"بالله عليك لا تلبس سترة الصحافة".. هذه وصية أهل غزة لنا حتى لا نُقتل!
بالنسبة لمن بقي في الميدان من الصحافيين، ليست القضية قضية التزام عمل فحسب، هناك حسابات شخصية جداً، ذات صلة بالمحافظة على احترام الذات.
أحدث استشهاد الزميلين حمزة الدحدوح ومصطفى ثريا، هزّةً في الجسم الصحافي، أعاد مجدّداً طرح أسئلةٍ ذاتية وجمعية، عن جدوى مواصلة العمل تحت النار، وعن الأولويات الشخصية، العودة إلى العائلة وإيثار الوقوف إلى جانبها في ظروف النزوح العصيبة، أم مواصلة التغطية حتى النهاية.
في هذه الحرب التي استبيحت فيها كلّ المحرّمات، لا يُلام أحد على خياره، أنس النجار، واحدٌ من الزملاء الذين سجّلوا موقفاً علنياً بوقف التغطية، كتب الزميل الشاب في منشورٍ له عبر "فيسبوك": إلى هنا، تنتهي التغطية الصحافية، فالبحث عن الأمان مع العائلة، لهو خير ألف مرة من البحث عن خبر ينقل إلى عالم لا يعرف معنى الإحساس ولا الإنسانية.. الرحمة للزملاء، أعلن عن وقف عملي الصحافي في هذه الحرب الهوجاء"، وقبل أنس، كان معتز العزايزة، قد أعلن في مرحلة ما من عمر الحرب، انتهاء وقت المخاطرة والمجازفة، والدخول في مرحلة المحافظة على سلامته، إذ إنّ: "روحي هي أعزّ ما أملك"، في الخفاء، انتحى المئات من الزملاء في النحو ذاته.
أثارت تلك المواقف اتجاهات متباينة في بداية الأمر، ولما تجاوز عدد الصحافيين الشهداء حاجز المئة، وشعر الأهالي بأنّ الصحافيين مستهدفون لذاتهم وللمهمة التي يؤدّونها، تحوّل مطلب وقف التغطية، أو على الأقل، عدم التنقّل بالدرع الصحافي، إلى مطلب "أبويّ أموميّ" عامّ، يسمعه لنا الأهالي في كلّ مكان نعمل فيه: "يا بنية، رح يقصفوك، بالله عليك لا تصوّر، بالله عليك لا تلبس إليّ مكتوب عليه صحافة"، قالت لنا حاجة تتجاوز السبعين من العمر، ونحن في جولة ميدانية في شوارع حي التفاح شرقي مدينة غزة.
يحقّ القول، إنّ ثمّة مساراً أكثر سطوة وتأثيراً للضغط، فصاحب السطور، هو الآخر يتعرّض يومياً لضغط من "لوبي عائلي" جمع أشتاته الجغرافية على الموقف ذاته، إيناس، هي شقيقتي الكبرى، كانت قد فقدت في الشهر الأول من الحرب، أولادها الثلاثة، رفقة زوجها وخالتها و10 من أفراد أسرتنا، وبينما هي تحت تأثير آلام الإصابة المميتة، طلبت في ساعات صحوها المحدودة، وسيلة تهاتفني بها، قالت بما يشبه النحيب: "أخوي، أنت إلى بشوف فيك ولادي الشهداء، لا تفجعني فيك يا حبيبي، برضاي عليك وقّف شغل، لا تطلع ولا تتحرّك"، أما حنين، زوجتي التي نزحت رفقة أبنائي الثلاثة إلى مدينة رفح جنوبي القطاع، فقد قرّرت بعدما سئمت من ردودي السمجة عليها كلما طلبت مني وقف العمل بقولها: "كن وهدا والله بموت لو صارلك حاجة"، لأردّ أنا: "بس يا هاربة، يا طابور خامس"، قرّرت أخيراً إعلان المقاطعة القاسية، أرسل لها يومياً: "عاملة عليا BDS يا مصطفى البرغوثي.. بسيطة بنتحاسب بعد الحرب".
في مقابل ذلك، ليس نموذج وائل الدحدوح الذي يواصل التغطية برغم جبل الهموم الذي يثقل كتفيه هو الوحيد، في شمال غزة مثلاً، التي غادرها أكثر الزملاء إلى المناطق الآمنة في جنوب القطاع، في ذروة العملية البرية، ولم يبقَ في ميدانها سوى 15 صحافياً، هنا، أصيب الزميلان إسلام بدر ومحمد أحمد، وكانا في اليوم التالي من الإصابة، في مناطق القصف والمجازر، إسلام كان بحاجة لمن يسنده، إذ لم يستطع الاعتماد على قدميه اللتين غارت بهما عشرات الشظايا، في المشي وحيداً.
أما محمد، فقد كان يمسك الكاميرا بيد، فيما الثانية لا تزال فيها "كانيولة" حقن العلاج والمسكّنات، "بالنسبة لمن بقي في الميدان، ليست القضية قضية التزام عمل فحسب، هناك حسابات شخصية جداً، ذات صلة بالمحافظة على احترام الذات، يهكل أكثر مَن لم يغادر الميدان حتى اللحظة، همّ اللحظة الأولى لانتهاء الحرب، النظر إلى المرآة دونما خجل من الرسوب في امتحان القيم والرجولة، الشعور الداخلي، بأنك لم تخن المهنة التي قدّمت لأهلها طوال سنوات الرخاء، جملة من الامتيازات الاجتماعية والمادية والاعتبارية، وأكثر من ذلك، الإيمان بأن استمرار التغطية، هو جزء من الواجب الوطني الذي بذل فيه المقاومون والأطباء والممرضون وحتى عمال النظافة دماءهم، أمام ذلك كله، تتضاءل اعتبارات إيثار السلامة، والرضوخ لضغوط العائلة والأحباب".
في الميدان، لا يعمل الزملاء في ظروف استثنائية فقط، إنما في أقسى مستويات القهر، كلّ تفصيلة عادية، تحتاج إلى معركة للحصول عليها، ابتداء من الكهرباء والإنترنت، وصولاً إلى الماء والخبز ومكان المبيت، أما الأشدّ وطأة وقسوة، فهو مكابدة الألم والتغلّب على انكسارات النفس.
الزميل باسل خير الدين، الذي شكّل رفقة شقيقه المصوّر أحمد، ثنائياً مميّزاً لم يغادر الميدان طوال الحرب، وجد نفسه أخيراً أمام امتحان هو الأقسى، قبل عشرة أيام، قصفت الطائرات الحربية هدفاً في حي مشروع بيت لاهيا، حثّ باسل الخطى سريعاً إلى مكان الحدث لنقل المشهد، هناك، صدم وهو على الهواء، بأن المنزل المقصوف هو منزل عائلته الذي ترك فيه شقيقه، رفقة 30 من أفراد عائلته قبل أقلّ من ساعة، أوّل الجثامين التي انتشلت من الركام، كان أحمد، قضى كل من في المنزل، نجت فقط، الدرع الصحافية الخاصة بشقيقه الصحافي الشهيد، ألبسها باسل لشقيقه، وفي اليوم التالي.. واصل التغطية.