سيادة القطب الشمالي
"من يملك القطب الشماليّ، يتحكّم في مصير العالم"، مقولةٌ أصبحت تتردّد في أوساط المفكّرين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين، نظراً إلى ما يحدث من متغيّرات في تلك المنطقة الاستثنائية.
"مع بداية القرن الحادي والعشرين، بدأنا نستشعر صراعاً محموماً بين الدول العظمى من خلال التسابق على السيطرة على منطقة القطب الشمالي، تأكيداً أن مَن يتسيدها يتحكم في العالم، بحيث إننا اليوم نشهد عسكرة القطب الشمالي مع الخوف الدائم من تحول هذا الصراع البارد إلى كتلة مُلهبة تُحرق الأخضر والأبيض".
مَن يملك الشمال وكيف سيؤثر الصراع هناك في الأمن الدولي؟
منذ بداية التاريخ الإنسانيّ، تتسابق البشريّة إلى اكتشاف آفاق وموارد جديدة تسمح لها بالتطوّر والتقدم والتفوّق. أمّا القاسم المشترك بين هذه الاكتشافات فهو أنّه في كلّ مرّة أعقبها مزيد من النزاعات والصراعات ودفع الأثمان الباهظة بالنسبة إلى بني البشر. وإحدى الظواهر الجديدة في العالم هي الاحتباس الحراري، الذي أدى إلى بدء ذوبان الجليد في منطقة القطب الشماليّ من الكرة الأرضيّة. والحديث اليوم يتمحور حول تنافسٍ دوليٍّ على المنطقة الشمالية، بدأ يتصاعد بين القوى الكبرى منذ مطلع القرن الحالي، في ضوء ما بدأ يمثّل من أهميّة جيواستراتيجية في ظلّ المتغيّرات المستجدّة فيه.2
جيوبوليتيك القطب الشمالي
سقفُ العالم، بعددِ سكانٍ لا يتجاوز أربعة ملايين نسمة وبواقعٍ جغرافي متغير نتيجة الاحتباس الحراري، يشكل القطب الشمالي ساحة صراع جديدة ويتميز بمميزات جيوبوليتيكية فريدة. وهو يمتد على مساحةٍ تصل إلى 27 مليون كلم2، ويشكل المحيط المتجمد الشمالي معظمها، وتطل عليه خمس دول، هي روسيا والولايات المتحدة الأميركية، عبر ألاسكا، وكندا والنرويج والدنمارك، من خلال جزيرة غرينلاند. وتزداد الأهمية الاستراتيجية للقطب الشمالي مع وجود دول متداخلة معه في مقدمها فنلندا والسويد.
تؤدّي التبدلات القائمة في منطقة القطب الشمالي إلى تغييرات جيواستراتيجيّة جذرية في العالم، عبر تقديم ممرّ بحري جديد لم يكن قائماً وهو الممر الشمالي الشرقي من الصين إلى أوروبا عبر القطب الشمالي، وهذا الممر الذي قد يصبح أحد أهم طرق التجارة في العالم أقصر بـ6000 كلم من الطريق عبر المحيط الهندي وقناة السويس، ويمتد معظم هذا الطريق البحري الجديد في المياه الروسية.
تَقَدُّمُ الولايات المتحدة الأميركية في القطب الشمالي هو على قدم وساق، وذلك عن طريق قواعد حلف شمال الأطلسي والقوات الخاصة بها. أما روسيا فهي بدورها تطالب بمساحة تفوق مساحة فرنسا وألمانيا معاً، وتنشر قواعدها العسكرية في مناطق من القطب الشمالي. وبالنسبة إلى الصين، فهي تدَّعي حقها في الاستحواذ على خُمس ثروات القطب الشمالي، بفعل أن عدد سكانها يساوي خُمس عدد سكان العالم.
"من يملك القطب الشماليّ، يتحكّم في مصير العالم"، مقولةٌ أصبحت تتردّد في أوساط المفكّرين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين، نظراً إلى ما يحدث من متغيّرات في تلك المنطقة الاستثنائية، لأنّ التنافس على الموارد وزيادة القدرات العسكريّة فيها جعلا القطب الشماليّ منطقةَ صراعٍ حاد في المستقبل.
