هاكان فيدان وزير برتبة خليفة
يجيد هاكان فيدان توظيف الوسائل الإعلامية، ولا سيما الرقمية منها، في صناعة الزعامة وله باع طويل في ذلك.
من يتابع وسائط التواصل الاجتماعي التركية، وما يتسرّب منها، يلاحظ أن تحرّكات هاكان فيدان وطبيعة هذه التحرّكات، تتجاوز مهامه كوزير للخارجية، بل لا تمّت إليها بصلة. فالزيارات الميدانية التي يقوم بها الرجل، والتواصل المباشر مع الشارع في غير المواسم الانتخابية، وتصدير هذا النشاط تمهيداً لنقله عبر السوشيل ميديا، كلّها مؤشرات على أن الرجل يتحضّر لمهمة هي أبعد من مهمته كوزير للخارجية، وبخاصة إذا ما عطفنا كلّ ذلك على أن هذه الولاية هي الولاية الرئاسية الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
صحيح أنّ ما بثّ حتى الآن لا يترك انطباعاً أن هاكان فيدان يملك نسبة عالية من سحر شخصية إردوغان، إلا أن ما نشر يقول إن الرجل بدأ يسلك مسار الاستعداد لخلافة رئيسه، وأنه يملك من شروط استحقاق ذلك السياسية الكثير بحيث بات شخصية مقروءة، فالرجل خرج من المؤسسة العسكرية وانتدب لمهام في الناتو، وكان من صنّاع هذه الأجندة التركية التي ترى إمكانية تحقيق أهدافها على ضفاف مصالح الغرب في المنطقة، وزعيمته الولايات المتحدة الأميركية.
وذلك بعدما حوّلت هذه المصالح الغريبة رؤية أحمد داوود أوغلو لإنعاش المجال الحيوي التركي إلى وزن من أوزان الشعر الحديث، فهو من أصحاب القناعة أن الظروف الآن لا تسمح بيقظة الجيوبوليتك لدولته، كما سائر دول الإقليم، إلا أن هذا الأمر لا يحول دون خلق وضعيات تمهيدية لها.
هذا إضافة إلى النجاح الملفت الذي حقّقه حين تولّى إدارة الاستخبارات التركية، وبخاصة على صعيد العمليات الخارجية، مستفيداً من الحضور المركّز لحركات الإسلام السياسي في تركيا من كل أقطار العالم الإسلامي. فسياسة "فتح الأجواء والهواء والنشاط" لتلك الحركات جعل منها مصدراً لا ينضب من المعلومات عن أقطارها وعلى المجالات كافة، الأمر الذي عزّز، لا بل أصاب قطاع المعلومات بتخمة لم تساعده في كثير من الأحيان على تحليلها بشكل دقيق.
أما عن كاريزما الرجل، فتقول مصادر خاصة إن تظهير كاريزما إردوغان في وسائل الإعلام، بحيث بات تحليلها مفتاحاً لشخصيته لا بل لمجمل السياسة الداخلية والخارجية لتركيا، كانت بإشراف رئيس استخباراته السابق ووزير خارجيته الحالي، وبالتالي فإن السيد فيدان يجيد توظيف الوسائل الإعلامية، ولا سيما الرقمية منها، في صناعة الزعامة وله باع طويل في ذلك، وإن تظهير كاريزما الرجل وسحره الخاص من المبكر الحديث عنه، خاصة وأننا ما زلنا في العشرية الأولى من الولاية الأخيرة لإردوغان. لكنّ السؤال: هل يكفي ما سبق كأوراق تقدّم لخلافة أبرز شخصية في تاريخ تركيا الحديث بعد أتاتورك؟
الجواب بالطبع لا، فالسيد فيدان سيطرح أوراق اعتماده من خلال إدارته للعديد من الملفات الداخلية والخارجية، لعل أبرزها حتى الآن: الأزمة الكردية الحدودية، وموانئ البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى ملف النازحين السوريين.
