أوكرانيا تعيد روسيا كقطب عالميّ

يدرك والغرب والولايات المتحدة قلق روسيا الأمني في جوارها القريب والبعيد، أي الفضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.

  • يعتقد بوتين أنَّ الفرصة سانحة بعد هزيمة أميركا في أفغانستان
    يعتقد بوتين أنَّ الفرصة سانحة بعد هزيمة أميركا في أفغانستان

تشكّل إعادة أوكرانيا إلى الفلك الروسي جزءاً أساسياً من عقيدة الرئيس فلاديمير بوتين القائمة على مبدأ تأمين المجال الأمني لروسيا، ومحاولته دفع الغرب إلى التعامل مع بلاده كأنها لا تزال الاتحاد السوفياتي السابق الذي يحلم باستعادة مجده.

يعرف الباحث في الشخصية الروسية أنَّ روسيا لا يمكن أن تعيش من دون إمبراطورية. وإلا، لماذا وصف الرئيس بوتين انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 بأنه "كان تفككاً لروسيا التاريخية تحت اسم الاتحاد السوفياتي"، وأنه "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين".

يعتقد الرئيس بوتين أنَّ لديه مهمّة تاريخيّة، تقتضي بوقف التوسع الغربي إلى منطقة نفوذه، فأوكرانيا بالنسبة إليه هي خط أحمر، من أجل الحفاظ على الأمن في روسيا. هذه المهمة مرتبطة بصراع أوسع بين روسيا والغرب، عنوانه الأبرز ما تكرّره موسكو عن "توسع حلف الناتو شرقاً"، ومن ضمنه محاولات الحلف لضمّ أوكرانيا ودول أخرى إلى عضويته بناء على طلبها، الأمر الذي ترفضه موسكو، التي لم تكتفِ بالرفض السياسي، بل حدَّدت عبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الانضمام كواحدٍ من سببين للحرب، ليكون السبب الثاني هو محاولة انتزاع شبه جزيرة القرم من روسيا بالقوّة. هنا، يمكن القول إنَّ الغرب يعتبر الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا سبباً للأزمة، في حين تعتبرها موسكو نتيجة.

منذ وصول بوتين إلى السلطة في العام 2000، كان همه الأكبر هو تحدّي حلف الناتو، الذي يعتبر أنه لا يحاول دعم دول الاتحاد السوفياتي السابق أو ضمّها فحسب، ولكنّه يهدد روسيا نفسها أيضاً، فقد غزا الغرب في الماضي روسيا. وأثناء الحرب الأهلية بين 1917-1922، قامت القوات المتحالفة والمعادية للبلشفيك بغزوها، بما فيها القوات الأميركية. وقد غزتها ألمانيا مرتين، ما تسبّب بخسارة 26 مليون مواطن سوفياتي في الحرب العالمية الثانية.

لم يتوقّف بوتين عن الشكوى من عدم احترام النظام الدولي لقلق روسيا الأمني، وطالب الغرب باحترام حق روسيا في مجال الاتحاد السوفياتي السابق. ولهذا، قام بالتدخّل في الدول الجارة، مثل جورجيا في العام 2008، وأوكرانيا في العام 2014، وكازاخستان هذا العام، لمنع تحركها خارج الفلك الروسي والوقوف أمام أيّ عملية ميل كامل نحو الغرب.

لقد غذّى هذا الاعتقاد رغبة بوتين في الانتقام مما اعتبره إهانة تعرّضت لها روسيا عندما أُجبرت على القبول بالأجندة التي وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، والتي حقّقت هدفها من توسع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى أراضٍ كانت تابعة لموسكو قبل العام 1991، وعندما تمّ طردها من مجموعة الدول الثماني بعد ضمها القرم في العام 2014.

يدرك والغرب والولايات المتحدة قلق روسيا الأمني في جوارها القريب والبعيد، أي الفضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، فالنقاط الساخنة في جوارها تكاثرت بعد أزمات ناغورنو كاراباخ وبيلاروسيا وقيرغيزستان وكازاخستان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يكرر دائماً أنَّ بلاده لا تريد سوى الاستقرار (في المناطق التي لدى روسيا فيها مصالح).

إنَّ رؤية الرئيس بوتين لأزمة أوكرانيا تدخل ضمن محاولات روسيا إعادة رسم خريطة ما بعد الحرب الباردة، وتأكيد سلطتها على نصف أوروبا، بذريعة أنّ ذلك ضامن لأمنها، فلا ينبغي النظر إلى الأزمة الأوكرانية بمعزل عن التاريخ أو بتجاهل الواقع الجيوسياسي لأوكرانيا، باعتبار أنَّها كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق، بل ثاني أكبر جمهورية سوفياتية وأوروبية بعد روسيا من حيث المساحة.

