وليد دقة.. بين الحياة والميلاد
المقالات والشروحات عن حياة وليد دقة وعمله النضالي لا تنتهي، ولكن، يبقى السؤال، كيف يمكن أن تختزل حياة قرابة 40 سنة في كلمات؟ أو كتب؟ أو حتى مجلدات؟
"نحن جزءٌ من التاريخ، والتاريخ كما هو معروف حالة وفعل ماضٍ انتهى، إلا نحن ماضٍ مستمر لا ينتهي… نخاطبكم منه حاضراً حتى لا يصبح مستقبلكم."
الأسير الشهيد وليد دقة
في عام 1986، تم اعتقال الرفيق وليد دقة على إثر عملية خطف واغتيال الجندي موشي تمّام. وحينها، تم الحكم عليه بالإعدام، ثم تحوّل الحكم إلى السجن لمدة 37 عاماً. وفي 2018، تمت إضافة سنتين إضافيتين إلى الحكم بعد اكتشاف ضلوعه في تهريب هواتف نقالة إلى الأسرى داخل السجن.
المقالات والشروحات عن حياة وليد وعمله النضالي لا تنتهي، ولكن، يبقى السؤال، كيف يمكن أن تختزل حياة قرابة 40 سنة في كلمات؟ أو كتب؟ أو حتى مجلدات؟ ومن لديه المعجم اللغوي الفصيح بما يكفي ليقول: أنا أحدثكم عن وليد؟ أنا أعطيكم الصافي عن أبو ميلاد؟ وطوال السنين التي مضت، وليد هو من كان يعطينا الأجوبة التي كنا نبحث عنها، ويبهرنا بفصاحة لسانه، وعناده الجبار، وعزمه الدائم… فهو الوليد فينا.
وليد والقلم - أينما وجدتم طريقاً للنضال اسلكوه
"أكتب حتى أتحرر من السجن على أمل أن أحرره مني… وإلى كل الأطفال الذين أصبحوا رجالاً ونساءً بالغين قبل أوانهم."
- حكاية سر الزيت
خلال السنوات التي قضاها الشهيد دقة في معتقل الاحتلال، حصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية. وألّف عدداً كبيراً من الكتب والروايات، وكتب العديد من المقالات حول الواقع الفلسطيني، والمشهد السياسي، والنسيج الاجتماعي الفلسطيني بالتحديد تحت الاحتلال.
من بين هذه المؤلفات، تخرج "حكاية سر الزيت" لتُظهر أهمية الكلمة حين نضعها في سياقها الصحيح؛ إذ بعد تأليفها تعرّض وليد للتنكيل والإجراءات القمعية في السجن، ومُنعَت عنه زيارات الأهل وفُرضَت عليه غرامات مالية، لينتهي به الأمر بالعزل الانفرادي، عقاباً على جرم بسيط: خلق الوعي في الفئة الأكثر خشية لدى الاحتلال وهم الأطفال. إذ تخاطبهم حكاية "سر الزيت" بلغة بسيطة يفهمونها، لتخلق لديهم تساؤلات عدة، أولها عن الكاتب، وظروف كتابته للقصة، فلا يعرفون وليد دقة فحسب، بل يتشكل لديهم وعيٌّ كامل بماهية السجن والسجان، وتُبنى علاقة صحية بينهم وبين الواقع قائمة على رفض الظلم، والنضال، والاستمرارية، وهو بكلمات بسيطة كابوس حقيقي يخشاه الاحتلال.
في عام 2016، حينما تم عرض مسرحية "الزمن الموازي" التي ألّفها وليد دقة في مسرح "الميدان" في حيفا المحتلة، أغلق الاحتلال المسرح، وتلته حملة تحريض ضخمة تجاه وليد من قبل الإعلام الإسرائيلي.
تتناول المسرحية حياة الأسرى بشكل خاص، وتضع قضيتهم على الطاولة، وتقول للعالم: حرية الإنسان الحقيقية تقبع خلف القضبان، ثمناً للموقف الذي لا ثمن له. تعيد المسرحية إلى الأسرى إنسانيتهم، إذ تتحدث عن أحلامهم البسيطة، كالذهاب إلى السينما أو زيارة البحر، وهي الأنشطة العادية، والاعتيادية، إذا سمحت الحواجز وساعات التفتيش وبنادق "الجيش" لك بالمرور. وأولئك الذين لم يرضوا بأن تُسلب كرامتهم منهم، فرفضوا الحاجز، والتفتيش والبندقية الموجهة إليهم، دفعوا الثمن باهظاً خلف الزنازين، محرومين من إنسانيتهم.
