلاً عند حائط غرفة المدير، وينقسمون إلى مجموعتين، ثم يبدأون بالهرب.
على سريره، داخل غرفته، وضعته أمه كمحاولة أخيرة لأن يحلم ويعود النبض إلى قلبه. ربما كانت تحاور المكان الأخير قبل النبأ الأخير. كانت تنتظر أن تبتسم عيناه وتقولا لها: كانت مجرد لعبة أمي.
وضعت رأسه على الوسادة نفسها، وقامت بتغطية جسده بالغطاء ذاته. ليس هذا مجرد فكرة نبعت من الجنون أو حجم الصدمة، إذ كانت تأتي كل ليلة، وتفتح باب غرفته قليلاً، وتنظر إليه وهو نائم، فتبتسم تلك الابتسامة التي تساعد العقل على أن ينام بهدوء، وتعود إلى فراشها وتقول: "الحمد لله. إنه نائم. إنه مثل القمر، بل أجمل". تعلم أن طفلها هو الأجمل في عينيها.
هي تجربة أخيرة مثل صانع العطور الذي يمزج رائحة العنبر مع قشر الليمون ويضع قليلاً من الكحول لينتج "عطره المفضل". كانت تريد أن تفعل ما تفعله كل صباح عندما تأتي إلى سريره، وتساعده على النهوض، وتعدّ الفطور له، ثم تذهب به إلى المدرسة. ربما كانت جازمة بأنه سينهض حتماً. هي محاولة أخيرة تحمل معها أملاً بأن يقول لها: "صباح الخير ماما".
هذا هو المشهد الذي ما زال محفوراً في الذاكرة منذ اليوم الذي تزوجت فيه، وقررت إنجاب طفل تذهب به إلى المدرسة. لم يتوقف الحلم عند هذا الحد، بل كانت تريد أن تجعل منه أستاذاً جامعياً أو طبيباً أو محامياً أو مهندساً... كانت تحلم، تحلم فقط، ولكن رصاصة واحدة جعلت الحلم يموت قبل الجسد. رصاصة اخترقت القلب، فارتقى شهيداً.
أعادته إلى مكانها المفضل، تحاور الموت الممزوج باليأس، والمشبع بالقهر والظلم، والمثقل بالفقدان، المعلم الأساسي للحب. لقد كان طفلها، عشقها الأول. تشتري له أفضل الملابس حتى يكون الأكثر أناقة في مدرسته وحارته وبين أصدقائه.
أعادته إلى السرير، تخاطب الأمل بالدموع لعلّه يعود. ربما تذكرت عندما كان مريضاً أنها كانت تبكي فوق رأسه، وتضع يديها على جبينه لتقيس الحرارة، وتحاول خفضها بضع درجات، وتقنعه بأن يتناول الدواء بطعم البرتقال، في محاولة منها للتحايل عليه حتى يصبح بخير.
لكنَّ الحقيقة أنه لن يعود أبداً؛ تلك الحقيقة التي ما زالت ترفض الاقتناع بها. تتذكر القبلة الأخيرة التي طبعتها على جبينه عندما عاد من مدرسته في اليوم السابق، وتسخر من الواقع وتقنع نفسها بأنه سيعود. ولذلك تقول لمن حولها: "هو بخير. ليس جائعاً. لقد أعددت له فطيرة الجبنة المفضلة لديه".
كانت بهذه المحاولة تسخر من الموت وترفضه، وتعلن حربها عليه، وتقول له: "جئت به إلى غرفته وفوق سريره مقابل خزانة ملابسه المفضلة. جئت به رغماً عنك ليشاهد طلاء الحائط المفضل لديه؛ ذاك الحائط الذي علّق عليه أقماراً صغيرة يحاورها ليلاً ويقول لها: أنا قمر أمي المفضل، جئت به ليشاهد الصور التي علقها على أبواب الخزائن، جئت به إلى هنا، حيث كان يهرب مني عندما أغضب منه، ويختبئ تحت سريره ويبكي، وأنا أجلس فوق السرير وأنتظر خروجه حتى أحتضنه وأقول له: أعتذر ماما، أنا أحبك. لهذا أغضب عليك. أريدك أن تكون الأفضل".
خرج "ثائر" ذلك اليوم مؤمناً بأنه سيلعب مع أصدقائه في فسحة المدرسة لعبة "الزُّقيطة" المفضلة لديه. كانوا يضعون طفلاً عند حائط غرفة المدير، وينقسمون إلى مجموعتين، ثم يبدأون بالهرب.
كان ثائر بارعاً في اللعبة، إذ يستطيع أن يمسك أصدقاءه بمهارة، وكانت اللحظة المفضلة لديه عندما يستطيع التسلل إلى الحائط، ويضع لمسة على كتف، ويقول: "أحيوه". كانت تستمر اللعبة حتى يستطيع ثائر ومجموعته حجز جميع أفراد المجموعة الأخرى من الفريق المطارد، وتتحقق السيطرة الكاملة لهم في ساحة اللعبة، ويتوّجوا فائزين.
يقف أصدقاؤه عند باب منزله حائرين: أين يذهب "ثائر"؟ يشاهدون الجموع والدموع والأعلام الفلسطينية والهتافات، وربما يعتقدون أنهم ما زالوا يلعبون، ويشاركون في اللعبة، ويقتربون من جسد "ثائر" الممدد تحت العلم الفلسطيني، ويهمسون بينهم "أحيوه". يتناثرون بين المشيعين، وتلتقي عيونهم التي تقول وكأن هناك اتفاقاً ضمنياً: "أحيوه". يُوارى الجسد في الثرى، وتُنثر الورود عليه، ويبقى أصدقاؤه يرددون في ما بينهم: "أحيوه".
يمدّ ذراعيه، ويغطي تراب فلسطين، وينادي شقيقته الصغيرة ويقول لها: "لقد عدت إلى سريري الأخير"، ويصرخ لأمه يسألها: "أنتِ هنا، اقتربي أكثر، دعيني أقول لكِ شيئاً: لقد وصلت سريري الأبدي الأزلي، دعيني أغني لكِ ما كان يغني أحمد قعبور:
إذا عبروا غداً يا أمي.. إن عبروا على جسدي
ومزق فاتح كبدي بسكيني، فضميني، إلى جنحيك ضميني
وبالأهداب بالأهداب غطيني
ولا تدعي شراييني أنابيباً لمن عبروا
أعيدي صك أوراقي، أعيدي غزل أجزائي
أعيديني
ولا تدعي شراييني أنابيب لمن عبروا".