رحلة جديدة من الهروب.. ملايين السودانيين ينزحون من ود مدني إلى العراء بسبب الحرب
تمثل ود مدني الواقعة على ضفاف النيل الأزرق نحو 180 متراً جنوب العاصمة الخرطوم، منطقة ربط بين شرق السودان وغربه. ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع المواجهات العسكرية، بدأت سيول بشرية في مغادرة ود مدني نحو سنار التي تبعدها جنوباً نحو 90 كلم.
وجد المواطن السوداني محمد إسماعيل الذي فرّ من نيران حرب الخرطوم نفسه مضطراً لخوض رحلة نزوح جديدة، بعد انتقال المعارك العسكرية إلى ملجئه في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط البلاد، ليستقر به المقام في أحد الأرصفة في مدينة سنار جنوب شرق السودان، وهو في حيرة من أمره يتأمّل في مصيره المجهول.
خرج محمد بمعية أبنائه وشقيقه المريض بالفشل الكلوي، ولم يتمكن من حمل أي شيء من منزله الذي استأجره في مدينة ود مدني عقب نزوحه إليها في شهر أيار/ مايو الماضي، وأخذ منه قليلاً من الأمتعة في حقائب صغيرة، ولم يتبقّ له من المال سوى بضعة جنيهات في جيبه، ربما لا تكفي احتياجاته الغذائية لثلاثة أيام مقبلة، وفق ما رواه لـلميادين نت.
وليس إسماعيل سوى واحد من مئات الآلاف من المواطنين السودانيين الذين وصلوا إلى سنار في موجة نزوح مماثلة لما حدث بعد اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم، وهم يواجهون أوضاعاً قاسية، فلم يجدوا غير الأرصفة وطرقات المدينة للإيواء إليها، تلهب أجسادهم من حرارة الشمس خلال فترة النهار، وتنهشهم موجات البرد ليلاً وسط نقص حاد في الغذاء ومياه الشرب.
وبعد معارك ضارية مع الجيش السوداني، تمكنت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان الشهير بـ"حميدتي" من السيطرة على ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة وسط السودان، وهي المدينة التي كانت تؤوي نحو 1.6 مليون شخص نزحوا من حرب الخرطوم، ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع المواجهات العسكرية، بدأت سيول بشرية في مغادرة ود مدني نحو سنار التي تبعدها جنوباً نحو 90 كلم.
رئة السودان
تمثل ود مدني الواقعة على ضفاف النيل الأزرق نحو 180 متراً جنوب العاصمة الخرطوم، منطقة ربط بين شرق السودان وغربه، وهي المسار الوحيد لحركة البضائع والمنتجات المختلفة القادمة من موانئ البلاد على ساحل البحر الأحمر إلى إقليمي دارفور وكردفان، كما تمثل مركزاً اقتصادياً وتجارياً لكلّ السودانيين.
وبعد الدمار الذي ألحقته الحرب بالعاصمة الخرطوم، أصبحت ود مدني الوجهة الوحيدة للمرضى من كل أنحاء السودان، فهي الوحيدة التي تضمّ مراكز صحية تخصصية لعلاج الأمراض المستعصية مثل الأورام السرطانية وجراحة القلب والمخ والأعصاب وغيرها، وعقب اجتياح الدعم السريع للمدينة أغلق المرافق الصحية كافة، وبات آلاف المرضى في مصير مجهول.
وتتقطع السّبل بالمواطن محمد إسماعيل ومئات الآلاف من الفارّين من ود مدني في مدينة سنار، وهم عالقون في العراء، ومن بينهم أطفال ونساء وأشخاص كبار في السن، ومصابون بأمراض مزمنة لم يتمكنوا من الحصول على الرعاية الطبية اللازمة، فالوصول إلى المستشفى الرئيسي في سنار أصبح مُهمّة شبه مستحيلة في ظل انعدام وسائل النقل نتيجة شح الوقود، فضلاً عن الزحام غير المسبوق، فقطع مسافة كيلومتر واحد بحاجة إلى 3 ساعات على الأقل.
ويقول إسماعيل لـلميادين نت: "أشعر بقلق شديد تجاه الحالة الصحية لشقيقي الذي يعاني من الفشل الكلوي ويحتاج إلى جلسات من الغسيل. لا نرى طريقاً إلى المركز الصحي المتخصص الوحيد في سنار في ظل انعدام وسائل النقل بسبب شحّ الوقود، كما أن هذه الجلسات ربما تتطلب تكاليف مالية، ولا تغطي المبالغ التي بحوزتي هذه المطلوبات".
