من جبل الجرمق إلى الشيخ جرّاح.. حكاية "عيد الشعلة" والتمدّد الاستيطاني
قد لا يملك أحد من المقدسيّين من أهالي حيّ الشيخ جرّاح جواباً عمّا يمكن أن يترتّب عليه اعتماد سلطات الاحتلال الحيّ كمركز للاحتفال بـ"عيد الشعلة"، لكنّ الأكيد أنّ الاحتلال يعمل على توظيف "عيد الشعلة" للمزيد من التهويد والاستيطان في الحيّ.
الشيخ جرّاح، الحيّ الأبرز خارج أسوار البلدة القديمة للقدس، ومقرّ سكن النخبة الوطنية الفلسطينية قبل النكبة من آل الحسيني، والعنوان الذي شكّل نقطة أحد عوامل تفجّر معركة "سيف القدس" قبل 3 سنوات، يعود ليتصدّر المشهد في الآونة الأخيرة، بعد أن حوّل الاحتلال مركز الاحتفال بأحد الأعياد اليهودية إلى هذا الحيّ المقدسي، وسط استنكار من أهالي الحي من التمدّد الاستيطاني والاعتداء على المكان.
من مناسبة دينية إلى منطلق للتهويد
"لاع بوعومر" أو "عيد الشعلة" وهو أحد الأعياد اليهودية الواقعة بين عيد الفصح وموسم الأعياد اليهودية، وبحسب محمد هلسة، الباحث المختص في الشؤون الإسرائيلية فإنّ هذا العيد الذي يسمّى أيضاً بـ"عيد الزيجات"، لكثرة حفلات الزواج التي يقيمها المستوطنون خلاله، يحتفل به اليهود تخليداً لمعتقد لديهم مرتبط بثورة قادها "شمعون باركوخبا" ضد الرومان بعد نحو 60 عاماً مما يعرف يهودياً بـ"ذكرى خراب المعبد الثاني"، ويتم الاحتفال بـ "العيد" فيما يزعم المتدينون اليهود "الحيرديم" أنّه ضريح "باركوخبا" في جبل الجرمق أعلى جبال فلسطين المحتلة في صفد، ويستذكر هلسة ما حدث في العام 2022 حينما تسبّب تدافع المستوطنين المحتفلين بـ"عيد الشعلة" في جبل الجرمق الذي يسمّيه الاحتلال "ميرون" بمقتل 40 منهم.
في حيّ الشيخ جرّاح وسط القدس المحتلة، اختلق الاحتلال سردية صهيونية تقول إنّ ضريحاً آخر لـ "شمعون باركوخبا" موجود في الحيّ، وإلى الجنوب منه بالتحديد في إحدى المغاور هناك، ولكن المغارة في الواقع ما هي إلا عقار مملوك لعائلة حجازي السعدي منذ العام 1733. ولكن وبعد العام 1967 اختلق الاحتلال سردية لوجود قبر "شمعون باركوخبا" في هذه المغارة، ليتمّ تأسيس بؤرة "نحلات شمعون" الاستيطانية في محيطها، بعد أن استولت الجماعات الاستيطانية على منازل في محيطها بزعم ملكيتها من قبل يهود قبل العام 1948، وهذه هي الذريعة التي استخدمتها المنظّمات الاستيطانية منذ العام 1972 للاستيلاء على بيوت المقدسيّين في الشيخ جرّاح، عبر تزوير عقود استئجار وقّعها مستأجرون يهود مع ملّاك العقارات من الفلسطينيين وتحويلها إلى سندات ملكية.
ويروي صالح دياب الذي يسكن في كرم الجاعوني عن ذكرياته في المغارة قبل العام 1967، إذ كانت المغارة والأشجار المحيطة بها متنفّساً لأهالي الشيخ جرّاح، ويقول: "منذ العام 2000 تصاعد الاستهداف الاستيطاني للشيخ جرّاح وبدأ المستوطنون بالاحتفال بعيد الشعلة، وتحويل الموسم إلى الاعتداء على المقدسيّين، وتعزيز الاستيطان في الشيخ جرّاح".
