استراتيجيات التحوّط الاستراتيجي السعودي مقابل إيران.. التطبيع السياسيّ أداة
يعدّ التحوّط الاستراتيجي بمثابة البديل الثالث والاستراتيجية الوسط بين استراتيجيات الأمن القومي التي تتبنّى الميكانزمات الصراعية من جهة، وبين تلك التي تتبنّى ميكانزمات تعاونية من جهةٍ مقابلة
يعدّ مفهوم التحوّط الاستراتيجيّ من أهم استراتيجيات الأمن القومي المعاصرة التي تتبنّى مختلف الآليات المتضاربة والتعاونية، لتحقيق المصلحة القومية أو الوطنية.
برز هذا المفهوم في السنوات الأخيرة في خطاب العلاقات الدولية، اشتقاقاً من الاقتصاد في الأربعينيات من القرن الماضي، حين اقترحه الاقتصاديون وصقلوا مفهومه (Hedging)، وتحوّل إلى عنصرٍ أساسيٍّ في استراتيجيات التمويل بحلول الستينيات، باعتباره إجراءً يُتخذ في سوقٍ معيّنٍ، وذلك في محاولةٍ للتعويض عن التعرّض لتقلّبات الأسعار في سوقٍ آخر بهدف تقليل التعرّض للمخاطر غير المرغوب فيها، وبذلك يكون التحوّط شكلاً من أشكال التأمين.
ورغم ظهوره المبكر في حقل الاقتصاد، إلّا أنّه تأخّر في حقل السياسة، إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من دون بلوغه عتبة النضج المعرفيّ بعد. فلم يتمّ التوصّل إلى صيغةٍ نهائيةٍ جامعةٍ حوله، واكتفى الباحثون والمفكّرون باستخدامه وفق مقتضيات المجال البحثيّ سواء السياسات الخارجية، وبعضهم في مجال الدراسات الأمنية، وبعضهم ذهب نحو تطبيقاتٍ له في العلاقات الدولية.
التحوّط الاستراتيجيّ هو نمط تفاعلٍ معاصر بين الدول، مدفوعٌ في المقام الأول بحسابات الحالة الطارئة للدولة، وهو نتيجةٌ للمتغيّرات الإقليمية والدولية المتغيّرة في بيئة عدم يقينٍ استراتيجّي، تمارسه الدول على عدّة مستويات. الأول: دولٌ صغيرةٌ تجاه صراع دولٍ كبرى، فتتحوّط الدول الصغيرة من نتائج هذا الصراع، وتعمل على تقليل آثاره على أمنها القومي، أو استخدامها كأداةٍ وساحةٍ لهذا الصراع.
المستوى الثاني، تستخدمه الدول الصغرى والمتوسطة ضدّ قوةٍ مشابهةٍ في نظامٍ إقليميّ محدّد، لتقليل إمكانية التصادم المباشر، والمستوى الثالث التحوّط كنهجٍ في السياسات الخارجية للدول الصغيرة تستخدمه لتعزيز مكانتها السياسية وتجنّب الصراعات الدولية أو خضوعها كليّاً لهيمنة دولةٍ كبرى.
تُعرِّفه (إيفلين جوه)، أستاذة الاستراتيجية في الجامعة الوطنية الأسترالية، بأنّه مجموعة من الاستراتيجيات التي تهدف إلى التخطيط الطارئ في موقفٍ لا تستطيع فيه البلدان اتخاذ قراراتٍ بشأن بدائل أكثر وضوحاً، مثل: الموازنة أو المشاركة أو الحياد، بدلاً من ذلك، تتكيّف الدول مع الموقف الوسطي الذي يحبط أو يتجنّب الاضطرار إلى اختيار سياسةٍ على حساب أخرى، ويعني إبقاء أكثر من خيارٍ استراتيجيٍّ مفتوحٍ ضدّ احتمال وجود تهديدٍ أمنيٍّ مستقبليّ لا تعتمد فيه الدولة على استراتيجية واحدة في مواجهته.
