إردوغان على أبواب الانتخابات البلدية: سلطانٌ يحمل السلّة
قام إردوغان باستدعاء سفير بلاده من "إسرائيل"، لكنه استمرّ بتوسيع قاعدة العلاقات التجارية والاقتصادية والسياحية معها، والتي لم يجد وزير تجارته من سبب لتراجعها سوى مستجدات الحرب في غزة.
لعلّ الموقف الوحيد الذي أطلقه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والحامل لشروط الاشتباك السياسي مع حرب غزة، هو الموقف الذي أدلى به خلال قمة العشرين الأخيرة، حين أبدى استعداد بلاده لتأدية دور في الهيكل الأمني لغزة، فيما اصطلح على تسميته لاحقاً "اليوم التالي للحرب"، وتخفيفاً من ضبابية الطرح وعموميّته، راح يتحدّث عن آلية "الدول الضامنة"، وهي الدول التي تكفل التزام طرفي النزاع بشروط التهدئة وما يعقبها من تسوية سياسية.
وبالرغم من هذا الشرح المعزّز بأرقام تجارية واقتصادية تؤهّل تركيا لتأدية دور الضامن حيال "إسرائيل"، مضاف إليها في المقلب الآخر العلاقة التي تربط حكومة إردوغان وأجهزة استخباراته بحماس، إلا أن هذه الآلية لم تحجب عناصر ضعفها التي تسقط عنها صفة المبادرة السياسية الرصينة، إلى توصيفات تتراوح بين الحيرة وانعدام الرؤية إلى الانتهازية التي طبعت سياسة حكومات السيد إردوغان المتعاقبة.
فصحيح أن حجم التجارة بين تركيا و"إسرائيل" بلغ العام الفائت، وبحسب وزير التجارة التركي، تسعة مليارات وأربعمئة مليون دولار أميركي. وصحيح أنّ 60% من النفط الذي يصل "إسرائيل" مصدره تركيا، إلا أن هذا لا يحجب حقيقة أن حكومة نتنياهو وضعت سقفاً عالياً لعملياتها، هو القضاء على حماس وبسط هيمنتها على القطاع بأكمله، وهي لا تزال تسعى لتهجير سكانه إلى دول عربية وأفريقية على ما تناقلته وسائل الإعلام عند كتابة هذا المقال، وعلى ما نفته حكومات رواندا وتشاد المعنية بهذا الطرح، وأبقت حكومة الكونغو الباب مفتوحاً للنقاش. أما لناحية علاقة حماس بتركيا ورئيسها فلا أدلّة على عمقها.
الزيارة التي قام بها رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية إلى أنقرة ولقاؤه الزعيم التركي بُعيد طوفان الأقصى إشارة واضحة الدلالة لناحية "المونة" التركية، لكن استكمال الصورة يستدعي القول إن تركيا، وبالرغم من عمق العلاقات مع حماس "الخارج" التي أوصلتها لحدود الهيمنة على فروع الإخوان المسلمين في أغلبية دول انتشارهم، إلا أن هذه العلاقة لم تسمح لها بأي خرق أمني يحضّر الأرضية للاطلاع على جانب من جوانب الإعداد لعملية طوفان الأقصى التي أعدّت لها حماس "الداخل".
إضافة إلى أنّ هذه العلاقة المتشعّبة لم تمنع تركيا من الطلب إلى الشهيد العاروري ورفيقيه سمير فندي وعزّام الأقرع مغادرة الأراضي التركية، حيث كانت إقامتهم لديها تؤمّن لهم حصانة حيال أيّ عملية اغتيال قد يتعرّضون لها من قبل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، علماً أن أجهزة المخابرات التركية كانت أول من أطلق التحذير من إمكانية تعرّض شخصية حمساوية في لبنان لعملية اغتيال وذلك قبيل خمسة أيام على العملية التي استهدفته، والتي أعقبتها حملة اعتقالات تركية لعناصر قيل إنها تعمل لمصلحة الموساد.
