اللاجئون الأوكرانيون في روسيا.. مآل الهوية واتهامات بالخيانة
"أوبّا" أو جيش التمرد الأوكراني، هي قوات شبه عسكرية مكوّنة من القومية الأوكرانية، والتي أصبحت في وقت لاحق جيشاً حزبياً قام بسلسلة من حرب العصابات خلال صراعات الحرب العالمية الثانية
توارت الشمس عند الأصيل، عندما كنا نسير على طريق طويل يتوسط سهولاً فارغة ازدانت ببياض الثلج، لقد كانت وجهتنا نحو "بولشي بيرزينكي" وهي بلدة ريفية تبعد عن موسكو 700 كلم شرقاً جنوباً، هناك حيث يقيم يوري الذي لجأ من ماريوبول منذ آذار/مارس 2022، ولم يكن ليخفي تشاؤمه بما ستؤول إليه الحرب حينما أخبرنا وهو يضرب بسبّباته على الطاولة: "لن يكون هناك سلام بعد الآن في عالمنا، سيبقى الناس يقاتلون دائماً من أجل شيء ما".
بحسب مفوضية اللاجئين للأمم المتحدة وصل حوالي 3 ملايين لاجئ أوكراني إلى روسيا، من أصل 8 ملايين لجأوا إلى بلدان مجاورة لأوكرانيا، غير أن موسكو تدّعي أنها استقبلت ما يزيد عن 4 ملايين لاجئ من أوكرانيا، وفقاً للخارجية الروسية، إنهم "وصلوا طواعية إلى روسيا، ويعيشون بحرية، ولا أحد يمنعهم من التنقّل أو مغادرة روسيا، وهو ما أكدته مفوضية حقوق الإنسان".
كثيراً ما عرضت موسكو على اللاجئين الأوكرانيين الحصول على الجنسية الروسية في وقت وجيز من خلال اعتماد إجراءات مبسّطة، فهل آمن هؤلاء ببشارات بوتين على أنه مخلّصهم الجديد من "النظام الفاشي" في أوكرانيا؟
"لن أعود، ولست خائناً"
"لن أعود إلى ماريوبول أبدأ.. لا أريد، بل أفضّل البقاء في روسيا، على عكس صديقي أندريه الذي يحلم ليل نهار بالعودة إلى الديار". يتحدث يوري لـ "الميادين نت" كمن لم يعد له شيء يعود لأجله، أو أن الرجل ذي الـ 37 ربيعاً اندمج فعلياً في المجتمع الجديد، ففي الأشهر الأولى كان يتعذّر عليه فهم الناس جيداً عندما يتكلمون بسرعة، حيث أن البلدة التي يقيم فيها حالياً هي جزء من جمهورية مرودوفيا الروسية، وتختلف لكنة الكلام هناك حرفياً عن موسكو وكذلك في الشرق الأوكراني.
بعد شهر من اندلاع القتال، أمضاه يوري مختبئاً في قبو منزل الجيران في معظم الأحيان، قبل أن يسحبه الجنود الروس بعيداً إلى الحدود، وكان يوري يصمت من حين لآخر لعله كان يحاول أن يستدرك أحداثاً نسيها: "لم أخضع لأي نوع من التفتيش من قبل الجيش الروسي.. لقد أوقفني أحد الجند وأنا أركض هارباً، غطا ظهري وأخذني إلى الكنيسة قبل أن يتم نقلي بعيداً مع العديد من المدنيين على متن شاحنة مدرعة".
كانت أكبر صدمة تلقّاها يوري هي اتهامه بخيانة أوكرانيا، وقد أسرّ لنا بخيبة أمل شديدة: "عندما غادرت ماريوبول ووصلت إلى نوفوازوفسك، راسلت أصدقائي أخبرهم بأنني على قيد الحياة.. أجابني أحدهم بأن الله سيعاقبك، ووصفني آخر بأنني خائن للوطن.. هو الآن في أوديسا ودامت صداقتنا 10 سنوات، لكن التواصل بيننا انقطع منذ تلك اللحظة، وآلمني ذلك حقاً".