ويضيف: "نجلس في العراء حالياً ولا ندري إلى أين نذهب، ليس بمقدوري استئجار منزل أو شقة، فقد توقف عملي وليس لي أي مصدر للكسب المادي طوال الفترة التي أعقبت اندلاع الحرب في الخرطوم. لم تقدم السلطات الرسمية في سنار أي مساعدات لأجلنا، كما لا توجد منظمات إنسانية في المنطقة، ونعيش حالياً تحت رحمة جهود محدودة يقوم بها شباب متطوعون وسكان في الأحياء المجاورة".
نقص الوقود
كان بعض الفارّين من حرب ود مدني يُفكّر في مواصلة النزوح إلى الولايات الواقعة شرق البلاد وجنوبها، والتي لا يزال الجيش السوداني يحكم سيطرته عليها، لكنهم اضطروا إلى ركن سياراتهم الخاصة في طرقات مدينة سنار بعد نفاد وقودها، وجلسوا عالقين بجوارها في حيرة من أمورهم حيث تشهد المدينة انعداماً شبه تمام في المواد البترولية.
ومع بداية المعارك العسكرية في ولاية الجزيرة نهاية الأسبوع الماضي، تم إغلاق جميع محطات الخدمة البترولية في المدن المجاورة كافة، ما تسبب بشحّ في مادتي البنزين والغازولين، ووصل سعر غالون البنزين سعة 4 لترات في السوق السوداء إلى 100 ألف جنيه سوداني (نحو 105 دولارات أميركية)، ومع ذلك لن يعثر الراغبون على الكميات التي تكفي لوصولهم إلى وجهاتهم.
وبجوار محمد إسماعيل كان يجلس حسين عبد العزيز بعائلته، وسيارته تقف بالقرب منه بعد أن نفد وقودها، في حين لا يحتفظ بمبالغ كافية تمكنه من شراء البنزين من السوق السوداء، وآثر تخصيص ما لديه من نقود لمصلحة الأكل والشرب. ويقول لـلميادين نت: "هذه هي المرّة الأولى لي مع النزوح، فقد غادرنا منزلنا في ود مدني قسراً بعد أن عشنا ساعات من الرعب، بسبب الاشتباكات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع".
ويشير عبد العزيز إلى أنه لم يتمكن من حمل أي شيء من منزله سوى بعض الملابس والأغراض الخفيفة، فلم يكن يعلم إلى أين هو ذاهب إلى أن وجد نفسه عالقاً في مدينة سنار، ولا يدري ما يواجهه من مصير.
ويضيف: "ليس لي أي معارف في هذه المدينة التي أيضاً باتت مهدّدة بالمعارك العسكرية في ظل أنباء متواترة عن تمدد قوات الدعم السريع. نحن نعيش وضعاً مؤلماً للغاية فهناك نقص حاد في الغذاء ومياه الشرب، كما أغلقت المحال التجارية وأماكن بيع الأطعمة الجاهزة أبوابها بعد أن نفد مخزونها من السلع".
ولم يتمكن صديق سليمان الذي يحتفظ ببعض النقود من العثور على منزل للإيجار في مدينة سنار، ويقول لـلميادين نت: "لقد ظللت أبحث طوال يومين عن منزل لإيواء عائلتي، وفي نهاية المطاف وجدت نفسي مضطراً لافتراش هذا الرصيف، فهناك نقص كبير في الأكل والشرب، كما لم يجد مرضانا أي رعاية طبية منذ وصولنا إلى هذه المدينة".
ويضيف: "ندفع فاتورة باهظة لهذه الحرب العبثية، فنحن كمواطنين ليس لنا أي ذنب ولا نستحق كل هذا الإذلال والتشريد. نشعر بحزن شديد على حال أطفالي وهم يعيشون في العراء الآن بلا مأوى، يجب أن يتوقف هذا العبث".
فقدان الأمل
بعد تذوقه مرارات النزوح لأكثر من 7 شهور، وكان يحلم بالعودة إلى منزله في الخرطوم، وجد محمد إسماعيل نفسه أمام رحلة جديدة من الهروب، ولكن هذه المرة إلى وجهة مجهولة فلا يدري ماذا يفعل وإلى أين يذهب.
ويقول إسماعيل لـ"الميادين نت": "عندما اندلعت الحرب في الخرطوم، كنت أحتفظ بمبالغ معقولة وكانت وجهتي معلومة إلى ود مدني وتمكنت من إيجار منزل وآويت عائلتي، كما تمكنت من فتح نشاط تجاري محدود نقتات منه، ولكن الوضع مختلف الآن فليس أمامي مثل الخيارات السابقة، فكان مصيري الحتمي هذا الرصيف".
ويشير إلى أنه وصل إلى مرحلة من فقدان الأمل بشكل تام، ولا يرى سبيلاً لإعادة الاستقرار من جديد، فحان الوقت لان تتوقف هذه الحرب، وأن تحكّم الأطراف صوت العقل، فليس هناك متسع لمزيد من المأساة.