مبادرة أم انتهازية؟
لم يقتصر موقف إردوغان من حرب غزة، على ما جاء على لسانه أثناء قمة العشرين حول "آلية الدول الضامنة"، بل عزّزها بسلّة مواقف متناغمة ومتكاملة مع طرحه الذي لا يخفي أن مبعث انزعاجه الشديد من مبادرة الرئيس الأميركي بايدن المعنونة "الممر الهندي للتجارة"، والذي قرأ فيه إردوغان خطوة تأتي استكمالاً لسياق إبعاد تركيا عن أي دور أو نفوذ في مسار هذا الممر.
وبالرغم من الاتفاقيات التي سبق له أن أبرمها مع العديد من دول الخليج، واستكمالاً لهندسة أدوار في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط من قبل الإدارة الأميركية وإطلاق هيكليات لا حضور لتركيا فيها، واستيفاءً لشروط "الدولة الضامنة" رفض إردوغان ابتداءً وصف حماس بالمنظّمة "الإرهابية".
بالمقابل وصف إردوغان نتنياهو بمجرم الحرب، وتنبّأ له بمصير زعيم نازيي ألمانيا، لكنه امتنع عن وصف الكيان الإسرائيلي بما نعت به رئيس وزرائه. كما قام إردوغان باستدعاء سفير بلاده من "إسرائيل"، لكنه استمرّ بتوسيع قاعدة العلاقات التجارية والاقتصادية والسياحية معها، والتي لم يجد وزير تجارته من سبب لتراجعها سوى مستجدات الحرب في غزة.
لكنْ يبدو أنّ لمقاربة "الدولة الضامنة" شروطاً غير معلنة بشكل رسمي. فما امتنع عن تفصيله إردوغان، قاله الأميرال جهاد بابجي رئيس أركان القوات البحرية التركية السابق وواضع نظرية "اتفاقية ترسيم حدود الصلاحيات البحرية"، البديل التركي الترويجي عن قانون البحار.
فالأميرال بابجي دعا السلطة الفلسطينية إلى توقيع اتفاق ترسيم حدود بحرية مع تركيا بعدما نظر من بحر أنطاليا فرأى غزة من دون أن يلمح قبرص بينهما. ويحمل طرحه، على ما قال، عناصر إغراء ذاتية وهي أن المنطقة البحرية لغزة ستتضاعف عشرين مرة. إضافة الى أنه إثبات تاريخي أن هذه السواحل ملك لفلسطين.
خلاصة كلام الأميرال أنّ التطبيق العملي لمبادرة الدولة الضامنة على غزة هو استنساخ للتجربة التركية في قبرص التركية، بما يعنيه ضمناً اتخاذها مدخلاً عكسياً لركوب قطار الممر الهندي، وتطوّعاً لحماية المصالح الأميركية الكبرى هناك الساعية ليكون غاز المتوسط بديلاً لأوروبا عن الغاز الروسي، مقابل زيادة الحدود البحرية التركية في شرق المتوسط بما يستنبطنه من ثروات، في استمرار واضح لنهج الانتهازية ومراكمة المكاسب القومية لتركيا على حساب أي شيء.
إلى أوروبا درّ بتمويل إماراتي
كلّ هذه الحسابات والمبادرات التركية فرمل اندفاعاتها الموقف الأميركي الذي تحدّث عنه إردوغان بعد لقائه الأخير بالرئيس الأميركي حين نقل عن الأخير رفضه البحث في ترتيبات ما بعد الحرب على غزة، أقلّه معه.
وهو موقف منسجم مع استراتيجية أميركية في محاصرة طموحات تركيا في شرق المتوسط. هذا الانسداد في الأفق التركي الممتد من سوريا مروراً بغزة وصولاً إلى مصر دفع بإردوغان لتشغيل محرّكات بحثه في الملفات الأوروبية، خاصة وأن الاشتغال على تلك الملفات من شأنه أن يشكّل عاملاً داعماً لمرشّحه لرئاسة بلدية إسطنبول، المدينة ذات الهوى الأوروبي.
