هستيريا الاحتلال بعد 7 أكتوبر: تعذيب الأسرى وفبركة أخبار مؤذية عن عائلاتهم
يواصل الاحتلال الإسرائيلي اعتقال الفلسطينيين على نحو مكثّف ومتصاعد منذ 7 أكتوبر الماضي، وفي الفترة الأخيرة انتشرت صور لأسرى إداريين أُفرج عنهم، لكنّ المذهل في صورهم هو تباين الهيئة التي خرجوا بها مقارنة بما كانوا عليه قبل الاعتقال.
صورتان متجاورتان لا تشبه إحداهما الأخرى، لكن صاحبهما هو شخص واحد. وجه نضر وآخر متهالك. هذا المشهد أصبح يتكرّر في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الأخبار، كلما أفرج الاحتلال عن أسير فلسطيني ممن اعتقلوا بعد السابع من أكتوبر.
تنتظرهم عائلاتهم لتأنس بحضورهم، لكن أفراحهم منقوصة. فحين حاولت آية عبيدة أن تفرح بخروج زوجها محمد مشعل إلى الحرية في الساعة الأخيرة من شهر رمضان، وهي التي لم تره منذ ستة أشهر ولم تسمع شيئاً من أخباره، كانت صدمتها بما آلت إليه حالته من نحافة شديدة، ورأس ولحية كثّين، لم تعرفا الحلاقة منذ غيابه عن المنزل.
منذ خروجه من السجن، ومحمد لا يُرى إلا حاملاً ابنه البكر عاصم الذي لم يكمل عامه الثالث بعد. ولعاصم مع الاحتلال حكاية؛ يرويها محمد في كل مرة بالتأثّر نفسه. فمن وسط التعذيب والبرد والجوع، يستدعيه المحقّق الذي يحاول أن يظهر نفسه "إنسانياً" عبر السماح له بالاتصال بعائلته، وهنا يدخل محقّق آخر يخاطب الأول: "ماذا يفعل هذا عندك؟"، يجيب المحقّق الأول: "حرام، حالة إنسانية، يجب أن يتكلّم مع عائلته، لأن ابنه مات". فيردّ الثاني: "خلّي السنوار ينفعك". ويخرجه بعنف من الغرفة.
ليعود أبو عاصم إلى عذاب وقلق من نوع آخر، هل فعلاً مات عاصم؟ هل دهسته سياراتهم أثناء الاعتقال؟ هل مرض؟ هل قُتل برصاصة؟ لا أخبار ولا زيارات، لا كلمة ولا خيط أمل يوصله بعائلته، أو بأيّ كان خارج عالم السجن. بقي على هذا الحال طيلة ثلاثة أشهر وأكثر، إلى أن التقى محاميه الذي أوصل إليه رسالة شفوية من زوجته، تخبره فيها بأن عاصم بات يمشي ويتكلّم، فاطمأنّ أنّ ابنه حيّ.
تتحدّث آية عن ليلة الاعتقال. تُشتّتها كثرة التفاصيل. ففي الليلة ذاتها اقتحم الاحتلال بيوت الأخوة الخمسة، بيتها وبيوت أشقاء زوجها. وعاثوا فيها خراباً. وصادروا سيارة والدهم. واقتادوهم حفاة. صعدوا بهم الجبال وداسوا فوق الشوك وتحت الضرب. وبعد ذلك، اختفت أخبارهم. ليفرج الاحتلال عن جودت في اليوم التالي. ثم أعادوا اعتقاله مرة أخرى، ثم أفرجوا عنه. والشقيق الأكبر لمحمد هو أنس، أصيب بعد اعتقاله بفقدان الذاكرة من جراء الضرب المبرح على رأسه.
تتحدّث آية عن زوجها محمد كيف دخل عليهم وهم يتناولون الإفطار الأخير في شهر رمضان. كان دخوله مفاجئاً لهم. بعد أن سلّم عليهم وعادوا جميعاً إلى المائدة، علّق باندهاش: "لحمة؟ معقول هذه لحمة!". وحين دخل ليستحمّ كان كالطفل مبتهجاً غير مصدّق أنّ في الحمام ماء ساخناً.
أما عن الجوع في السجن فحدّث ولا حرج. فالطعام قليل ورديء جداً. يندهش محمد لرؤية البيض واللحم والدجاج والخبز وكل شيء. ويتذكّر كيف اضطر أن يأكل البيض متغاضياً عن رؤية النمل فيه وعن رائحته الكريهة. فالبيض يعتبر وليمة في السجن. وحين خفّف الاحتلال العقوبات نسبياً عن الأسرى، أصبحوا يحضرون للأسير بيضة مسلوقة في منتصف الأسبوع وبيضة في آخره. كان يخبّئ محمد البيضتين ليعدّ وليمته بهما يوم السبت.
أما الأسير المحرّر لطفي إسماعيل موسى، الذي اتصل بابنه ليستقبله عند البوابة بعد الإفراج عنه. فبادره بالسؤال عما حدث في غيابه، بعدما كان الاحتلال قد كذب عليه بنبأ استشهاد نجله ووفاة زوجة أخيه المعتقل. فعاش هواجس واضطراباً بالغاً طيلة مدة خمسة أشهر من اعتقاله الإداري، معتقداً بحقيقة النبأ. لكن حين أخبره ابنه الأكبر أنهما لا يزالان على قيد الحياة، لم يصدّق للوهلة الأولى، وظنّ أن ابنه يخبّئ عنه الحقيقة. خمسة أشهر من الأسر الإداري خرج لطفي بحالة غير الحالة التي دخل بها. نحول شديد في الجسد وشعره يغطي وجهه.
كذلك الأمر بالنسبة للأسير المحرّر ياسر الفحل، الذي يخطو نحو الستين، اقتاده الاحتلال للاعتقال وهو ما زال في فراش المرض، إذ لم يمضِ سوى أيام معدودة على خروجه من المستشفى بعد أن أجريت له عملية قلب مفتوح. خلال ستة أشهر في السجن، عانى ياسر فيها الجوع والحرمان والتعذيب، وخسر نصف وزنه. ويقول: "ما تعرّضنا له نحن لا يذكر مقارنة بما تعرّض له أسرى غزة. فقد أتوا بأسرى جرحى، أطرافهم مبتورة وعيونهم مفقوءة، يتركونهم ينزفون من دون أي علاج أو محاولة لوقف النزيف. يوقفون الأسرى عراة ويجلدونهم بعصي حديدية. يصلنا صوت صراخهم من الألم".