غزّة وغلافها: من يهجّر من؟
هروب مستوطني غلاف غزة أصبح أفضل من مكوثهم في منطقة باتت حديقة يتنزه فيها المقاومون.
أغلقت أبواب معبر رفح الحدودي بين غزّة ومصر بالجدران الإسمنتيّة، فلم يعد هناك ممرّ لمن يريدون النّزوح رغم قلّة عددهم؛ فقد قصفت قوافل النازحين، ولم يعد النّزوح، كما البقاء، آمنًا في قطاع غزة، والهجرة غير محبّذة، وهي أصعب من البقاء بالنسبة إلى سكان غزة، لكن في المقابل، هروب مستوطني غلاف غزة أصبح أفضل من مكوثهم في منطقة باتت حديقة يتنزه فيها المقاومون.
خسائر اقتصادية كبيرة وتنمية على طريق التعطل
يسكن مستوطنو غلاف غزة مستوطنات يسمّى بعضها كيبوتسات، والكيبوتس أو "التجمع" هو بؤرة تتبع نظامًا اشتراكيًّا يعتمد على توزيع المحصول الزراعي والإنتاج الصناعي اللذين ينتجان في داخله بالتساوي بين مستوطنيه، إذ إن معظم من يسكنونه كانوا قد قدموا من أوروبا الشرقية وروسيا. وقد حافظ "سكان" الكيبوتسات على نوع من الحكم الذاتي، وانقطاع العمل في الكيبوتس لفترة قصيرة يعني التوقف عن الاهتمام بالحقول، وبالتالي فساد المحاصيل وتعطل حركة الإنتاج.
وقد تأثرت الزراعة في مستوطنات غلاف غزة مرات عدة أثناء فترات التصعيد مع فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة؛ فبعد حرب عام 2014، بحث الاحتلال دمج مشروع باهظ التكاليف لإنتاج الطاقة الكهربائية، لكن لم يتخذ القرار بالبدء به، إذ إنه لن يسلم من صواريخ المقاومة، حسبما ورد في صحيفة "يديعوت أحرونوت".
ويقول المزارعون الذين يفترض أن يقام المشروع على "أراضيهم" إنهم لا يستطيعون زراعة حقولهم، وبالتالي لا توجد محاصيل زراعية في المنطقة. وبحسب ما سبق، فإن المواجهات المتكررة مع الفصائل الفلسطينية تعني "حرمان" مستوطنات غلاف غزة من "التنمية".
على صعيد آخر، وبعد تدمير المقاومة مناطق عديدة في غلاف غزة وإحراقها أثناء عملية "طوفان الأقصى"، ارتفعت حاجة تلك المناطق إلى ميزانيات ضخمة لإعادة إعمارها. أضف إلى ذلك ارتفاع تكلفة تحصين الكيبوتسات بالتكنولوجيا التي ظل الاحتلال يتحدث عن مدى فعاليتها، إلا أن استطاعت المقاومة تخطيها بدقائق.
إذا تقررت العودة إليها، فمن سيسكنها؟
تتراوح أعداد مستوطني كل كيبوتس بين مئة وألف نسمة، يروج الاحتلال ترابط أفراد كل تجمع بعضهم ببعض، فتنشأ أجيال فيهم بشكل جماعي، لكن مع ارتفاع عدد القتلى من المستوطنين في العملية الأخيرة إلى أكثر من 1500 قتيل، ترتفع نسبة تمكن المقاومة من القضاء على كيبوتسات بأكملها أو بالحد الأدنى تفكيك الروابط بين أفرادها وخلق فجوات في "الأسرة الكبيرة" التي تعتبر محور التجمع. وقد أعلنت وسائل إعلام عبرية عن أن نحو نصف "سكان" كيبوتس "نير عوز" قتلوا في "طوفان الأقصى".
مستوطنو الغلاف بين الحكومة والمعارضة
تشكَّلت الحكومة الحالية لدى الاحتلال الإسرائيلي وسط انقسام حاد داخل المجتمع، وبات المتطرفون، وللمرة الأولى، يسيطرون على مواقع قرار ذات تأثير كبير في كيان الاحتلال. ويعد اتباع التوجه الصهيوني المتطرف والمجيء إلى فلسطين من البلدان ذاتها -شرق أوروبا- عاملاً خلق تناسباً جزئيّاً بين كل من الوزراء المتطرفين والمستوطنين في غلاف غزة.
وعلى الرغم من ذلك، لم يعد هؤلاء يتجاهلون حقيقة أن هدف الحكومات الإسرائيلية، سواء أكانت ليبيرالية أم يمينية متطرفة، من إبقاء تلك المستوطنات هو إقامة حاجز ديموغرافي "وظيفي" لفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وذلك لمنع وجود مقاومة فلسطينية موحدة.
وعن آثار تلك السياسة الإسرائيلية في المستوطنين في غلاف غزة أنفسهم، أوضح عضو الكنيست السابق عن حزب "هناك مستقبل"، حاييم يلين، في تصريحات صحافية أن "هذا هو الثمن الذي يدفعه الاستيطان في غلاف غزة؛ عندما تفقد الأمن والأمان، وتشعر بأنك تعيش في دائرة الخطر، وفي ظل عجز الدولة وفشلها في توفير الأمن".
جاء ذلك بعد تأكيد العديد من المستوطنين عدم رغبتهم في العودة إلى غلاف غزة، فقد أظهر رئيس مجلس "سدوت نيغيف" الإقليمي، تمير عيدان، عدم رغبته في العودة بعد أحداث "يوم السبت الأسود"، بحسب قوله، التي قتل خلالها رئيس مجلس "شعار هنيغيف" الإقليمي أوفير لبيشتاين.
وفي الحديث عن مستقبل حكومة بنيامين نتنياهو التي يفترض أن تكون داعمة لمتطرفي غلاف غزة، ازداد حجم معارضة الإسرائيليين من كل "المجتمعات" لتلك الحكومة، وهذا ما يؤكد عودة المعارضة إلى السلطة.
والجدير ذكره أن المعارضة يسيطر عليها الليبيراليون من الصهاينة -وهم من اليهود الأشكينازيم الذين قدموا من أوروبا الغربية- وهم أحد العناصر التي فشلت بوتقة الصهر في دمجهم مع اليهود السفارديم الذين يسكنون المناطق الريفية، ومنها غلاف غزة، فإذا كانت حكومة اليمين لم تقدم لمستوطني غلاف غزة الحماية والمطالب الكافية، فهل تقدم حكومة المعارضة الليبيرالية ذلك لهم؟
تتمثّل دوافع الهجرة لدى بعض الفلسطينيين في غزة بأحداث لحظية يتشكل من خلالها خطر على المواطنين أثناء الحرب فقط، أو اقتصادية كالحصار، وقد تعايش سكان غزة معها، فمن يصنع الصواريخ من أدوات بدائية قادر على أن يصنع اقتصاداً هجيناً يتماشى مع الحصار. أما في شأن دوافع الهجرة لدى المستوطنين في غلاف غزة، فهي تتشكل من تشققات عميقة أحدثتها "طوفان الأقصى".