توجّه إردوغان إلى ألمانيا الدولة المحورية في الاتحاد الأوروبي، لصعوبة أن يبدأ من فرنسا، مذكّراً بإنجازه الدبلوماسي الأشهر بإبرام اتفاقية الحبوب مع روسيا، وبأن بلاده تحتفظ بأكبر جالية في ألمانيا لطالما كان تنظيم وجودها مصدر قلق للعلاقات بين البلدين، وبالطبع لا ينسى أن يطلق بعض المواقف الشعبوية اللازمة والموجّهة إلى شعبيته في الداخل التركي وخارجه حين علّق على سؤال أحد الصحافيين بشأن شراء طائرات ألمانية، علّها تعوّض خساراته المؤكّدة بسبب مواقفه الخطابية التي لم تقترن بأي إجراء ولو تحفّظي حيال حرب غزة.
ولأنّ اليونان هي مفتاح الاتحاد الأوروبي وقِفلُهُ، طوى صفحة تهديداته لها باجتياح ليلي، العبارة الأكثر إثارة من اجتياح نهاري. وتسابق ورئيس وزرائها على إطلاق المواقف التطمينية المتبادلة، وأقرّ الطرفان بحقّهما باقتسام ثروات بحر إيجه وأرجآ البحث في كلّ النقاط الخلافية إلى وقت آخر. بدوره أعلن الاتحاد الأوروبي عن توجّه لإحياء الحوار مع تركيا حول القضايا السياسية والاقتصادية وقضايا الهجرة واللاجئين.
وبرّأ تقرير المفوضية الأوروبية تركيا من تهمة التنقيب في بحر إيجه، مذكّراً بأهمية الحوار معها لوجودها في مناطق صراع متصلة بأمن أوروبا من أذربيجان إلى العراق وسوريا وليبيا. هذه الأجواء الإيجابية التي خيّمت على العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، مهّدت لها حكومة الطيب بسلسلة تنازلات ابتدأت بملف الهجرة غير الشرعية، مروراً بوقف أعمال التنقيب، وصولاً إلى القيام بمبادرات دبلوماسية تصبّ في مصلحة شعوب الاتحاد الذي لا يزال يرفض انضمامها إليه.
لكن ماذا كان يريد "حامل السلّة التركي" الممتلئة بالمواقف الإيجابية حيال الاتحاد الأوروبي؟ الجواب نجده فيما انتهت إليه نتائج المحادثات بين تركيا وصندوق أبو ظبي للتنمية باتفاق على تشييد خط سكة حديد فوق مضيق البوسفور، يعبر جسر السلطان يافوز سليم المعلّق، وهو جزء من "الممر التنموي" الذي يربط أوروبا بالشرق الأوسط وآسيا عن طريق ميناء الفاو العراقي ومنه إلى تركيا كبديل تجاري عن قناة السويس.
لا يهمّ سلطان تركيا إن وضعت فرص تحقّق هذا المشروع على طاولة البحث أم لم توضع، ما يهمه أنه بات قابلاً للتوظيف في انتخابات محلية، وتحديداً معركة استعادة عاصمة السلطنة من منافسيه بتقديم نفسه وحزبه على أنهم جعلوا من تركيا شرطيّ مرور خطوط التجارة العالمية، وإن عكّرت مباراة "كأس السوبر التركية" التي كان يفترض أن تقام في عاصمة المملكة السعودية هذه الأجواء المفتعلة وأخذت الانقسام مجدداً إلى حيّزه الأول، علماً أنّ جغرافيا تركيا هي التي صنعت لها هذه الوظيفة على هذا الخط وسواه من الممرات الواصلة للبحر الأسود ومستقبلاً خط بكين لندن إن لم تتغيّر هذه الجغرافيا.
قارب من أجل غزة
وبين غزة واليونان مسافة كافية لتبيان أنّ "السلّة السلطانية" لا تتسع لغير المشاريع التجارية، إن تحقّقت، وأنّ بحر أنطاليا اتسع لرؤية واضحة لخط مستقيم يربطه ببحر غزة، ولم يتسع لاستعارة، لمرة ثانية، لفكرة قدّمها سارتر للرئيس الفرنسي جيسكار ديستان بعنوان "قارب من أجل فيتنام"، أسمتها تركيا يوماً ما "سفينة مرمرة".