أوروبا تتمسّك بكاسحات الثّلوج الدبلوماسية مع بوتين
التقدير في أوروبا اليوم، وهي عند منعطف حاسم ومصيريّ، هو إما أن تأخذ الهواجس الروسية على محمل الجد، وتُقدّم الضمانات للكرملين، وإما أن تخاطر باهتزاز أمنيّ وعسكريّ.
منذ ما يقارب شهرين، يحذر البيت الأبيض من اقتراب هجوم عسكري روسي على أوكرانيا، ويطلق مسؤولو الإدارة الأميركية هستيريا من التخويف والإرهاب جعلت أوروبا العجوز ترقص قلقاً.
ومنذ شهرين، ينفي الكرملين أي نيات من هذا النوع، ويكتفي بطلب ضمانات أمنية تبعد شبح الناتو عن حدوده، ويفتح أبوابه لكلِّ مسؤول أوروبي أو غير أوروبي يحمل مقترحات أو أفكاراً لحل الأزمة الخطِرة.
صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية قدَّمت مشهداً واقعياً لما يجري، حين قالت إنَّ فلاديمير بوتين يراقب من وراء مرتفعات الكرملين الرقص الدبلوماسي للدول الغربية. واحداً تلو الآخر، يستعرضون في الميدان الأحمر أو يتصلون به في بعض الأحيان لمدة ساعتين.
لمدة 10 أيام، كان النّشاط الدبلوماسي في ذروته، لكن لم يحصل أيّ منهم على أدنى تنازل من سيد الكرملين: جو بايدن، رئيس القوة العالمية الأكبر، إيمانويل ماكرون، زعيم أوروبا، مسؤولو الاتحاد الأوروبي، ألمانيا ذات النفوذ، بوريس جونسون المضطرب. كلّهم تعرَّضوا للرفض من فلاديمير بوتين.
ما تسمّيه الصحافة الأوروبية والأميركية "رفض بوتين" لما يتدفّق إلى مكتبه من مقترحات، هو في الحقيقة فشل لحاملي هذه المقترحات التي لا عنوان لها سوى "إخضاع موسكو وإجبارها على قبول تهديد أمنها القومي"، عبر تحويل أوكرانيا إلى منصة عسكرية أطلسية تتحكّم واشنطن فيها.
المشكلة البنيوية في أوروبا وانفصامها السياسي يكمنان في أنَّها تعي تماماً أن التصعيد القائم لم يكن بسبب مواقف موسكو، فمعظم العواصم صاحبة القرار في الاتحاد الأوروبي تشهد على أنَّ بوتين "لم يكن هو الذي أخذ زمام المبادرة للتصعيد، ولكنّهم الغربيون، من خلال الاقتراب من الحدود الروسية"، بحسب تحليل لمصادر مقربة من الرئاسة الفرنسية. في المقلب الآخر من الوجه الأوروبي، يظهر انسياق عواصمه وراء حفلة التضليل الأميركية، وتبعيتها للبيت الأبيض في تبنّي موجة التهديد بالحصار والعقوبات والعزل ضد موسكو.
إنَّه تناقض يكشف مستوى التردّي في مركز القرار الأوروبي وعجز قادته عن بناء سياسة مستقلّة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب الأوروبية؛ المتضرّر الأول من الأزمة وتداعياتها الكارثية، على الرغم من محاولة باريس وبرلين اللعب خارج الحلبة الأميركية والاستماتة في تأسيس دور مستقل، ولكنّه محكوم دائماً بالعوائق الأميركية.
التقدير في أوروبا اليوم، وهي عند منعطف حاسم ومصيريّ، هو إما أن تأخذ الهواجس الروسية على محمل الجد، وتُقدّم الضمانات للكرملين، وإما أن تخاطر باهتزاز أمنيّ وعسكريّ في القارة كلها، مع كلِّ ما سينجم عنه من كوارث، ولا سيما في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
في الحقيقة، إنَّ باطن التفكير الأوروبي يميل إلى ضرورة التسوية المتوازنة مع بوتين، على الرغم مما ستتركه من آثار سلبية متنوعة في قادة أوروبا، ومعظمهم مقبل على انتخابات رئاسية وتشريعية. ومن أجل ذلك، تنوي فرنسا، بالتنسيق مع ألمانيا، إطلاق المزيد من كاسحات الثلوج الدبلوماسية، توصلاً إلى إذابتها وتليين موقف بوتين، تمهيداً للوصول إلى قواسم مشتركة تبعد شبح التدهور العسكري.
وفي فرنسا بالتحديد، ثمة قناعة بأنَّ استمرار التفاوض هو السبيل الوحيد لحلِّ العقد مع روسيا، وأنَّ دبلوماسية التهديد التي يعتمدها الرئيس الأميركي يجب أن تُجمَّد في المرحلة الراهنة، لأنها لمست مباشرة كم يساهم الترهيب والضغط الممارس على سيد الكرملين في تشدّده وعزمه.
وفي هذا السّياق، تقول صحيفة "لو فيغارو"، نقلاً عن مصدر دبلوماسي فرنسي: "خلال 5 ساعات من النقاش بين ماكرون وبوتين الأسبوع الماضي في موسكو، رأى إيمانويل ماكرون رئيسًا مختلفًا عن الرئيس الذي استقبله في فورت بريغانسون قبل سنوات. لقد وجد فلاديمير بوتين أكثر صرامة. وجد صعوبة في مقاطعة مداخلاته الطويلة وإعادته إلى قضايا الساعة. لقد كان مهووسًا بالتاريخ، وقام بمراجعة تاريخية، وعاد باستمرار إلى الفترة التي لم يكن فيها حلف الناتو قد دمج بولندا والمجر وجمهورية التشيك في العام 1997".
ما الذي يوحي به هذا الجوّ؟ المؤكد أن بوتين ليس متهوراً، ولا يلعب عند حافة الهاوية، فالرئيس الروسي يعرف جيداً ما ينجم عن التحولات الجيوسياسية والجيوأمنية، وهو حين يقرأ التاريخ بكلِّ دلالات أحداثه، يستطلع المستقبل، ويريد الاحتفاظ بكلِّ ما يدرأ العاصفة عن بلاده.