الدور الفرنسي في لبنان: مصادرة القرار ومحاولة فرض انتصار وهميّ لـ "إسرائيل"
تؤدي دوراً دعائياً لا أكثر في لبنان، مستندةً بذلك إلى علاقاتها التاريخية مع لبنان، غير أن هذه العلاقة تلاشت بعد انكفاء الدور الفرنسي في المنطقة،
ترتبط الظاهرة السياسية في شكلٍ أساسيٍ بالظاهرة الإنسانية، لجهة خصائصها وعلاقاتها بالمجتمع والمؤسسات السياسية الداخلية والخارجية، لذا لشخصية القائد في أي دولةٍ في العالم، دور مهم في صنع القرار وتوسيع مساحة حريتها في هذا الشأن، خصوصاً في السياسية الخارجية. ومن أبرز هذه الظواهر الإنسانية في المرحلة الراهنة، الرئيس التركي رجب الطيب إردوغان، فهو "ابن الناتو"، وفي المدار الأميركي، غير أنه تمكّن من توسيع حرية تركيا في اتخاذ بعض القرارات في السياسة الخارجية وسواها، ضمن الدائرة الواحدة، أو الحلف السياسي الواحد.
كذلك الأمر بالنسبة لولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، الذي استطاع أن يحدث تطويراً في بلاده، تحديداً لناحية التخلّص من بعض الموروثات الاجتماعية.
والحال عينه ينطبق في الولايات المتحدة وفرنسا اللتين تولّى الحكم فيهما رؤساء مختلفون من حيث الحضور والدور، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فالرئيس الأميركي الأسبق أبراهام لنكلون (1865-1861) الذي أعاد توحيد البلاد التي قسّمتها الحرب الأهلية بإصداره إعلان تحرير العبيد عام 1863، بالتأكيد ليس كالرئيس الحالي جو بادين وسلفه دونالد ترامب.
كذلك الأمر بالنسبة للرئيسين الفرنسيين السابقين شارل ديغول الذي قاوم الهيمنة الأميركية، وسحب فرنسا من حلف "الناتو"، واعتبر أن هذا الإجراء، هو "معركته" الأخيرة، وجاك شيراك الذي كان لديه رأيه المتمايز عن مواقف الولايات المتحدة وتوجّهاتها، تجاه الممارسات "الإسرائيلية" في لبنان في تسعينيات القرن الفائت.
على عكس الرئيس الراهن إيمانويل ماكرون الآتي من عالم الأعمال إلى الرئاسة، والخاضع في شكلٍ تامٍ للإدارة الأميركية، ولا سيما في سياسته الخارجية، التي وصلت إلى حدٍ تحوّلت فيه إلى مجرّد صدىً للسياسة الأميركية ليس إلّا. أي لا سياسة خارجية فرنسية مستقلة، بل إن الدبلوماسية الفرنسية باتت تنفّذ الإملاءات الأميركية، خصوصاً في ضوء وجود الحكومة الراهنة، التي يحمل أكثر من نصف أعضائها الجنسية "الإسرائيلية" إلى جانب الفرنسية، بحسب تأكيد مصادر فرنسية واسعة الاطلاع.
وسط هذا الواقع الفرنسي المرير، تحاول باريس أن تؤدي دوراً دعائياً لا أكثر في لبنان، مستندةً بذلك إلى علاقاتها التاريخية مع لبنان، غير أن هذه العلاقة تلاشت بعد انكفاء الدور الفرنسي في المنطقة، ونسجت بعد القوى في الشارع الماروني علاقات مع الولايات المتحدة مباشرةً، كذلك مع بعض الدول الخليجية، كحزبي "القوات اللبنانية" و"الكتائب".
هذا الأمر دفع الجانب الفرنسي إلى السعي لإقامة علاقات جديدة مع أهل السنة والشيعة، لما لهاتين الطائفتين من ارتباط بدول الخليج ومحور المقاومة تحت عنوان "مساعدة لبنان لإنهاء الشغور الرئاسي"، ما قد يسهم في تعزيز الدور الفرنسي في المنطقة، من خلال تعزيز مختلف العلاقات الفرنسية مع الجانبين الإيراني والخليجي، تحديداً على الصعيد الاقتصادي، بعد ضمور النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية.
ولهذه الغاية، أوفد ماكرون موفده الخاص إلى لبنان الدبلوماسي جان إيف لودريان، الذي خاض أربع جولات من المحادثات مع المسؤولين اللبنانيين، في محاولة منه لتقريب وجهات النظر بينهم، والبحث عن جوامع مشتركة، من أجل التوافق على انتخاب رئيسٍ مقبلٍ للجمهورية، ولكن بلا جدوى. وجاءت جولة لودريان الأخيرة والرابعة، لتؤكّد حقيقة ما ذكر آنفاً، لجهة الخضوع الفرنسي الكامل للأميركيين، وعبّر الموفد الفرنسي بوضوح أنه لا يمثّل فرنسا فقط في جولة محادثاته الأخيرة فحسب، بل أنه يمثّل اللجنة الخماسية الخاصة بلبنان المؤلفة من ممثّلين عن الولايات المتحدة، السعودية، مصر، قطر، وفرنسا.
ومن دون أن يقيم لودريان أيّ احترام للسيادة والقوانين اللبنانية، تدخّل في شكل سافر في الشأن الداخلي، مطالباً المعنيين في الدولة اللبنانية، مخالفة القانون، والتمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون، على اعتبار أن وجوده في سدّة المسؤولية، فيه حاجة ومصلحة للغرب، لمنع هجرة النازحين السوريين إلى أوروبا، وتنفيذ القرار الأممي 1701، تمهيداً لإقامة "منطقة عازلة" في الجنوب اللبناني، لتأمين حماية المستوطنات الصهيونية في شمال فلسطين المحتلة.
فبدلاً من أن تكون فرنسا إلى جانب القضايا الإنسانية المحقّة، فتساعد على حل أزمة النزوح السوري إلى لبنان، من خلال تأمين حياة كريمة للنازحين إلى ديارهم، ومساندة لبنان في حقّه في الدفاع عن أراضيه وتحرير الجزء المحتل منها، أبدت باريس من خلال أداء لودريان في جولته الأخيرة، انصياعاً للإرادة المشتركة الأميركية-الإسرائيلية، فجاء محاولاً أن يفرض الإملاءات الأميركية-الصهيونية على لبنان، وكأنّ الحرب مع العدو الإسرائيلي، حسمت لمصلحة الأخير.