سيناريوهات نتنياهو للعدوان الإقليمي قد تخرج عن مسارها بسبب الصراع الداخلي
قوة نتنياهو في أوساط الغوغاء اليمينيين والمستوطنين الاستعماريين الذين رعاهم، غير قادرة على توفير الدعم اللازم لائتلافه.
خلقت حملات الإعلام السياسي المخادعة لبنيامين نتنياهو، على مدى العقود الأربعة الماضية، نتيجتين على الأقل: الأولى هي بلورة عملية تطرف يمينية في أوساط أكثر من نصف شرائح المجتمع اليهودي في غربي فلسطين المحتلة عام 1948 بالتحديد، بينما الثانية ربما تكون نتيجة ثانوية للأولى، وهي المعنى والتداعيات لترداد الغوغاء اليمينيين والمؤيدين المخلصين له أن نتنياهو هو (بالعبرية) "بيبي ميليخ يسرائيل"؛ "بيبي ملك إسرائيل"، وربط ذلك "روحياً وتراثياً" مباشرة بـ "ملوك يهود وإسرائيل"، مع ما قبل الألفية قبل الميلاد وإبراز "أحقية اليهود في فلسطين" عبر هذه السردية.
لكننا نعتقد أن نتنياهو نفسه "طوّر" مقاربة نفسية مزدوجة بعد مقتل شقيقه يوني (يوناتان نتنياهو) على أيدي مقاتلين فلسطينيين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - العمليات الخارجية (PFLP-EO)، عام 1976، بتخطيط وأوامر من الدكتور وديع حداد، زميل "الحكيم" المؤسس الدكتور جورج حبش.
كان يوناتان ضابطاً قاد "سايرت ماتكال" (وحدة الكوماندوس النخبة لجيش الاحتلال) خلال "عملية عنتيبة"، وهي عملية لإنقاذ الرهائن المحتجزين في مطار عنتيبة في أوغندا عام 1976. وأفادت التقارير آنذاك بأنه تم إنقاذ 102 من الرهائن البالغ عددهم 106، لكن يوناتان نتنياهو كان الوحيد الذي تم قتله في المعركة في المطار من جانب مقاتلي "الجبهة الشعبية".
بعد وفاة يوناتان، طور بنيامين نتنياهو موقفين متعارضين: من ناحية، عقدة النقص: أنه ليس "القائد العسكري البطل"، الذي "مات وضحّى بنفسه" في "عملية من أجل إسرائيل "، مثل شقيقه. ومن ناحية أخرى، ولّد إعجابه بأخيه في نفسه نهجاً بغيضاً تجاه الفلسطينيين، ينبع من رغبته الداخلية في الانتقام لمقتل شقيقه من خلال تعنيف الفلسطينيين بوحشية لعقود مستمرة.
مع مرور الوقت، تمكّن نتنياهو من دعم نفسه بـ "الجنرالات" (ما ينقصه وتمتّع به أخوه) الذين أبدوا في الماضي تعاطفاً مع العائلة، وتحديداً معه، إلّا أنه أخذ يتنافس ويتشاجر مع جنرالات آخرين، ولا سيما مع إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، والضابط الحائز أكثر عدد من الأوسمة في جيش الاحتلال.
لكن، في العقد الماضي (2012-2022) انضم مزيد من ضباط جيش الاحتلال بعد تقاعدهم إلى الأحزاب السياسية (وليس فقط حزب الليكود بزعامة نتنياهو)، أمثال بيني غانتس وموشيه يعالون وغابي أشكنازي وآخرين.
نتنياهو، اليميني المتطرف أصلاً، بعد فوزه في انتخابات عام 2022، ومن أجل تنفيذ "ضمه الذي طال انتظاره لـ 30٪ من الضفة الغربية المحتلة – أي شرقي فلسطين، والذي كان سيعلنه في تموز/يوليو 2020)" اختار المسار الأكثر فاشيةً، عندما أقام ائتلافاً مع الصهيونيين المتدينين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
أثار مسار حكومة نتنياهو بشأن تبني "إصلاحات قضائية" تمكّن حكومته من تعيين قضاة المحكمة العليا، وبالتالي نسف ما يسمى فصل السلطات، غضبَ المعسكر الآخر بقيادة غانتس ولابيد (يمين الوسط العلماني)، على الرغم من حقيقة مفادها أنه على مدى العقود (منذ النكبة عام 1948 واحتلال الجزء الثاني من فلسطين "الشرقية") في عام 1967، تم تصنيف جيش الاحتلال أسطورياً باسم "تسفا هعام" ("جيش الشعب") و"صهريج" الذوبان والاندماج المجتمعيَّين، واللذين يستندان أساساً إلى حقيقة مفادها أن التجنيد في الجيش هو إلزامي للذكور والإناث (مع بعض الاستثناءات الدينية في الأساس).
عند تشكيل ائتلاف نتنياهو، وعد معسكر غانتس بعدم البقاء خارج السلطة ("الحكومة") فترة طويلة، متوعداً نتنياهو بشن حملة سياسية ضده وضد سياساته. بعد عملية تبني التعديلات القضائية، التي بدأها ائتلاف نتنياهو، بطريقة غير مسبوقة، تحول معسكر غانتس - لابيد إلى استخدام خطاب تحريضي ضد ائتلاف نتنياهو، والتحرك ضد سياساته والتشبيك والضغط على جيش الاحتلال (جماعاتٍ وفُرادى) ضد سياسات نتنياهو. وعلى الرغم من أنهم خارج المؤسسة العسكرية رسمياً، فإن قربهم من الجنرالات العلمانيين من يمين الوسط من الجيش وجنرالاته السابقين جعل من السهل على غانتس - لابيد تعبئة الشارع ضد نتنياهو، عبر حملات ممنهجة منذ بداية عام 2023.
