كيف تقول لا! نادر العفوري يُجيب
كانت كلمة "لا" عظيمة بالنسبة إلى نادر العفوري، إذ إن القدرة التي استخدم فيها هذه الكلمة أحرزت نصراً عظيماً، وكانت اللقاح المضاد لفيروس "نعم"!
لم يكن قول كلمة "لا" عملاً سهلاً، ليس بسبب أن هذه الكلمة قد تؤذي مشاعر الآخرين، لأن الآخرين هنا هم الاحتلال، بل كان قولها صعباً لأن خسارتها تعني الهزيمة، وفقدان السلاح الوحيد لمواجهة المحقق داخل أقبية التحقيق، خصوصاً أن قول كلمة "نعم" يعني الإرهاق النفسي، والهزيمة من الداخل، والندم، والشعور بالعجز، والغضب، والتوتر.
إن الرفض نادراً ما يكون بالحياة الطبيعية، وكيف الحال إذا كان الإنسان يواجه "نظاماً لقول نعم؟"، هذا السؤال أجاب عنه الأسير الراحل "نادر العفوري"، حتى لا نقع في الفخ، ونتجاهل سعادتنا بالنصر، مقابل إسعاد الاحتلال، وأجاب عنه بطريقته، إذ أصبحت كلمة "لا" تعني الجنون، أو أكثر أن تقول "لا" بجنون داخل أقبية التحقيق، حيث كانت كلمة "لا" هي التعبير المكثف عن الحرية، وكلمة "نعم" هي التعبير المكثف عن العبودية.
كان هذا الجنون بالنسبة إلى نادر جرأة غير مسبوقة، إذ آمن بأن كلمة "لا" تحمل حرفين الألف واللام، وسقوط هذين الحرفين يعني السقوط في شبك الاعتراف، ولذلك تمسك بهما في داخله، حتى باتت كلمة "لا" قراراً، ولم تكن نِتاج ظروف، وقام بصنع أسطورته الشخصية، وفي داخل عقله كان يحمل جوهرتين: "أوريم وتوميم". كانت "أوريم" هي الفكرة السوداء التي تعني "نعم"، و"توميم" هي الفكرة البيضاء التي تعني "لا". وعندما يكون الواقع أسود، يتوجب عليه استخدام الفكرة البيضاء.
كانت كلمة "لا" عظيمة بالنسبة إلى نادر العفوري، إذ إن القدرة التي استخدم فيها هذه الكلمة أحرزت نصراً عظيماً، وكانت اللقاح المضاد لفيروس "نعم"؛ هذا الفيروس الذي يقتل الشخصية، ويسلب الإرادة، إذ يبحث المحقق هنا عن أمنياته بأن ينتزع منك هذه الكلمة، فعندما تقول "نعم" تقوم بتلبية احتياجاته هو، وليس احتياجاتك أنت.
وصل به الجنون بكلمة "لا" حد التقديس، حيث كان الجنون هنا خلاصاً بحزم، وربما أكثر كان مواجهة الموت بالجنون، لأن محاورة الموت وأنت عاقل هو جنون الهزيمة، ولذلك أدرك نادر العفوري أن الموت يواجه بجنون الانتصار، هو حوار سفسطائي مع الجلاد، عندما يقاوم الجسد الأعزل المتسلح بإرادة العقل نظاماً من الجنون الإرهابي، وكفيلسوف ينتصر، لأنه كان يعلم أن ما أخذ بالجنون لا يسترد إلا بالجنون.
يقول غسان كنفاني: " إذا أردت شيئاً فخذه بذراعيك وكفيك وأصابعك"، وبالجنون أيضاً، أضاف إليها نادر العفوري، حيث كان الجنون هنا أسلوب مقاومة، واشتباكاً داخل البئر، فقد رمى نادر حجره، وكل عقول المحققين في أقبية التحقيق لم تستطع إخراج هذا الحجر، ولكن نادر خرج بجنونه منتصراً.
وذلك يعني بالنسبة إلى نادر العفوري أنهم فشلوا في انتزاع أي اعتراف منه طوال جوالات التحقيق، فقد مارسوا عليه شتى أساليب التعذيب، انتزعوا حلمة صدره اعتقاداً منهم أن الألم ربما يُخضعه، ولكنه اتحد مع الألم كما اتحدت الريح مع الصحراء. جعلوا من جسده منفضة لإعقاب السجائر المليئة بالتبغ النفسي، وأكثر بالتبغ الإرهابي، ولكن بالنهاية الاحتلال هو من اعترف، ولم يكن اعترافه بالجريمة التي يرتكبها فقط، بل اعترف بصمود نادر، ومقاومة نادر، ووطن نادر، وأكثر فقد اعترف بجنون نادر العفوري.
لم يسافر نادر طوال حياته، ولكنه صعد إلى الطائرة حاملاً حقيبته في قلبه، والتي تحتوي على كلمة "لا"، لأن التنازل عن هذه الحقيبة هو بمنزلة الخيانة. فوق جبال مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية، قام الاحتلال بإنزال نادر من باب الطائرة بعدما ربطوه بحبل كنوع من التعذيب، كان الاحتلال يبحث عن الاعتراف من خلال هذه الخطوة، ولكن نادر كان فرحاً بمشاهدة جبال فلسطين من الطائرة لأول مرة في حياته. ومن حسن حظه، كان وجهه إلى الأسفل.
مارس نادر الجنون بقتل الحواس في داخله، وقتل كلمة "نعم" في داخله، ولم يُفرط بكلمة "لا" حتى رحيله في 7 أبريل/نيسان 2021، حيث كان يتكئ على عكازته عندما يسأله أحدهم: "هل أنت مجنون فعلاً؟"، ويستمع إلى السؤال كأنه يواجه الإجابة لأول مرة، ويشعر بأن هذا السؤال جاء من أجل تحطيم أسطورته الشخصية، لأن الجنون هنا لم يكن جنوناً بشرياً طبيعياً، بل تراجيديا مع الحرية، وهذا ما جعل نادر مدرسة ذات قيم في الصمود في مواجهة التحقيق.
لقد انتصر نادر، واستسلم الجلاد، لأن نادر كان يعلم أن لا أحد يحق له سؤالك حول نشاطك المقاوم، لذلك لم يعترف، ولم يقر بوجود الاحتلال على أرض فلسطين، حتى إنه لم يقر بهذا الاحتلال على أرضية الزنزانة، وكرسي التحقيق، وكان يقول دائماً: "لا يهم أن تُهدم القلعة المهم أن الملك موجود"، هذا الملك الذي قال فيه الشهيد إبراهيم الراعي الذي استشهد في عزل "أيالون-الرملة"، في 11 نيسان/أبريل 1988:
يما لا ولا ولا.. ونادر عفوري رمز النضالا
وفي سجن الخليل زرعنا الجوري.. وردتنا الحمرا نادر عفوري
لعيونك نادر جبهتنا ثوري.. وهيك اتعلمنا نخلّي الأبطالا
وزيدي يا جبهة بأبطالك زيدي.. والله عن دربك ما نحيدي
غسان كنفاني كتب القصيدة.. ونادر بصموده غنّى الموالا
بكماشة حديد خلعوا حلماته.. بكيّ السجاير حرقوا لحامته
مهما الصهاينة شلوا حركاته، نادر بصموده فجر بركانا..