"حماية العالم الروسي"
لطالما ادعت موسكو أنها تقود حرباً ضد ما تسميه بـ "الفاشية الجديدة" ضد الروس، فالمناطق الشرقية التي ضمتها روسيا إلى أراضيها الشاسعة، ينحدر معظم سكانها من أصول روسية، ولأجل هذا أصدر الكرملن وثيقة "السياسة الإنسانية" بعد 6 أشهر من اندلاع الحرب.
تنص هذه الوثيقة على أنه يتوجب على روسيا "حماية تقاليد ومُثل العالم الروسي وضمان سلامتها والنهوض بها"، وفي حين جرى تقديم الوثيقة كإحدى استراتيجيات القوة الناعمة، فإن الغرب اعتبرها تكريساً لأفكار سياسية ودينية استخدمها بعض المتشددين لتبرير ضم موسكو لأجزاء من أوكرانيا ودعم الكيانات الانفصالية المؤيدة لروسيا في شرق أوكرانيا في صلب السياسة الخارجية الرسمية للدولة.
لجأ ألكسندر ميخائيلوفيتش من نوافا كاخوفكا في إقليم خيرسون، الذي تسيطر الحكومة الروسية وجيشها على معظم أراضيه، والآن يقيم الرجل البالغ 65 عاماً وحيداً في غرفة بفندق في ضواحي موردوفيا، بعيداً عن مسقط رأسه بأزيد 1500 كلم، ولقد حصل على المواطنة الروسية بعد أشهر قليلة من وصوله إلى روسيا.
توفيت زوجة ألكسندر عام 2014 من مرض خطير، وهو أب لولدين بالغين، لكن قضيتهما لا تقل مأساة بالنسبة له عن فقدان أمهما، فهما لا يشاركان أفكار والدهما، بل إن الابن الأصغر يقاتل إلى جانب الجيش الأوكراني، وكان الاتصال قد انقطع منذ أشهر عديدة بعدما فشلت كل محاولات الإقناع.
"نحن شعب واحد"
خلال حديثه لـ "الميادين نت" يستعيد ألكسندر جزءاً من ذكرياته: "أنا شخص نشأ على التقاليد السوفياتية، ولدت وترعرعت في قرية في منطقة خيرسون، وخدمت في الأسطول الشمالي على متن سفينة مع الروس والبيلاروسيين والكازاخستانيين.. بالنسبة لي، هناك دائماً حقيقة واحدة.. نحن شعب واحد".
بعد أن استقرّ به الحال في روسيا، أصبح الرجل مقتنعاً مرة أخرى بحقيقة الشعب الواحد: "لدينا الأعياد والتقاليد نفسها، لكنهم يحاولون الفصل بيننا"، يصمت قليلاً ثم يسترسل ألكسندر كمن يسارع الخطى: "بدأت هذه الحالة المزاجية في الظهور منذ زمن بعيد، عندما بدأ الناس يؤمنون تباعاً بالأحكام القائلة بأن مقاتلي أُوبّا هم أبطال قوميون".
"أوبّا" أو جيش التمرد الأوكراني، هي قوات شبه عسكرية مكوّنة من القومية الأوكرانية، والتي أصبحت في وقت لاحق جيشاً حزبياً قام بسلسلة من حرب العصابات خلال صراعات الحرب العالمية الثانية ضد كل من ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا وبولندا.
أدرك ألكسندر حينها أن هذه الحالة المزاجية لن تنتهي على ما يرام، "حتى أن عيد النصر في 9 ماي، الذي اعتبرناه يوماً مقدساً، تحوّل إلى يوم حداد في أوكرانيا.. كيف يمكن لرجل شارك أجداده في الحرب الوطنية العظمى أن يقبل بكل هذا؟ "يتابع الرجل باستنكار شديد".
على الطرف الآخر يشتد القتال في أبرد شهور السنة، ولا تلوح في الأفق أي بوادر إحلال السلام، بعد مضي عام كامل على اندلاع الحرب، يبقى اللاجئون يشاهدون الوطن بمزيج من الخوف والأمل، فاستمرار القتل والدمار يؤجّل خطط العودة.