ويؤدي موقعها دوراً مهماً في عبور إمدادات الغاز الروسية إلى دول غرب أوروبا. ورغم أنَّها مستفيدة مادياً من عائدات خط الإمداد الذي يمرّ من أراضيها، فإنَّ هذا الواقع يضعها في الوقت نفسه تحت ضغط مصالح متباينة، ويجعلها حلقة وصل ونقطة تجاذب بين توجهين سياسيين مختلفين في الشرق والغرب. وبعد مرور أكثر من 3 عقود على استقلالها، باتت الآن منقسمة بين شرق يتحدّث بغالبيته اللغة الروسية، وغرب يتحدث الأوكرانية.

ورغم أنَّ روسيا تنفي أيّ نيات عدائية تجاه أوكرانيا، فإنها تكرّر مطالبها لواشنطن وحلفائها بضمانات أمنية مكتوبة، بعدم توسع حلف الناتو شرقاً، وعدم انضمام أوكرانيا إلى الحلف أبداً. وقد قدّمت في شهر كانون الأول/ديسمبر 2021 للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مسودة مقترحات تلخّص مطالبها مقابل وقف تصعيد التوترات في شأن الجمهورية السوفياتية السابقة، وتنصّ على عدم ضمّ "الناتو" أعضاء جدداً، وتدعو إلى عدم إنشاء قواعد عسكرية في دول الاتحاد السوفياتي السابق.

وقد ذكّر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بتعهّدات الغرب في أوائل التسعينيات بأن "الناتو" لن يتمدد "شبراً واحداً شرقاً"، فحمّله مسؤولية "محاولة التهرب من تنفيذ هذه الوعود حالياً"، لكنَّ الحلف الذي لا ينكر وجود هذه التعهدات يقول إنها كانت شفهية فحسب.

وقد جاءت الردود من واشنطن و"الناتو" في 27 كانون الثاني/يناير الماضي، ولكنها لم ترضِ موسكو، فأعربت عن تشاؤمها، موضحةً "أنهما لم يتجاوبا مع المباعث الرئيسية لقلقها"، بينما قال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إنَّ الرد الأميركي على المقترحات الروسية يقضي بإيجاد الطرق الدبلوماسية للتحرك إلى الأمام، مشيراً إلى أنَّ الرد الأميركي تم تنسيقه بشكل كامل مع الحلفاء وأوكرانيا.

ومما يزيد قلق الرئيس الروسي قوله: "تخيَّل أنَّ أوكرانيا عضو في الناتو، وأن عملية عسكرية لاستعادة شبه جزيرة القرم بدأت... ماذا! هل سنحارب الناتو؟ هل فكّر أحد في ذلك؟ يبدو أنَّهم لم يفعلوا ذلك؟". واعتبرت وكالة "أسوشيتد برس"، في تقرير لها، أنَّ قوله هو "تذكير بما تعنيه عضوية الناتو، فالهجوم على عضو واحد يعني هجوماً على الجميع، وهو ما يعني في الحالة النظرية أنّ هناك التزاماً قانونياً من قبل جميع أعضاء الناتو للدفاع عن أوكرانيا".

تعتقد روسيا أنّ هجوم 11 أيلول/سبتمبر 2001 كان إشارة إلى أنَّ الولايات المتحدة يمكن أن تُهزم، فكانت فرصة سانحة لروسيا بقيادة بوتين حتى تستعيد نفوذها في العالم، وخصوصاً بعد هزيمة المشروع الأميركي - الإسرائيلي في انتصاري 2000 و2006. وإلا، لماذا لم يعلن الرئيس بوتين تمرده على المشروع الأميركي قبل خطابه التاريخي في العام 2007 في مؤتمر ميونيخ في شباط/فبراير؟

دخلت روسيا في حرب مع جورجيا في العام 2008، واستعادت جزيرة القرم، وتوغلت في شرق أوكرانيا في العام 2014 من خلال إعلان جمهوريتي "لوغانسك" و"دونباس" بعد سلخهما عنها، وتدخّلت في الحرب السورية في العام 2015. وقد اعتُبر هذا التدخل العودة الثانية لروسيا إلى الشرق الأوسط بعد التدخّل الأول في العام 1956 بعد هزيمة العدوان الثلاثي. يضاف إلي ذلك، التدخل الروسي في ليبيا حيث وثقت العلاقة مع الجنرال خليفة حفتر. 

