ما وراء المناورات الأميركية ورد طهران القادم
يشير التفسير الأول إلى أن الجولة المقبلة من المفاوضات، لا تهدف بالضرورة إلى تحقيق وقف فوري لإطلاق النار. بل يُنظَر إليها كونها مناورة استراتيجية.
"تل أبيب" وواشنطن تشيران بقوة متزايدة إلى أنهما تدركان تماماً الخطورة والحتمية للرد الإيراني على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. وهذا الوعي يتجاوز مجرد الاعتراف، فهو يعكس حسابات استراتيجية. فكلتاهما تدرك أن رد إيران ليس مسألة ما إذا كان سيحدث، بل مسألة متى وكيف. وعلى هذا، بدلاً من محاولة عبثية لمنع هذا الرد، عملتا على صقل نهجيهما الدبلوماسي المخادع، من أجل هدف واحد، هو تخفيف الحدة والتأثير لما يَعُدّانه تصعيداً لا مفر منه.
وعلى الرغم من هذه المناورات، فإن إيران توجّه رسائلها الواضحة إلى العالم. فطهران لا تنظر إلى الاغتيال كونه مجرد إهانة، بل هو انتهاك صارخ لسيادتها، وخط أحمر تم تجاوزه بصفاقة.
وبالنسبة إلى إيران، فإن هذا أكثر من مجرد حدث سياسي. إنه هجوم على كرامتها الوطنية وتحدٍّ لنفوذها الإقليمي. وبالتالي، فإن طهران حازمة في رغبتها في الرد الحاسم والواضح. لقد أبلغت إيران وسطاء متعددين أنها مستعدة للانخراط في صراع طويل الأمد إذا كانت "إسرائيل" على استعداد لاختبار عزمها. وموقف طهران ثابت وواضح، وهو: إذا سعت "إسرائيل" للحرب، فإن إيران مستعدة للقتال.
وتعزَّزت ثقة إيران بهذا الموقف من خلال امتلاكها واحدة من أكثر الترسانات العسكرية قوة في الشرق الأوسط. إن القادة الإيرانيين يدركون تماماً التكاليف المحتملة للصراع المفتوح مع "إسرائيل" والولايات المتحدة معاً، لكنهم مقتنعون، بالقدر نفسه، بأن هذه الحرب قد تعني نهاية الكيان الإسرائيلي بصورة نهائية. وهذا الاعتقاد يغذي استعدادهم لما قد يكون مواجهة نهائية شاملة؛ مواجهة قد تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط.
في الحقيقة، هذه هي المعادلة الصارخة التي دفعت واشنطن ومصر وقطر إلى إصدار بيان مشترك يحث على الاستئناف الفوري لمفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. ومع ذلك، يبدو أن هذه الخطوة أكثر من مجرد دعوة إلى السلام. إن هذه الدعوة إلى المفاوضات ليست سوى محاولة مدروسة من جانب الولايات المتحدة لتهدئة الضغوط المتزايدة، ودرء صراع أوسع نطاقاً، قد يخرج عن نطاق السيطرة، وقد يضع "إسرائيل" أمام مصيرها المحتَّم، وخصوصاً في مسألة تعدد الجبهات المفتوحة، وتعدد المطالبين بالانتقام.
أثارت فجائية توقيت هذه الدعوة إلى المفاوضات تفسيرين متباينين.
يشير التفسير الأول إلى أن الجولة المقبلة من المفاوضات، والمقرر عقدها في الخامس عشر من آب/ أغسطس، لا تهدف بالضرورة إلى تحقيق وقف فوري لإطلاق النار. بل يُنظَر إليها كونها مناورة استراتيجية وفرصة في استخدام التهديدات المتصاعدة وعدم الاستقرار في المنطقة كوسيلة لانتزاع التنازلات من "تل أبيب". ووفقاً لهذا المنظور، فإن المفاوضات ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة للضغط على "إسرائيل" لتقديم تنازلات قد ترفضها لولا ذلك. لكن هذا المنظور قد يكون مفرطاً في التبسيط، ولا يأخذ في الحسبان الدوافع الأعمق والأكثر غدراً، والتي تدور في فلك "إسرائيل"، متمثلة بجوقة المتطرفين، وعلى رأسهم نتنياهو.