يكتب دقة المسرحية بقلم الأسير الإنسان، المشتاق إلى الهواء النظيف وصوت الأمواج، وفي هذا رمزية مهمة، وهي تخلّي الأسير -الإنسان-عن رفاهية الحياة العادية والإنسانية الطبيعية، في سبيل قضية أهم، وهنا عرف وليد كيف يخاطب الإنسان العادي أيضاً، الذي دفع ثمن التذكرة وجلس على مقعده يشاهد المسرحية كأي عمل فنيّ آخر.
لكن، أصرّ وليد على ألا تنتهي المسرحية في عقل المشاهد عند إغلاق ستار المسرح، بل أن تظل في عقله حتى بعد خروجه منه، وعودته للعشاء، ليفكر بالحياة الطبيعية، وثمنها، في بلاد لا حياة طبيعية فيها.
وليد الإنسان
إن النظر إلى الفلسطيني السياسي على أنه ضحية ثانوية للاحتلال ضربٌ من الجنون. نعم، الاحتلال يطمح لتحطيم الوعي السياسي في النسيج الفلسطيني على وجه الخصوص ليوفر على نفسه جبهةً كاملة من الحرب. واستخدم في هذا أساليب عدة، كان أبرزها تدجين المؤسسات الثقافية والتعليمية في الداخل والضفة، بدءاً من المناهج التعليمية في المدارس والجامعات، وصولاً إلى الأيديولوجية المعتمدة.
هذا كله صحيح وواقعي إلى أبعد الحدود. بيد أن لوليد نظرة أشمل. كان وليد منتسباً إلى العمل الفدائي المقاوم، والسياسي بالضرورة، طوال حياته قبل السجن، وعمل في الكتابة السياسية أيضاً أثناء الاعتقال، بيد أنه كان يؤمن أن الاحتلال يودّ قتل الإنسان فينا قبل كل شيء.
قد يختلف الجمع بتفسير المقصد، لكنني أرى أنه كان مقتنعاً بحقيقة أن الاحتلال يريد التخلص من الوجود الفلسطيني ككل. سواءً قضيت حياتك في المكاتب السياسية أم في مكتب محاسبة، سواء كنت تنتمي إلى فصيل أو لا تعلم معنى كلمة فصيل أصلًا، سواء كنت ترى القضية وطنية، عقائدية، سياسية، أو وجودية أو تركت البلاد والقضية وراءك ورحلت إلى ما بعد بلاد الرافدين، أنت مستهدف. أنت مستهدف لكونك تحمل دم الشهداء من أسلافك، ولكونك تُبقي على وجود الإنسان الفلسطيني على هذه الأرض.
فكان طموح دقة خلال سنوات بلغت 38، هو أن يُبقي على إنسانيته التي لم يدع الاحتلال فرصةً لإهانتها إلا واستغلّها. ليكون الإنسان البسيط، ابن البلاد، الفلسطيني الفلاح الذي يحمل سلة الزيتون على رأسه في موسم القطف والعصر في تشرين الأول، دلالةً على الوجود، عصياً على النسيان، وعصياً على المحو.
ميلاد المعنى التام
قصة ميلاد يتحدث عنها القاصي والداني. الطفلة التي جعلت من اسمه جملةً مفيدة وأعطته معنىً تاماً: "ميلاد وليد دقة". قام وليد بتهريب نطفة من السجن، لتكون هي ميلاد، المعجزة الحقيقية التي لم تستأذن السجّان للظهور، وهي أيضاً ابنة الناشطة سناء سلامة، وقد أتت إلى الحياة معلنةً تمردها على الواقع في عام 2020.
