فرنسا مُجبرة على تغيير إستراتيجيتها في أفريقيا

 تحاول فرنسا أن تغير جلدها من دون المسّ بأهدافها الحقيقية من وراء ما تقوم به من تغيير شكلي، سواء من خلال سحب بعض قواتها العسكرية أو دعم التنمية المحلية أو من خلال بناء بعض المدارس وتعبيد الطريق وإنارتها

  • فرنسا مُجبرة على تغيير إستراتيجيتها في أفريقيا
    فرنسا مُجبرة على تغيير إستراتيجيتها في أفريقيا

كانت فرنسا خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية وقبلها دولة مستعمِرة لكثير من الدول الأفريقية. وقد بقيت على نهجها الاستعماري منذ ذلك الوقت، ووطّدت ورسّخت منهجها الاستعلائي من خلال تركيز قوات فرنسية على أراضي بعض دول القارة التي تمتلك ثروات طبيعية هائلة.

 استطاعت فرنسا كغيرها من الدول الإمبريالية الاستعمارية، وإن كانت تدّعي الديمقراطية، أن تضع يدها على هذه الثروات وتستغلها لمصلحتها، وحرمت أصحابها من التنعم بها واستغلالها في تنمية بلدانها التي بقيت طوال تلك العقود تعاني الفقر والتهميش والبطالة والحروب الأهلية، وهي أسباب دمرت الكثير منها، وأهلكت الحرث والنسل، وقضت على كل جميل فيها.

لم تكتفِ هذه الدولة الاستعمارية الحاقدة بذلك، بل كانت، ولا تزال، تدعم الميليشيات التي أسستها حتى تبقى البلاد المستعمَرة مضطربة سياسياً وأمنياً أو تدعم رؤساء موالين لها يعملون من أجل إدارة مصالحها. وقد استمرت هذه السياسة في بعض البلدان الأفريقية الهشة.

 وقامت فرنسا خلال الفترات المتعاقبة بتثبيت سياسة الامتصاص والاستنزاف للثروات الطبيعية المهمة التي تعتمد عليها هذه البلاد أو تلك في تسيير شؤونها الداخلية، ونشرت الكثير من قواتها العسكرية بدعوى بسط الأمن ومحاربة الإرهاب التي اتخذتها ذريعة لإبقاء قواتها في القارة ومراقبة الأوضاع الاقتصادية والسلطة الحاكمة وتصرفات الشعوب.

ولطالما كانت ترتع في أفريقيا وحدها أو مع بعض الدول الأوروبية مقاسمة، من دون منافسة قوية من الدول الأخرى، لكن في السنوات الأخيرة لاحظت أنَّ هناك أسواقاً جديدة بدأت تدخل السوق الأفريقية وتنافس الدولة العظمى في أوروبا، وهي دول قوية اقتصادياً وتضاهيها في القوة العسكرية، بل تفوقها بكثير، مثل الصين وروسيا وتركيا، فحدث ارتباك شديد في صفوفها، وتراءى لبعض الحكومات والشعوب أن هذه الدولة الاستعمارية الإمبريالية من الطراز الرفيع لا ترى إلا نفسها ولا تعمل إلا وفق مصلحتها.

 ومع تنامي الوعي الأفريقي بضرورة خفض فرنسا عديد قواتها أو ترحيلهم من بعض البلدان، كما فعلت بوركينا فاسو ومالي أخيراً، أدركت فرنسا أنَّها غير قادرة على المواجهة المباشرة مع هذه الدول لتوالي الأزمات العالمية وثقل الحرب الأوكرانية وتداعياتها على السياسة العالمية.

وبعدما رأت بعض الدول الأفريقية أن فرنسا تتمادى في عنصريتها المقيتة واحتقارها الشعب الأفريقي بناء على الجنس والعرق، طالبتها بالاحترام، ثم الرحيل من البلاد وخروج قواتها بسلام، ما صدم الرأي الرسمي والعام في الدولة المستعمرة، وأجبرها على تغيير إستراتيجيتها القائمة على الاستغلال والاستعمار والاستنزاف والاستمراء، ورأت أن ذلك ضروري في ظل التغيرات العالمية، لكنه التغيير القائم على النظرية نفسها بطرق مختلفة أو مغايرة.

 تحاول فرنسا أن تغير جلدها من دون المسّ بأهدافها الحقيقية من وراء ما تقوم به من تغيير شكلي، سواء من خلال سحب بعض قواتها العسكرية أو دعم التنمية المحلية أو من خلال بناء بعض المدارس وتعبيد الطريق وإنارتها وبناء بعض المؤسسات التي تحتاجها الدولة.

ومن هنا، جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لأربع دول أفريقية في إطار تغيير الإستراتيجية التي قامت عليها السياسة الفرنسية في تعاملها مع القارة الأفريقية التي أصبحت محل منافسة بين الدول الكبرى، بعدما أدركت فرنسا أن من واجبها إيجاد إستراتيجية جديدة لإعادة البريق إلى الدولة الفرنسية واستمرار وجودها على أرض أفريقيا السمراء. 

وقد اختار ماكرون هذه الدول بناء على الثروات التي تملكها؛ فالغابون مصدر غني بالنفط والمنغنيز والحديد والخشب، ويتميز اقتصاد أنغولا بالزراعة، مثل الذرة والكاسافا وقصب السكر ونخيل الزيت والسيسال، وأيضاً بالنفط والألماس والذهب والنحاس. 

وتمتلك الكونغو ثروات من النحاس والألماس والذهب، وقدرات كهرومائية وشبكة مواصلات بحرية مهمة، إضافة إلى زراعة الأرز والذرة، وهي تصدّر قصب السكر والكاكاو والقهوة والموز والقطن والفول السوداني.

وتعد جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أغنى دول العالم بالثروات الطبيعية، إذ تقدر ثرواتها من المعدن الخام غير المستغل بنحو 24 تريليون دولار أميركي، فهي تملك 70% من كولتان العالم، وثلث الكوبالت، وأكثر من 30% من احتياطي الألماس، وعُشر النحاس.

إذاً، كيف تفرّط فرنسا في مثل هذه الثروات الهائلة، وهي التي تعتمد في الأساس عليها وتقتات منها، ولا حول ولا قوة لها إلا من خلال ما تمتصه من أفريقيا من ثروات طبيعية وموارد اقتصادية توظفها لمصلحتها في صناعات مختلفة؟

ويبدو من خلال الأحداث الجديدة أنها بدأت تفقد جزءاً مهماً منها نتيجة المنافسة الكبيرة التي تتلقاها من الدول الأخرى، وبالتالي كان عليها أن تتبع خطوات جديدة تعترف فيها بأحقية هذه الدول باحترام سيادتها وشعوبها، وإلا فهي دولة مفترسة إذا وجدت كل شيء أمامها متاحاً.