وأما عن الأزمة الكردية على طول الحدود المشتركة مع تركيا، فهي مفتاح الولوج إلى علاقات تركيا بكل من العراق وسوريا. لقد ذهب السيد فيدان إلى العراق متأبّطاً ملف المياه، ومرتكزاً إلى الحاجة المتزايدة للعراق لحل هذه المشكلة، لكنّ عين الرجل كانت على مسألتين، بعد أن تجاوز الثالثة، وهي حصة الشركات التركية في إعادة إعمار المناطق المهدّمة بفعل الحرب في العراق.
المسألة الأولى هي تجاوز نتائج القرار الذي صدر عن غرفة التجارة الدولية القاضي بإلزام تركيا بدفع مليار ونصف المليار دولار كتعويض للحكومة العراقية، بسبب سماح الحكومة التركية لإقليم كردستان بنقل نفطه عبر خط أنابيب، وتصديره عبر ميناء جيهان التركي. وإثارته هذا الموضوع لا بل حتى توقيته لزيارة بغداد جاء على أثر "الزيارة المناورة" التي قام بها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى دمشق، والتي تردّدت معلومات أنه بحث خلالها قضية إحياء خط بانياس لتصدير النفط العراقي، إلا أنه اشترط على الحكومة السورية تصليح هذا الخط داخل أراضيها، ولعل هذا الشرط هو الذي أفهم من يعنيهم الأمر أن هذا الموضوع ليس أكثر من مناورة، خاصة وأنها تتجاوز الخطوط الحمر الأميركية.
والمسألة الثانية تنسلّ من الأولى، إذ بمعالجة الأولى يكون قد أعاد الاعتبار لوظيفة حكومة إقليم كردستان العراقية، وهي الجهة الأكثر موثوقيّة لدى رئيس الدبلوماسية التركية، الذي يرغب بنقل العلاقة بين دولته والكرد من المواجهة إلى تسهيل السيادة على الكرد، حيث جيّرت له الولايات المتحدة جزءاً من ثقته بها، وبذلك يكون قد افتتح مقاربة تركية جديدة للمسألة الكردية تمشي على ضمان الرؤية الأميركية.
هذه الاستراتيجية الجديدة سنرى إرهاصاتها أيضاً في سوريا، فبعد استراتيجية "التخندق" واقتسام الساحات، يبدو أن تركيا متجهة إلى اعتماد سياسة في سوريا عنوانها "سلام على صفيح ساخن". فتركيا اليوم تتحضّر لإغراق مناطق نفوذها بالجزء الأكبر من اللاجئين السوريين المقيمين على أراضيها، لا بل إنها تسعى، من خلال الإفادة من المعارك المشتعلة الآن بين بعض العشائر العربية وقوات قسد، إلى فرض أمر واقع ديمغرافي يعطّل أيّ وظيفة سياسية للانتشار الكردي شرقي الفرات، وهي تبحث هذا الأمر مع دول إقليمية معنية.
فتركيا تتحضّر، بتمويل قطري لإسكان لاجئي سوريا المقيمين لديها في مناطق سكنية ستستحدث لهذه الغاية، وهذا المشروع إن قدّر له النجاح، من شأنه أن يقيّد التحرّكات الكردية ويحدّ من هامش استقلاليتها، ويحدث تقاطعاً بالقوة مع الاستراتيجية الأميركية في تلك المنطقة الرافضة لتصفية النفوذ الكردي.
وستسعى تركيا لتعطي زخماً لهذا المشروع بعد المعارك التي تجري الآن في شرق الفرات، باعتبار أنه يشكّل أيضاً ملاقاة متأخرة للرغبة الأميركية بفرملة الانفتاح على الحكومة السورية، إضافة إلى كونه سعياً لفرض أمر واقع بشكل ورقة تفاوض قوية مع الحكومة السورية الساعية لبسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية.