تصف سناء سلامة تجربة النطفة المهربة بأنها كانت نضالاً حقيقياً. من قبل الولادة، وكان لميلاد ملف عند الشاباك الإسرائيلي، لتكون بذلك الطفلة الوحيدة، بل وأيضاً الإنسان الوحيد، الذي يحمل ملفاً لدى الشاباك قبل ولادته. وبعد مجيء ميلاد للحياة، بدأت جولة أخرى من التنكيل بسناء ووليد، عقاباً لهما على تحدي رغبة السجان. إذ رفضت سلطات الاحتلال تسجيل ميلاد باسم والدها، الأمر الذي اضُطر سناء إلى خوض حروب مع وزارة الداخلية وحكومة الاحتلال لاستخراج أوراق ثبوتية.
إن النموذج التي تصنعه هذه الطفلة التي تبلغ اليوم الرابعة من عمرها يصف موقف الفلسطيني أمام الاستعمار طوال العقود الماضية. فهي تعبّر عن إرادة وليد وعناده أمام غطرسة الاحتلال بجميع ما يحمل، من قوانين لا شرعية، وتهجير، وتنكيل، ودبابات، ومحاكم شكلية، وسجون كثيرة في طول البلاد وعرضها، واقتحامات وإعدامات. كأن وليد يقول من خلال ميلاد: لا الزنازين ولا القيود تمنع الحياة عني، ولا سنين من الاعتقال تسلبني حقي في أن أعيش. فأنا أصبح لي ميلادٌ جديد، تدخل القلب، وتعرف والدها من وراء الزجاج، لكنها تعيش، كي أعيش أنا سنين طويلة، كي تحكي قصتي، وكي استمر بالروح ذاتها، في جسدٍ آخر.
الوداع يا وليد
"أعترف الآن وفي عامي العشرين من الأسر بأني ما زلت لا أُحسن الكراهية، ولا الخشونة والفجاجة التي قد تفرضها حياة السجن. أعترف بأني ما زلت إنساناً ممسكاً على حبه قابضاً عليه كما لو كان الجمر، وسأبقى صامداً بهذا الحب، فالحب هو نصري المتواضع والوحيد على سجاني."
- رسالة للشهيد وليد دقة بعد 20 عاماً من الأسر
غادرنا وليد دقة في السابع من نيسان/ أبريل عام 2024، بعد صراع مع السرطان استمر لسنوات، وإهمال طبي متعمد من قبل الاحتلال، حتى ارتقى شهيداً في مستشفى "أساف هروفيه". لوليد إرثٌ لا ينتهي، وحياة ثرية، وروحٌ خالدة. ترك لنا مجموعة من الأعمال المهمة، مثل يوميات المقاومة في مخيم جنين 2002، صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب، حكاية سر الزيت، الشهداء يعودون إلى رام الله، بالإضافة إلى العديد من المقالات أبرزها: ميلاد: اكتب لطفل لم يولد بعد، حرر نفسك بنفسك، والسيطرة بالزمن.
في كل محطة من حياة الفلسطيني، تُبذَل التضحيات، بيد أن تضحية وليد كانت كبيرة؛ قرابة الأربعين عاماً لم يرَ فيها شمس الحرية، لم يصافح رفاقه، ولم يحضن ميلاد خارج الزنزانة. هي حياةٌ اختارها ودفع ثمنها عمره، وترك وراءه الجموع محتارة، كيف نجتر أحزاننا ونكمل المسير؟ كيف نضغط على الجرح لنصل إلى النهاية؟ ومن يقوى على المتابعة وهو يحمل على أكتافه حملاً ثقيلًا من دم الشهداء وتضحياتهم؟
فيأتينا صوته واضحاً من بين الأسئلة: "حكايتنا لم تنته. لكل الحكايات بداية ونهاية، إلا حكايتنا؛ لم نكتب لها نهاية بعد. فحين يتحول وطن بكامله سجناً ويكتفي الناس بالمشاهدة نخشى أن نصبح فرجة وصندوق عجب يكرر نفسه، ويغدو المشاهدون زنازين متنقّلة حتى لو اعتقدوا أنهم أحرار. فحذارِ أن تصبحوا أنتم زنازين مغلقة." فتخسروا… فنخسر كل ما بُذل.
إلى روح الشهيد الحي، الرفيق الصلب، وليد نمر دقة… الخلود حيث الزنازين وهم والحرية هي المطلق.