كما أنّ "التحوّط" هو خيارٌ استراتيجيٌّ تقوم به الدولة من خلال عدم الانحياز إلى أيّ طرف، سواءٌ بشكل مؤقتٍ أو دائمٍ (جوه، 2006)، طبعاً إذا كان التحوّط في إطار تجنّب صراعٍ دوليّ، أو من خلال اتباع سياستين متعارضتين تجاه دولة أخرى إذا كان مصدر التهديد مباشراً من قبل دولةٍ مهدّدة، من خلال آليتي التوازن والمشاركة، والتي من خلالها تستعد الدولة للأسوأ من خلال الموازنة والحفاظ على جيش قوي، وبناء التحالفات وتعزيزها، مع الاستعداد أيضاً للأفضل والمشاركة من خلال بناء شبكاتٍ تجاريةٍ، وزيادة الروابط الدبلوماسية، وخلق أطرٍ ملزمةٍ متعدّدة الأطراف. (Hemmings 2013).
يُعدّ التحوّط الاستراتيجي قريباً من افتراضات النظرية الواقعية الدفاعية، ولكن بعض الفروق الجوهرية لا تضعهما في سياقٍ معرفيٍّ واحدٍ أو متسلسلٍ، فالواقعية الدفاعية هي نظريةٌ سياسيةٌ عُرفت في بادئ أمرها من قبل عالم السياسة كينيث وولتز في نظريته "فهم السياسة الدولية"، حيث اعتبر أنّ النظام الهيكليّ الفوضويّ الدولي يفضي إلى سياساتٍ معتدلةٍ ومتحفّظةٍ من أجل المحافظة على تحقيق الأمن واستمراره، (وهبان 2016).
ووفق الافتراضات ذاتها تجبر الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي الدول الصغيرة والمتوسطة على تنفيذ استراتيجيات التحوّط، والاختباء، والتقييد في السياسات الخارجية، خاصةً في أوقات عدم اليقين. وهي البيئة السياسية لتنفيذ "التحوّط الاستراتيجي"، ويتقاطع بذلك التحوّط الاستراتيجي مع مبادئ الواقعية الدفاعية بما في ذلك التوازن ضدّ تهديدٍ محتمل، وتنفيذ سياسةٍ مقيّدةٍ تجاهه وتعزيز قدرات الدفاع المحلية، والهدف المشترك هو تجنّب تداعيات حالة المعضلة الأمنية (2010 Miller).
وتتوافق النظريتان في غاية الدولة في النظام الفوضوي فـ «الشاغل الأول للدول لا يتمثّل في زيادة القوّة إلى حدّها الأقصى، بل في الحفاظ على موقعها في النظام
(Waltz 1979)"، كما أن الدولة تجنّد مجموع القدرات العسكرية، الاقتصادية والبشرية، في حال التهديد الخارجي وإدراك هذا الخطر مرتبطٌ بذاتية القادة السياسيين، الذين يسعون إلى الدفاع عن المصالح الحيوية فقط، وأكبر مصلحة حيوية هيّ الأمن (مخلف 2014)، وهي الافتراضات ذاتها التي تنطلق منها مقاربة التحوّط الاستراتيجي.
ومع ذلك، فالفروقات بين النظريتين لا تجعلهما في سياقٍ واحد، فعلى عكس الموقف الواقعيّ الدفاعيّ، فإنّ استراتيجيات التحوّط تعطي بعض الحركة والتعاون الاقتصاديّ والاجتماعيّ السياسيّ مع القوة المهدّدة لمحاولة تجنّب خطوة الصراع في المستقبل معها. ويشير بعض العلماء إلى هذا النوع من السلوك على أنّه توازنٌ ناعمٌ حيث تتعاون الدول مع الفاعل الأكثر قوةً بينما تستخدم مجموعة متنوّعة من الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية والمؤسسية لتقويض قدراته التي يهدّد بها (Brooks 2005).
على الرغم من التناقض الواضح بين غايات التعاون وأدوات زعزعة الاستقرار، فإنّ استراتيجية التحوّط الفريدة تعمل إذا نظرت الدولة إلى منافسها على أنّه تهديدٌ حقيقيٌّ وفوريٌّ لأمنها (ress-Barnathan 2006). للهروب من التهديدات بينما تتبنّى بشكلٍ متزامنٍ عناصر من التوازن التقليدي ضدّها، وهو ما لا تفعله استراتيجية التوازن الناعم.