تحليل لهذا التحرك يشير الى مثلث النظام الحقيقي الذي يحكم الإسرائيليين: الجيش والشاباك والموساد. وسمح هذا الأخير (الموساد) لموظفيه، لأول مرة على الإطلاق، بالاحتجاج والتظاهر، شريطة عدم التحدث إلى وسائل الإعلام. أمّا وسائل الإعلام الإسرائيلية المركزية فتبنّت شعاراً مفاده أنه "لا يوجد جيش إسرائيلي من دون سلاح الجو"، بحيث يتزايد عدد الطيارين الذين قاطعوا سلاح الجو الإسرائيلي احتجاجاً على التعديلات القضائية لائتلاف نتنياهو. يبدو أن محنة نتنياهو، وربما خططه لضرب إيران، تراكمت وتواجهها صعوبات عقائدية لوجستية كبيرة، بحيث رفض 37 طياراً احتياطياً (على الأقل) الامتثال لجداول تدريبهم احتجاجاً على التعديلات القضائية المقترحة من نتنياهو، كما أغلق سلاح البحرية في حيفا الطرقات متظاهراً ضد نتنياهو. كما لم يستطع نتنياهو، في التاسع من آذار/مارس، السفر عبر مطار اللد نتيجة الاحتجاجات، واضطر الى استخدام مروحية للسفر الى إيطاليا.
يبدو أن قوة نتنياهو في أوساط الغوغاء اليمينيين والمستوطنين الاستعماريين الذين رعاهم، غير قادرة على توفير الدعم اللازم لائتلافه أمام المظاهرات المتصاعدة بقيادة غانتس ولابيد وأصدقائهما الجنرالات. وَيُظْهِر المأزق الحالي محدودية نفوذ نتنياهو أمام الحكام الحقيقيين لـ "إسرائيل" (أي "مثلث الأفرع الأمنية" للاحتلال)، وقدرتهم على التدخل في العمليات السياسية.
معادلة "فصل السلطات"، التي وُجدت ظاهرياً (وفشلت في كل الامتحانات في التعامل الصهيوني مع الفلسطينيين في كل مكان) لم تبدُ أكثر هشاشة مما هي عليه في ربيع عام 2023.
القوة ذاتها (أي الذراع العسكرية الضاربة، وتحديداً سلاح الجو لجيش الاحتلال)، والتي يستخدمها نتنياهو لتنفيذ ممارسات القمع والقتل والتنكيل ضد الفلسطينيين (ولا سيما في قطاع غزة عبر الحروب المتكررة)، وفي الضفة الغربية المحتلة، وضد دول الجوار (مثل سوريا وإيران ولبنان، وربما دول أخرى)، باتت صريحة في عدم ولائها له، وربما إن المعارضة للتعديلات القضائية، كما يراها نتنياهو، مقترنة بعدم الاستقرار الاقتصادي، ستعرقل إلى حد ما سياسات العدوان لنتنياهو في علاقاته الدولية، وخصوصاً في المنطقة.
من المؤكد أنه، لأول مرة منذ اغتيال إسحاق رابين في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، على يد يغئال عمير، المتطرف الديني – الصهيوني، والذي أخذ حرفياً تحريض نتنياهو ضد رابين في منتصف التسعينيات بعد توقيعه "اتفاقيات أوسلو" مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، تحت قيادة ياسر عرفات، يدرك نتنياهو (على الرغم من صدمته في إثر خضوعه لزوجته سارة ولابنه يائير) حدود سلطته في أوساط المجتمع اليهودي – الصهيوني بعد أن نجح في غسل أدمغة الأغلبية على مدار ربع قرن، إلى درجه أنه كان من شبه المستحيل هزيمته في الانتخابات.
في الوقت الحالي، يبدو أن العوامل المحلية والإقليمية متشابكة بقوة إلى درجة أنه إذا فكر نتنياهو في تبني خطته الصفرية ضد إيران، وتنفيذ ضربة قوية (أولى) ضد طهران، كجزء من استراتيجيته النووية الفاشية، فإن الذراع ذاتها التي خطط من أجل استخدامها، أي سلاح الجو الإسرائيلي، أخرجت خطة نتنياهو عن مسارها من الداخل، ولو في المستقبل المنظور، أو لوقت قد يكون من المستحيل ضرب إيران.
هذا الغليان في الداخل الصهيوني منح الرئيس الأميركي بايدن ورافائيل غروسي، من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خلال زيارته الأخيرة لإيران (والذي أعتقد أنا شخصياً أنه منحاز ضد إيران، وخاضع للوبي الصهيوني في كل الأحوال) لاغتنام فرصة ضعف نتنياهو، بحيث يتم منح غروسي الضوء الأخضر من إدارة بايدن (واللوبي الصهيوني جناح غانتس – ولابيد، وأمثال "جي ستريت" المنافس لأيباك) لاستغلال محنة نتنياهو وتسهيل عودة الولايات المتحدة بسرعة (بعد أن أخرجها ترامب وفقاً لطلب نتنياهو في منتصف عام 2018) إلى خطة العمل المشتركة الشاملة (الاتفاق النووي الموقع عام 2015)، منتهزةً هذه النافذة غير المتوقعة من الفرص، التي أتاحها لها نتنياهو نتيجة عنجهيته الفاشية.