يبدو أن أهداف نتنياهو أكثر طموحاً من مجرد تأمين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. وتشير أفعاله إلى استراتيجية أوسع نطاقاً، تهدف إلى التدمير المنهجي لغزة. إن هذه الاستراتيجية لا تشمل الضربات العسكرية فحسب، بل تشمل أيضاً الجهود الرامية إلى تهجير السكان، وتدمير البنية الأساسية الحيوية، وتهيئة المسرح لعمليات مستقبلية، قد تمتد إلى أجزاء أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة.
والمذبحة الأخيرة في مدرسة التابعين في حي الدرج في غزة، حيث قُتل أكثر من 100 شخص، تشكل شهادة قاتمة على هذه الاستراتيجية. لقد استهدف القصف المدنيين في أثناء صلاة الفجر، الأمر الذي أسفر عن واحدة من أكثر الهجمات دموية في غزة في الأسابيع الأخيرة. وتثير مثل هذه الجرائم الإسرائيلية تساؤلات جدية بشأن النيات الحقيقية وراء الدعوة إلى المفاوضات.
ويرى التفسير الثاني (ونحن أصحابه) أن المبادرة الأميركية مجرد حيلة سطحية ومحاولة لكسب الوقت وتخفيف الضغوط عن "إسرائيل"، من دون معالجة القضايا الأساسية بصدق.
ومن هذا المنظور، يُنظَر إلى الولايات المتحدة على أنها تحاول خلق وهم الدبلوماسية والسلام، في حين أنها في الواقع تواصل دعم الإجراءات العسكرية الإسرائيلية. ويتجلى هذا في الرسائل المختلطة القادمة من واشنطن: من ناحية، تعمل الولايات المتحدة على تعزيز المفاوضات من خلال دعوة الأطراف إلى استئناف مفاوضات وقف إطلاق النار. ومن ناحية أخرى، تقدم إلى "إسرائيل" مساعدات عسكرية إضافية. فبدلاً من دفع "إسرائيل" نحو وقف إطلاق النار، تعهدت الولايات المتحدة تقديم 3.5 مليارات دولار، دعماً عسكرياً، الأمر الذي عزّز الشكوك بشأن صدق جهودها الدبلوماسية.
كما أن عملية اغتيال سامر الحاج، إحدى الشخصيات الرئيسة في حركة حماس في لبنان، بعد يوم واحد فقط من إعلان المبادرة الأميركية، يتناقض بصورة صارخة مع فكرة، مفادها أن السلام هو الهدف النهائي.
ختاماً، إن المشهد، الذي يحيط بالصراع الحالي، وصل إلى منعطف حَرِج، بحيث تتشابك تعقيدات الديناميكيات الجيوسياسية مع الحقائق المتمثلة بالمعاناة الإنسانية لشعب غزة. وعلى رغم أن الدعوات إلى وقف إطلاق النار تبدو كأنها خطوة نحو السلام، فإن التصعيد الإسرائيلي المستمر للعنف، والدعم الأميركي الثابت للكيان الصهيوني، يغذّيان هذا العنف، ويبعثان على تفاقمه ووقاحته. وهذه ليست مجرد معركة رمزية، بل هي صراع عميق بين من يدافع عن شعب مظلوم، يتعرض لإبادة جماعية، وبين حرب عبثية تقودها الولايات المتحدة و"إسرائيل" من أجل تصفية هذا الشعب وقضيته. وتؤكد الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لسيادة الدول حقيقة واضحة، هي أن الطريق إلى وقف إطلاق النار لا يمر عبر المناورات الأميركية الدبلوماسية، بل يمر عبر استخدام القوة من جانب محور المقاومة من أجل ردع "إسرائيل"، ووقف حربها ضد الشعب الفلسطيني.
وفي خضمّ هذه المناورات، يلوح في الأفق توقع رد حاسم من إيران. ومن المتوقع أن يكون لحظة حاسمة في هذه الملحمة المستمرة. إن هذه الاستجابة تحمل في طياتها تحولاً محتملاً في النموذج، قادراً على تحدي المسار الحالي الذي تنتهجه "إسرائيل"، وإجبارها على إعادة النظر في جرائمها، في ضوء الانتكاسات الأخيرة. ولا شكّ في أن الرد الإيراني قادم، وسيكون حازماً، وقد يُعيد إلى "إسرائيل" وعيها المفقود بعد خسائرها المتتالية على أيدي أبطال المقاومة في غزة ولبنان واليمن.