بذلك يعدّ التحوّط الاستراتيجي بمثابة البديل الثالث والاستراتيجية الوسط بين استراتيجيات الأمن القومي التي تتبنّى الميكانزمات الصراعية من جهة، وبين تلك التي تتبنّى ميكانزمات تعاونية من جهةٍ مقابلة، وطريقاً ثالثاً بين التوازن الصلب والناعم، وحلاً وسطاً بين المواجهة المباشرة والاعتمادية على الدول الكبرى (الدسوقي، 2019).
تتضمن استراتيجية التحوّط أبعاداً محدّدةً هي: (الأحبابي 2023).
(1) التعاون الأمنيّ والدفاعيّ، بما في ذلك الانخراط في تحالفاتٍ رسمية، مع فاعلين (إقليميين أو دوليين) مناهضين لسياسات الدولة القائد أو الكبرى أو الصاعدة مصدر التهديد (الدولة المهدِّدة) للأمن الوطني للدولة المتحوّطة.
(2) تأسيس علاقات تعاونية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع الدولة المهدِّدة.
(3) بناءٌ مستمرٌ للمقدرات الذاتية للدولة، ولا سيما لجهة زيادة التسلّح، وما يرتبط بذلك من إعطاء الإنفاق الدفاعيّ أولويةً متقدّمةً على ما عداه من أوجه الإنفاق العام.
(4) سلوكٌ خارجيٌّ محايدٌ تجاه الأزمات الإقليمية أو الدولية التي تكون الدولة المهدّدة طرفاً فيها؛ أو سلوكٌ خارجيٌ تدخّليٌّ يرتكز كليةً على أسلوبي الوساطة والمساعي الحميدة.
تحاول الدولة المتحوِّطة أساساً تقليل التهديدات الموجّهة لاستقرارها، والبقاء في عالمٍ فوضويّ، وأنّ دافعها في ذلك ليس الحصول على مكاسب مادية، أو تغيير وضعها النسبيّ وإنّما تأمينه من خلال التحوّط. لذلك تنتهج الدولة سياساتٍ متعاكسةً. فمن جهة تعزّز تعاونها الاقتصادي مع مصدر التهديد، وتستعدّ لمواجهةٍ دبلوماسيةٍ وعسكريةٍ من خلال زيادة القدرات العسكرية من جهةٍ مقابلة.
نرى هذه المقاربة مفيدة لفهم السياسة الخارجية السعودية مؤخّراً التي كانت مليئةً بالمتناقضات (والسياسات المتعاكسة) سيما التطبيع مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بوساطةٍ صينيةٍ، تزامناً مع عقد صفقاتٍ ماليةٍ ضخمة مع الولايات المتحدة واقتراح تطبيعٍ مشروطٍ مع الكيان الإسرائيليّ، في سياقٍ مناقض لسياق التطبيع.
وكذا الأمر تتوافق المملكة مع روسيا في تفاهمات أوبك بلس بما يعاكس جهود واشنطن في الحرب الأوكرانية للضغط المالي على روسيا، تزامناً مع زيارة الأمير فيصل بن فرحان إلى أوكرانيا ودعمها مالياً بـ(410) ملايين دولار، وأيضاً تقاربٌ سعوديٌّ-صينيٌّ، يتزامن مع صفقاتٍ ماليةٍ كبيرةٍ مع واشنطن تقدّر بـ(37) مليار دولار.
هذه المتناقضات في السياسة الخارجية السعودية، ليست ارتباكاً بتقديري أو حياداً على ما يبدو، بقدر كونها مقاربة سياسية جديدة في السياسة الخارجية، انطلاقاً من نظرةٍ واقعيةٍ بنيويٍة للعلاقات الدولية على مستويين. الأول: المستوى الدوليّ الراهن، والمتعلّق ببنية النظام الدولي الفوضويّ والذي يمّر بمرحلة عدم يقيٍن من جهٍة، وعدم تعيينٍ من جهة أخرى.
فاللحظة أحادية القطب انتهت ولم تتبلور بعد لحظة جديدة، فالتعددية لا تزال افتراضاً والعودة إلى اللحظة أحادية القطب باتت أكثر صعوبةً، والتنافس الصينيّ الأميركيّ حاكمٌ لمستقبل النظام الدولي. والمستوى الثاني: إقليميٌّ، نابعٌ من تهديدٍ متصوّرٍ متبادلٍ بين المملكة السعودية من جهة، والجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهةٍ أخرى، وعدم يقينٍ متبادلٍ يهمين على المشهد منذ أربعة عقودٍ تقريباً، تخلّله الكثير من الصراع والتهديد المتبادل.
