الكيان الصهيوني والهزيمة المركبة
لم تهزم المقاومة الفلسطينية "دولة" الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل هزمت معها أيضاً التحالف الغربي الصهيوني بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، أكبر قوة عسكرية في العالم.
من هنا يتجسَّسون عليّ وعليك وعلى كلّ دابّة في الأرض".
هذه العبارة كانت افتتاحية لبرنامج استقصائي عن جهاز الموساد الإسرائيلي في قناة عربية اكتسحت الساحة أواخر تسعينيات القرن الماضي، وكانت تريد من وراء مثل هذا العمل الإعلامي الموجه صناعة أسطورة الكيان الإسرائيلي وغرسها في الذهنية العربية، بهدف بثّ الهزيمة النفسية في شعوب الأمة، والوصول بها إلى مرحلة الرضوخ والاستسلام للمحتل الإسرائيلي كقدر محتوم لا سبيل إلى تغييره.
المفارقة المذهلة بحق أنّ هذا الوحش الصهيوني الأسطوري المتعوب على صناعته عبر عقود من الزمن لإرعاب الشعوب والأنظمة العربية، سقطت أعتى قلاعه الحصينة على أيدي أبطال المقاومة الفلسطينية خلال الساعات الأولى من عملية طوفان الأقصى التي أدهشت العالم بما أحدثته من تحولات جذرية قلبت الموازين رأساً على عقب، وحولت المستحيلات إلى مشاهد بطولية نادرة يراها العالم بأم عينيه، وحققت بضربة خاطفة هزيمةً عسكريةً واستخباراتيةً لم يسبق لها مثيل على امتداد الصراع العربي الإسرائيلي، قال عنها نتنياهو إنها "الأفظع على الشعب اليهودي منذ المحرقة النازية".
الأهداف المستحيلة والهزيمة المركبة
لم تهزم المقاومة الفلسطينية "دولة" الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل هزمت معها أيضاً التحالف الغربي الصهيوني بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، أكبر قوة عسكرية في العالم، فقوات الحلفاء التي وصلت إلى المتوسط تتقدمها حاملات الطائرات الأميركية "يو إس إس إيزنهاور" لم تضف إلى الكيان الصهيوني أي قوة من شأنها أن تترك أثراً يُعتدُّ به في ميدان المعركة على طريق تحقيق أهداف الاجتياح البري لقطاع غزة.
وقد تأكد بما لا يدع مجالاً للشك على مدى قرابة شهرين من القتال فشل الكيان في تحقيق أهدافه، وأنّ الاجتياح البري يحتاج إلى قوات برية نوعية، وليس حاملة طائرات، وأنّ القصف الهيستيري واستراتيجية الأرض المحروقة التي نفذها سلاح الجو الصهيوني منذ الأيام الأولى لطوفان الأقصى لم يحقق الأهداف المرسومة، بل ورّط الكيان في ارتكاب جرائم حرب بحق المدنيين الفلسطينيين وتعريته أمام الرأي العام العالمي لارتكابه أبشع مذابح عرفتها المنطقة واستنكرتها شعوب العالم.
وبدا أنّ استعادة السيطرة على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين هدفان يستحيل على جيش الاحتلال بلوغهما. أما القضاء على حماس، فهو مهمة يصفها الرئيس الأميركي بايدن بأنها "صعبة" تلطفاً ومراعاة لمشاعر حلفائه الصهاينة، لكنها في حقيقة الأمر تبدو مستحيلة في ضوء الحصيلة التي أسفرت عنها نتائج المعركة حتى اليوم.
وهنا تستوقفنا مشاهد العشرات من الدبابات الإسرائيلية المحترقة بقذائف الياسين وصمود أبطال المقاومة الفلسطينية في مشاهد أسطورية وثّقتها عدسات الإعلام الحربي، الأمر الذي أجبر كيان الاحتلال على الهروب إلى هدنة اضطرارية للملمة جراحه المتناثرة، ووقف تساقط ضباطه وجنوده في مشاهد مزّقت كيان جنرالات الحرب، وقال عنها عضو مجلس الحرب الصهيوني بيني غانتس: "الصور القادمة من المعركة مؤلمة، ودموعنا تتساقط عند رؤية جنود جفعات يسقطون".