بالطبع ليست المسألة الكردية الملف الوحيد المطروح على أجندة الدبلوماسية التركية، فهي بطبيعتها مسألة ذات أبعاد حمائية، أكثر مما تحمل من أبعاد متعلقة بالنفوذ ومراكمة عناصر القوة، والتي يبقى أبرزها الحضور التركي في الشواطئ، وعلى الموانئ المطلة على البحر الأبيض المتوسط، لغايات تجارية وأخرى متصلة بالدور في رسم خطوط إنتاج وتصدير الغاز الى أوروبا.
لقد خاضت، ولا تزال تركيا، معارك في ليبيا تأميناً لتلك الاستراتيجية، ووقفت إلى جانب أثيوبيا في مشروع بنائها لسد النهضة، وعزّزت من نفوذها هناك، إضافة إلى تقاطعها مع الاستراتيجية الأميركية في مجمل أفريقيا، لممارسة الضغوط على الحكومة المصرية توصّلاً إلى اتفاق معها بشأن ترسيم الحدود البحرية وفق الرؤية التركية، والتي يبدو أنها قيد التوصل إلى اتفاق مهم بشأنها.
وكلّنا بالطبع يتذكّر زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى لبنان في إثر انفجار مرفأ بيروت، حيث أبدى رغبة في المشاركة بإعادة إعمار المرفأ، والكلام الذي تمّ تداوله في حينه عن أن هذه الرغبة تستبطن الاستثمار في بعض أرصفة مرفأ بيروت، إضافة إلى رصيف في مرفأ طرابلس.
هذا الملف سيشكّل أولوية الدبلوماسية التركية، ولكن كيف لها أن تنجز ترتيباته اللبنانية، بالحد الأدنى، من دون اتفاق دولي إقليمي يبدأ بمعبر البوكمال، إضافة إلى محمولات الاتفاق السعودي والتركي من تأويلات لبنانية؟!!!
لكن تبقى النجاحات الخارجية، إن تحقّقت، بحاجة إلى قاعدة ارتكاز داخلي قوية، هذه القاعدة الداخلية تتعرّض لهجمات على أكثر من مستوى، اقتصادي واجتماعي وسياسي، ولعل أبرز العناوين المطروحة على هذا الصعيد هو ملف النازحين السوريين، الذي عرضنا لجزء من آلية معالجته فيما سبق، لكنّ هذه الآلية لن تحقّق لمثيري هذه القضية مبتغاهم بإفراغ بلادهم من كل النازحين السوريين.
وفي هذا الصدد تقول مصادر خاصة إن الرئيس إردوغان وفريق عمله بدأوا التحضير لهجمة مرتدة على "مثيري الشغب السياسي"، وإن توقيت تنفيذ هذه الهجمة سيكون بعيد إجراء الانتخابات البلدية، وإن أبرز مؤشر على التحضير للهجوم المضاد هو الاجتماع الذي حصل بين الرئيس التركي ووفد من علماء العالم الإسلامي، والذي خصص للبحث في هذه المسألة، وذلك في إطار تحضير الأرضية للرد على هؤلاء.
وتذهب المصادر الخاصة لحد القول إن ما ينتظر المحرّضين على سياسة اللاجئين السوريين، ليس أقل مما أصاب الانقلابيّين على إردوغان، وإن سلسلة عمليات تطهير ستطال المعنيّين في هذا الملف في أكثر من قطاع ومؤسسة، وختمت متهمة هؤلاء "بالغباء السياسي والتاريخي"، مذكّرة إياهم بأن أسطورة تركيا البحرية وهو "باربروسا" قد بنى أسطوله البحري بمساعدة من أهالي بلاد الشام الذين نزحوا من الأندلس وجوارها.
وعليه نسأل هل مسلسل "بربروسا" فاتحة طريق فيدان واستراتيجيته، كما كان مسلسل "أرطغرول" فاتحة طريق إردوغان وصعوده؟!