هنا نعيد ترتيب المشهد استناداً إلى ما سبق، فتطبيع العلاقات السعودية -الإيرانية يكون بذلك تحوّطاً سعوديّاً استراتيجيّاً ضدّ إيران، من خلال إبداء التطبيع السياسي معها. وربما سنشهد توسيعاً للتعاون الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وفي الوقت ذاته استمراراً للصراع بينهما في ساحاتٍ أخرى سيما اليمن والعراق، مع استمرار المملكة في بناء تحالفاتٍ إقليميةٍ جديدةٍ ضدّ إيران في المنطقة، (قد) تكون "إسرائيل" جزءاً منه.
وهنا يصبح التطبيع السعوديّ الإيرانّي تحوّطاً استراتيجياً، وليس تطبيعاً بالمعنى السياسيّ للكلمة، فتتعامل السعودية مباشرةً مع مصدر التهديد المتصوّر لها، لتقليل مخاطر المواجهة في ساحاتٍ أخرى، وتستمر في الوقت ذاته في بناء المقدّرات العسكرية والاقتصادية لموازنة مصدر التهديد استراتيجياً، وهكذا الأمر.
فالسياسة الخارجية السعودية تجاه كلٍّ من الصين والولايات المتحدة وروسيا هي ممارسة تحوّطٍ استراتيجيّ، إذ تبدي المملكة عدم انحيازٍ معلن لأيّ طرفٍ، ولكن تبقي أكثر من خيارٍ استراتيجيٍّ مفتوحاً ضدّ احتمال وجود تهديدٍ أمنيٍّ مستقبليٍّ من قبل قوى مهيمنة في العلاقات الدولية.
وإذا كان التحوّط مقاربةً مفيدةً في بيئة الصراع والاستقطاب الشديد دولياً، حين يكون مصدر التهديد قريباً وأحياناً وجودياً، إلّا أنّ الكثير من المخاطر الجانية ستكون حاضرةً ومؤثّرةً على الدولة (المتحوّطة). في مقدّمها التكاليف والأعباء المالية لممارسة التحوّط، التي قد تستنزف الدولة المتحوّطة، فتضطرّ إلى ممارسة احتواءٍ اقتصاديٍّ متعدّد الأطراف، وهو ما يجري حالياً مع المملكة، وطبعاً هو بطبيعته غير مستقرٍ.
إضافةً إلى ذلك، فالتحوّط الاستراتيجيّ إن لم يكن متبوعاً بخطواتٍ (تبادل الثقة الحقيقي) سيدفع إلى تفاقم (المعضلة الأمنية) بين الدولة المتحوّطة ومصدر تهديدها المتصوّر، ويعمّق من الصراع، ويشعل مزيداً من الصراعات الجانبية في ساحاتٍ أخرى.
ولكن التكلفة الأكبر قد تكون استراتيجيةً، فمحاولة تأدية دور القوة الإقليمية المهيمنة والتحوّل من قوةٍ متوسطةٍ إقليمياً إلى قوةٍ مهيمنة، قد تدفع القوى الكبرى إلى تحدي استراتيجية التحوّط، والعمل على منع عملية التحوّل تلك، كما (قد) تستفزّ الدولة المتحوّطة جيرانها من القوى الصاعدة الإقليمية وتدفع بهم إلى سياساتٍ تكبح جماح نوايا الهيمنة الإقليمية.
يبقى أن نشير إلى أنّ التحوّط قد يكون مفيداً بالقدر الذي تحقّق فيه الدولة المتحوّطة شرطين أساسيين: التماسك الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي، والشرط الثاني وهو الأهم امتلاكها لقرارها الاستراتيجيّ.
وإذا كانت المملكة جادةً في خطوات التطبيع نحو الاستقرار، فعليها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بناء نظامٍ إقليميٍ متعدّد الأطراف يلزم جميع الأطراف، وهو الوحيد القادر على تحقيق استقرار المنطقة.