وقد أعلن الجنرال تاونسند، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا في 26 مايو/أيار 2020، بصورة رسمية، نشر الروس عدداً من الطائرات العسكرية في المنطقة الليبية الواقعة تحت سيطرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ولا سيما قاعدة الجفرة. ولا ننسى التدخل الروسي في أرمينيا في العام 2020، والتدخل في كازاخستان هذا العام 2022 في الشهر الماضي.

من هذا المنطلق، يعتقد بوتين أنَّ الفرصة سانحة بعد هزيمة أميركا في أفغانستان بعد احتلال دام 20 عاماً، لفرض شروط أوسع في أزمته مع أوكرانيا، فالمشروع الأميركي في العالم ينحسر ويفرض إعادة هيكلة وخرائط جديدة وجغرافيا جديدة، والولايات المتحدة ضعيفة ومنقسمة وغير قادرة على تبني استراتيجية متماسكة في السياسة الخارجية.

ماذا لو اندلعت الحرب؟ ثمّة تحليل كتبه محرر شؤون الأمن والدفاع في جريدة "الغارديان" البريطانية، دان صباغ، الشهر الماضي، ورأى فيه أن بوتين سيكون قد بدأ حرباً كبرى لم يشهد العالم مثلها منذ الحرب على العراق في العام 2003 في حال غزت روسيا كييف عسكرياً.

وفي حال لم يُترجم التصعيد إلى حرب، فلا بدّ من مخرج، كأن تعترف واشنطن بمصالح روسيا الأمنية في أوكرانيا، وتصرّ "لفظياً" على حقّ كييف باختيار حلفائها على المدى البعيد. وبذلك، تكون الولايات المتحدة قد سلَّمت بنفوذ موسكو الإقليمي، في حين تسحب روسيا قواتها بعيداً عن حدود أوكرانيا، ولا تحاول تغيير نظامها السياسي المتحالف مع الغرب.

يقول الكاتب الأميركي ديفيد أغناطيوس إنّ "مطلب روسيا بالشعور بالأمن داخل حدودها ليس أمراً غير منطقي، فكل دولة تريد ذلك، ولو كان بوتين يعتقد أنه سيحقق ذلك عبر غزو أوكرانيا، فإنه سيفشل حتماً"، ويعتبر أن "فكرة غزو أوكرانيا أحلام تافهة مستحيلة، فالدول التي كانت تحمل الأحقاد، كما هو حال بوتين روسيا، لطالما حاولت التعامل مع المشكلة الجوهرية. وقد فعلت إسرائيل هذا العام 1982، عندما اجتاحت لبنان، وكذلك أميركا عندما غزت العراق في العام 2003، إذ اعترفتا بثمن الأخطاء الاستراتيجية".

لا أعتقد أبداً أنَّ الرئيس بوتين سيسمح لنفسه بإعطاء الغرب فرصته الثمينة بأن يبدأ بشنّ حرب ضد أوكرانيا، فربما يكون ذلك فرصة نادرة للغرب ليستجمع قواه ويتوحّد تحت غطاء عالمي، كما حصل أثناء غزو أفغانستان والعراق في العام 2003.

تطالب روسيا والصين وإيران بنظام جديد وبعالم متعدد الأقطاب تمارس فيه تأثيراً، وهناك عدد من المحللين الذين يرون أن الخيار الأفضل هو ما حدث أثناء الحرب الباردة، إذ احترم الاتحاد السوفياتي وأميركا تأثير كلّ منهما في مجاله الجغرافي، وتم نزع فتيل أهم وأخطر أزمتين في ذلك العهد:

الأزمة الأولى هي إنذار برلين النهائي للرئيس الروسي نيكيتا خرتشوف في العام 1958، وهي الأزمة الأكبر والأطول بين الأزمات العسكرية والسياسية الإقليمية في تلك الفترة، إذ استمرّت حتى العام 1963، واعتبر الرئيس خرتشوف أنَّ تسوية المشكلة الألمانية، وفقاً للشروط التي اقترحتها موسكو، ستؤدي أولاً إلى تحييد جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية). وبعد مرور بعض الوقت، ستؤدي ثانياً إلى اتفاقية عدم اعتداء جديدة في العلاقات بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفياتي.

الأزمة الثانية هي أزمة الصواريخ الكوبية 1962، إذ وصل العالم إلى حافة الحرب النووية، وظلَّ على أعصابه طيلة 13 يوماً، بسبب أزمة نشر الصواريخ السوفياتية في "خليج الخنازير" في كوبا، وتوصّل الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة إلى حل وسط.