لقد تضمّنت الهدنة القصيرة التي يتطلع الرئيس بايدن إلى إطالة أمدها إطلاق سراح 150 أسيراً فلسطينياً مقابل 50 أسيراً صهيونياً، كلّهم من النساء والأطفال دون سن 19، وهو ما يعني أن أمام كيان الاحتلال هدفاً وحيداً يمكن تحقيقه، لكن بنتيجة صفرية في أحسن الظروف، وهو إطلاق سراح باقي الأسرى من الصهاينة لدى المقاومة الفلسطينية، والذي سيقابله لا محالة إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال البالغ عددهم أكثر من 12 ألف أسير.
وبموازنة هذه المقايضة، ستكون النتيجة صفرية، إن لم تكن المقاومة الفلسطينية هي الطرف المنتصر في هذه الصفقة. ومع ذلك، يفصل كيان الاحتلال عن تحقيق هذا الهدف عملية تفاوضية بالغة التعقيد، يصفها هاغاي هداس بأنها "شبه مستحيلة في ظل هذه الحالة الطارئة"، وهو ضابط سابق في الموساد، ومشارك أساسي في التفاوض على صفقة إطلاق جلعاد شاليط عام 2011 في مقابل إطلاق سراح 1,027 فلسطينياً من المعتقلين في سجون الاحتلال آنذاك.
هنا، يبرز تساؤل محوري مفاده: ما الذي ستحتاجه حكومة الاحتلال للإفراج عن عشرات الجنود والضباط الأسرى لدى الفصائل الفلسطينية؟ وفي هذا الإطار، يقول أسامة حمدان القيادي في حركة حماس: "أما الأسرى من جنود الاحتلال، فالعدو يعرف الثمن المطلوب للإفراج عنهم"، في إشارة إلى الأسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال، وهو ما يؤكد أن إطلاق سراح الأسرى هو عملية بالغة التعقيد لا توحي حصيلتها النهائية -إن تمت- بأي انتصار لسلطة الاحتلال، وتبقى جدية الاحتلال ومدى التزامه الحقيقي بالهدن الإنسانية -وهي محل شك- مدخلاً وحيداً لتحقيق هذا الهدف اليتيم المجرد من أي انتصار حقيقي.
إنَّ الخروقات التي ارتكبها كيان الاحتلال في اليوم الأول للهدنة، والتي أدت إلى تأجيل موعد تسليم الدفعة الثانية من الأسرى، تزيح الستار عن مستوى التذمر الداخلي لدى الاحتلال الرافض لهذه النتائج التي لا تعبر عن أدنى انتصار، بقدر ما تعبر عن مستوى القوة التي وصلت إليها حركات الجهاد والمقاومة الفلسطينية، وخصوصاً حركة حماس، التي تتحرك من موقع القوة القادر على فرض مسار الهدنة الإنسانية، لا موقع من يلفظ أنفاسه الأخيرة، كما أُريد لها.
إنها هزيمة مركّبة عاد بها أمراء الحرب الصهاينة من مستنقع الاجتياح البري، لتضاف إلى الهزيمة الكبرى في اليوم الأول من طوفان الأقصى. ولا يُراد لهذه الهزائم الأسوأ في تاريخ الكيان أن تكتب نهاية المعركة الكارثية التي يخسرها الجيش الذي لا يُقهر مقابل مجموعات من المقاتلين الفلسطينيين.
إنها نهاية مدمرة بنتائجها المباشرة وبتداعياتها المنطوية على سلسلة من الهزائم المعنوية التي هشمت أسطورة البعبع الإسرائيلي، وقوضت مشاريعه في المنطقة، وجرّأت المقاومة الفلسطينية على توجيه تلك الصفعات المؤلمة إلى جيش الاحتلال الذي أصبح من الآن وصاعداً على موعد مع مفاجآت عسكرية قد تكون أشد تنكيلاً من طوفان الأقصى، وأبعد جغرافيا من مستوطنات الغلاف.
أمام هذه الحسابات الداخلية المريرة، يحاول قادة الاحتلال، وفي مقدمتهم نتنياهو المهدد بما تبقى من حياته السياسية، خلط أوراق الصراع من جديد، في محاولة بائسة لصناعة تفاعلات جديدة قد تفضي إلى توسيع جغرافيا المواجهة في الوقت الذي لا يرغب الأميركي في الذهاب أبعد مما ذهب إليه.
وفي هذا السياق، يمكن فهم حديث رئيس أركان الجيش الصهيوني: "سنستأنف مهاجمة غزة فور انتهاء الهدنة"، وإعلان جيش الاحتلال المصادقة على استئناف الحرب على غزة، وهو ما يشير إلى أن الأسابيع القادمة قد تحمل مفاجآت لم تكن في الحسبان، كمفاجآت طوفان الأقصى إن لم تكن أشدّ.