فرنسا تبكي على الأطلال من خلال القارة الأفريقية
هل تبقى فرنسا تبكي على الأطلال في أفريقيا أم أنها ستغير استراتيجيتها تجاه هذه الدول وتحسّن لغة خطابها بعيداً من خطة آمر ومأمور؟
زوبعة شديدة وعاتية ضربت القارة الأفريقية أو ربيعٌ غرب أفريقيّ، كما سمّاه كثيرون، حطّ رحاله فيها، ولم تمنح العاصفة الهوجاء العالم أن يتنفس الصعداء، فما حدث انقلاب إلا تلاه انقلاب آخر يفزعه ويفاجئه، وكأن هناك سلسلة تتبع فقراتها حركات هذه الانقلابات، فما إن شهدنا انقلاباً عسكرياً في النيجر يوم الأربعاء 26 تموز/يوليو 2023 حتى شهدنا يوم الأربعاء 30 آب/أغسطس 2023 انقلاباً آخر لدولة أخرى هي الغابون، ولا غرو أن نشهد الأسبوع المقبل ربما انقلاباً آخر.
هو تكتيك درجت عليه الجيوش العسكرية في أفريقيا وتبعتها الشعوب، لكن اللافت للنظر أن هناك جامعاً مشتركاً بين هذه الانقلابات. وقد بان ذلك بعدما ظهر العسكر في هذه الدول وهو يمسك بالحكم ليرفض الحكم القائم، ويرفض الانتخابات والرؤساء الذين جاؤوا عن طريق الانتخابات، وكأنّ الأمر منسّق ومرتّب.
العسكر في هذه الدول يرون أن الانتخابات التي جرت في بلدانهم مزورة وغير حقيقية، بل تكرّس روح الاستعمار الفرنسي الجاثم عليها، فكلما جاء رئيس جديد أو انتخب الرئيس نفسُه وحدثت انتخابات وعملية انتخابية، رأى العسكريون أنها مسرحية على الشعب لا ترقى إلى أن تكون انتخابات، باعتبار أن المنتخَبين، في نظرهم، جواسيس لفرنسا وعملاء لها، يطبقون أوامرها على أراضيهم، بل إنهم يعدّونهم خونة وفاسدين يعملون لمصلحة فرنسا على حساب الشعب.
يرون أنَّ فرنسا تنعم بخيراتهم وثرواتهم، وشعوبهم ترزح تحت وطأة الفقر والجهل والبطالة والأمية، بل إنهم يظنون أو أنهم موقنون بأن السياسة الفرنسية في بلدانهم لم تعد تُجدي نفعاً، وأن سياسة التجويع التي تمارسها فرنسا أصبحت بالية.
لقد فاجأ العسكر في بلدان غرب أفريقيا الدولة الفرنسية التي بدت مضطربة ومتوترة، ولم تعد تدري عمَنْ ستدافع بعدما تكررت الانقلابات: هل تدافع عن محمد بازوم الرئيس النيجري المعزول أو علي بونغو الرئيس الغابوني المعزول؟ بل فاجأوا أوروبا وأفريقيا نفسها والمنظمات الدولية!
ولكن بعد ما حصل في الغابون، تشتتت خطط فرنسا في أفريقيا، وأيقنت أنها بدأت تنتفض فعلياً في وجهها، ولم تعد ترضى بما تفعله داخل حدودها، بل إنها تطالبها بالرحيل من هذه البلدان، ما يوحي بأن هناك صحوة أفريقية على ما كان يجري داخلها من استعباد وتجارة بالبشر وقهر ومعاناة وجوع واقتتال داخلي وتعرض المرأة الأفريقية لانتهاكات جسدية وجنسية.
وفي كل مرة يحدث فيها انقلاب جديد، تنتفض فرنسا كما ينتفض العصفور الذي بلّله القطر، وترتبك في ردودها على ما يجري في هذه الدول، وتسعى للملمة أوراقها المبعثرة حتى تبدو أمام شعبها متماسكة، فهل تسعى هذه الدول التي حدثت فيها انقلابات إلى تكوين تحالف أو تكتل جديد لإنعاش اقتصادها وإخراجها من حالة التبعية المطلقة لفرنسا، وبالتالي القضاء كلياً على مصالح فرنسا في الداخل الأفريقي؟
ربما ما حدث وما زال يحدث في أفريقيا مرتبط بالحرب الروسية الأوكرانية، إذ يمكن أن يكون للرئيس الروسي، بعد قمّته الأخيرة مع الأفارقة، أجرى اتصالات بالجيوش العسكرية في هذه البلدان، فهل تبقى فرنسا تبكي على الأطلال من خلال هذه القارة أم أنها ستغير استراتيجيتها تجاه هذه الدول وتحسّن لغة خطابها بعيداً من خطة آمر ومأمور؟
على كلّ حال، إن السياسة العامة الاستعمارية قد تنتهي وتختفي في أفريقيا بعدما انتفضت في وجهها دول مهمة وبدأت تتسع دائرتها وتتجاوب معها الشعوب، بعدما ملّت من التبعية وأرهقها الفقر المدقع، رغم أن بلادها تنعم بخيرات وثروات كبيرة، وهي ترى أنها حكام بلدانها خانوا الأمانة ولم يصنعوا الديمقراطية الحقيقية، بل ظلت البلدان الكبرى تحلب هذه البلدان المستعمرة بكل قواها حتى جفّ ضرعها ولم تعد تنتج حليباً صافياً صالحاً للاستهلاك الآدمي.