ثروات القطب الشمالي "كنزٌ هائل"
يُعَدّ القطب الشمالي من أروع المناطق على وجه الأرض وأكثرها عرضة للتهديد في الوقت نفسه.
وتحت هذه المساحة العملاقة ترقد ثروات معدنية ضخمة، أهمها الذهب والبلاتين والقصدير وغيرها. والأهم من ذلك، وجود احتياطيات هائلة من النفط والغاز الطبيعي. وتتميز البيئة في القطب الشمالي بنظام بيولوجي وأيكولوجي متنوع، فهي تضم أكبر إقليم أحيائي بَرّي في العالم، وهو "التايغا" أو الغابة الشمالية، بالإضافة إلى "التندرا"، التي تقع شماليَّ حزام "التايغا". وهذه البيئة، هي محط أطماع الصيادين، بالإضافة إلى أنها محط أنظار السيّاح الذين يعشقون حبّ المغامرة في طبيعةٍ كتلك الموجودة في القطب الشمالي، عدا عن الأهمية الكُبرى التي يعطيها الباحثون والعلماء لتلك المنطقة المليئة بالأسرار والغموض.
صراع الدب والنسر والتنين
رياح الشمال، صقيعٌ يتسيّد المنطقة الشمالية وتنخفض برودته شيئاً فشيئاً، ليس بفعل الاحتباس الحراري وحده، بل بسبب زحمة الآليات، فلقد خصصت الولايات المتحدة الأميركية نحو أربعة مليارات دولار لإعادة تأهيل القاعدة الاستراتيجية، "ثول"، في غرينلاند.
ويحاول الغرب الأطلسي، وتتقدمه الولايات المتحدة الأميركية، اللحاق بالاندفاع الروسي منذ عام 2014 في تعزيز حضوره العسكري في القطب الشمالي، ورأينا كيف أن فنلندا تخرج من حيادِها التاريخي وتدخل في حلف شمال الأطلسي.
في المقابل، تعمل روسيا على ترسيخ نفسها لاعباً رئيساً في القطب الشمالي، ولا تدع مجالاً للشكّ في أن وجودها غير قابل للنقاش. فلديها مجموعة قواعد عسكرية متقدمة في القطب الشمالي، وتسعى دائماً لتعزيزها، وهو ما تسميه "الاتصال الاستراتيجي". وفي المقلب الآخر، تَعُدّ الصين نفسها قوةً عظمى، يجب أن يكون لها دور في جميع أنحاء العالم. وهي تدّعي منذ عام 2018 أنها دولة شبه قطبية. وهناك ثلاث أولويات للصين في المنطقة القطبية[2]: الأولى هي الأمن من تهديدات عسكرية وغير عسكرية؛ ثانياً الموارد، في كل أنواعها؛ ثالثاً العلوم، وخصوصاً العلوم الاستراتيجية.
إذاً، اللعبة اليوم معقدة بين النسر الأميركي الذي لا يريد مواجهة الدب الروسي مباشرة، لكنه يسعى لتطويقه بعد خروجه من عزلته وإيحائه في أنه صارَ سريعَ الحركة، وفي المقابل، يراقب التنين الصيني من كثب هذا الصراع غير المباشر بين الدب والنسر، وينتظر ما سيحمله النهر من غنائم.
مستقبل الصراع وتأثيره في الأمن الدولي
من يبعث الحرارة في صقيع القطب الشمالي؟ ولماذا؟
من المؤكد أن الكباش القائم بين الدول الكبرى في القطب الشمالي سيؤثر في الأمن الدولي ككل، بحيث إنه، بموجب القانون الدولي حالياً، لا يوجد بلد يمتلك القطب الشمالي أو منطقة المحيط المتجمد الشمالي المحيطة به.
من هنا، نجد أن "الناتو" يريد أن يعسكر المنطقة في القطب الشمالي، ويريد تطويق روسيا وكبح نفوذها. وتدرك موسكو مسبقاً خطورة هذه اللعبة، فهي تنشر صواريخ استراتيجية ونووية تكتيكية في بيلاروسيا، وتقيم المدرجات العسكرية في القطب الشمالي.