ولكن ما جرى هذا العام مختلفٌ عمّا جرى في الأعوام السابقة، فقد عملت حكومة الاحتلال على تهيئة كل الظروف لإقامة "عيد الشعلة" في القدس، وإقامة منصة للاحتفال بهذا العيد اليهودي. وتشير الصحافية المقدسية سماح دويك إلى أنّ التجهيزات لنقل العيد من صفد إلى حيّ الشيخ جرّاح، كانت بحسب ما صرّح به الإعلام العبري بسبب تزايد هجمات حزب الله الصاروخية في محيط منطقة جبل الجرمق، المكان التقليدي للاحتفال بـ"عيد الشعلة"، ولكن الأمر لم يتوقّف عند ذلك وحسب، إذ منعت قوات الاحتلال وصول المستوطنين بأي شكل إلى جبل الجرمق، وتقول دويك: "شاهدنا عبر القنوات (الإسرائيلية) أفراد شرطة الاحتلال وهم يقمعون ويعتقلون المستوطنين الذين حاولوا الوصول إلى جبل الجرمق، وفي الوقت ذاته، حوّلت سلطات الاحتلال محيط حيّ الشيخ جرّاح إلى ثكنة عسكرية لتكرّس فكرة أنّ الشيخ جرّاح هو المكان الأكثر أمناً والأنسب للاحتفال بـعيد الشعلة".
وخلال أيام "عيد الشعلة" التي حلّت في الفترة الواقعة ما بين تاريخي 26 أيار/مايو و 3 حزيران/يونيو في هذا العام، انتشر الآلاف من أفراد شرطة و"جيش" الاحتلال في كلّ شوارع الشيخ جرّاح لتأمين اقتحام أكثر من 100 ألف مستوطن للحي، وهو عدد يفوق المستوطنين المقتحمين للحيّ خلال "عيد الشعلة" في السنوات الماضية، وتحوّل الحيّ إلى ثكنة عسكرية ومنطقة مستباحة من قبل الاحتلال ومستوطنيه.
بين مطرقة المستوطنين وسندان شرطة الاحتلال
يتحدّث صالح دياب عمّا عايشه خلال الأيام الأولى من احتفال المستوطنين بـ"عيد الشعلة"، إذ تعرّض هو وأفراد أسرته للرشق بالحجارة من قبل المستوطنين الذين توافدوا على حيّ الشيخ جرّاح من مختلف مناطق فلسطين المحتلة، وتم تهديده بالإحراق. ويقول: "نحن نعيش اليوم حالة طوارئ في الشيخ جرّاح، إذ يقمع الاحتلال كلّ أشكال الفعّاليات الشعبية في القدس، ويستخدم سياسة الاعتقال الإداري بحق الآلاف من المقدسيين، ومنهم أهالي حيّ الشيخ جرّاح، في الوقت نفسه، تطلق سلطات الاحتلال أيدي المستوطنين للاعتداء على المقدسيّين في الشيخ جرّاح".
ومما يدلل على كلام دياب ما جرى في حيّ الشيخ جرّاح، مساء الجمعة، 31/5/2024، حينما اعتدت قوات الاحتلال على العشرات من المقدسيين المشاركين في فعالية تأبين للقيادي السياسي الراحل فيصل الحسيني، إذ اعتدت قوات الاحتلال بالضرب المبرح على رجال مسنين كانوا يحضّرون للوقفة قبل بدايتها، وهذا هو الحال مع أي فعالية شعبية يتم تنظيمها في الشيخ جرّاح منذ 7 أكتوبر.
ماذا بعد "عيد الشعلة"؟
قد لا يملك أحد من المقدسيّين من أهالي الشيخ جرّاح جواباً دقيقاً عما يمكن أن يترتّب عليه اعتماد سلطات الاحتلال حيّ الشيخ جرّاح كمركز للاحتفال بـ"عيد الشعلة"، ولكن لا شك بأنّ الاحتلال ومن خلال تتبّع مسار توظيفه للمناسبات الدينية اليهودية من أجل المزيد من التهويد والاستيطان في المسجد الأقصى في القدس والمسجد الإبراهيمي في الخليل، ومسجد بلال بن رباح في بيت لحم، وغيرها من الأماكن في فلسطين، سيعمل على توظيف "عيد الشعلة" للمزيد من التهويد في الشيخ جرّاح. وفي هذا السياق يقول محمد هلسة: "ستتخذ الجمعيات الاستيطانية المدعومة من حكومة الاحتلال اليمينية ذريعة وجود محجّ يهوديّ مزعوم للمزيد من الاستيلاء على منازل المقدسيّين وتحويلها إلى بؤر استيطانية ثم مستوطنة تصل ما بين شطري القدس بنطاق من التهويد".