والصين ترى نفسها مستهدَفة أيضاً، وخصوصاً في ظل الوجود التجاري، بعنوان الطريق البحري الشمالي. وهي، في هذا الإطار، شَرَعَت في بناء أسطول من كاسحات الجليد لاستخدامها في المحيط المتجمد الشمالي للوصول السهل والسريع من آسيا إلى شمالي روسيا وأوروبا.
علينا أن نتذكر ما قاله وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، ومفاده أنه "لو اتحدت الصين وروسيا تنتهي أميركا"، فهدف الغرب دائماً هو إبعاد الصين عن روسيا، وإبعاد الصين وروسيا عن ألمانيا.
خلاصة واستنتاج
في النهاية، نعيد ونؤكد أن القطب الشمالي يكتسب أهمية جيواستراتيجية واقتصادية تزداد يوماً بعد يوم بفعل ذوبان الثلج بسبب الاحتباس الحراري. وهذه الأهمية تتمثل بوجود موارد وثروات هائلة، بالإضافة إلى أن منطقة المحيط المتجمد الشمالي، أو الذي أصبح متجمداً نسبياً، تُعَدّ أحد طرق التجارة والملاحة الأهم في الأعوام المقبلة. ومما تقدم، نستنتج الأمور التالية:
أ- تَوَسُّع الناتو شرقاً، وشهدنا حديثاً انضمام فنلندا إلى هذا الحلف، يعود بنا إلى ما كان يُسمى سياسة الاحتواء لروسيا، لأن الولايات المتحدة الأميركية لا تريد التعددية ولا حتى الثنائية القطبية، هو ما لا يخفيه قادتها، ويؤكدون ضرورة أن تبقى أميركا العُظمى هي المهيمنة على العالم.
ب- يمكن القول أن العالم دخل لعبة حافة الهاوية من باب القطب الشمالي، فنحن أمام خيارين: الأول هو التعاون البنّاء بين الدول الكبرى في منطقة القطب الشمالي، وما فيه خيرٌ للجميع، والثاني هو الذهاب نحو صراعٍ عسكري قد لا نستطيع التنبؤ كيف يمكن أن تكون نهايته، ولمَن الغلبة فيه.
ج- تُوَسِّعُ الصين نفوذها، أي أننا نشهد صحوة التنين، لكن طموحاتها الحقيقية تبقى لغزاً غامضاً: هل ستأتي بعد الصين الأفريقية، صينٌ قطبية شمالية؟
د- إذا كان الاحتباس الحراري هو محرك ذوبان الجليد في القطب الشمالي، وبالتالي إمكان الدول العظمى استثمار كنوز الشمال الهائلة، فيمكننا القول إن فكرة مكافحة الاحتباس الحراري والتبدل المناخي هي خدعة تمارسها تلك الدول على الدول الأقل قوة والشعوب المستضعفة.
ه- الأهم من كل ذلك أن لا أحد اليوم يمكنه الادعاء أنه يمتلك الشمال، وتبقى سيادة القطب الشمالي بيضاء، وأن مستقبل البشرية سيتقرر في هذه المنطقة، في انتظار اكتشاف مناطق أكثر غموضاً، مثل الفضاء الخارجي، وحينها سنقول مَن يملكُ الفضاء؟
وفي رأيٍ شخصيٍّ، لا يرى في المدى القريب أي نزاع أو صراع مسلح مباشر بين الدول العظمى، أقله في تلك المنطقة، وذلك ليس بسبب عدم توافر الأسباب، وإنما بسبب تكلفة الحرب في حال اندلعت. فأغلبية المتصارعين من ذوي الترسانة النووية، وحربٌ كهذه قد تكلف العالم الكثير، وتضع مصيره على المحك. ويبقى هناك احتمال بشأن معجزة مناخية توقف ارتفاع الحرارة وذوبان الجليد، وتوقف معها طموحات الدول العظمى، لأنه من دون هذا الذوبان سيكون الاستثمار مكلفاً.
وأخيراً، مَن الذي سيسبق الآخر: هل الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الغربي، اللذان يسعيان لتطويق روسيا، ثم التفرد بالصين، أم أن تحالف الدب والتنين سيكون في الطليعة، وسيُنهي فعلاً هيمنة النسر، كما قال كيسنجر يوماً ما؟