الجوع يهدد السودانيين: رصاصة الحرب تخترق سلة غذاء العالم
منذ صبيحة اندلاع المواجهات العسكرية، توقفت عمليات الإمداد للأسواق بالسلع المختلفة بعد إغلاق المصانع والشركات الكبرى أبوابها وغياب وسائل النقل.
تحت زخات الرصاص ودوي الطائرات خرج حسن أزرق من منزله في مدينة أم درمان غربي العاصمة السودانية قاصداً إحدى الأسواق المجاورة وهو ينوي استئناف عمله في رصيف متواضع كان يستغله في بيع الوجبات الخفيفة "سندويتشات"، لكنه اصطدم باختفاء الزبائن وضعف الحركة، بعد أن آثر غالبية سكان الخرطوم البقاء في منازلهم اتقاء نيران الحرب المشتعلة بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف نيسان/أبريل الجاري.
لجأ أزرق إلى الخطوة الانتحارية، بعد أن نفدت كل المواد الغذائية في بيته ولم يعد بحوزته أي مبالغ لشراء احتياجاته المنزلية، فبات شبح الجوع يهدد عائلته المكونة من 6 أفراد، لذلك لم يجد حيلة غير الدخول في مغامرة الخروج من المنزل والبحث عن مصدر رزق وسط لهيب المعارك العسكرية.
يقول في مقابلة مع الميادين نت: "اضطررت إلى العودة إلى منزلي بعد رحلة فاشلة للبحث عن عمل، لم نتمكن من جلب أي شيء بقيت هنا ننتظر فرج من الله، فمغادرة الخرطوم إلى جذور عائلتي في ولاية غرب كردفان مكلف للغاية ونحتاج إلى مبلغ 300 ألف جنيه سوداني، (نحو 550 دولاراً) حتى نصل إلى هناك، فلم يكن أمامنا خيار غير البقاء هنا في العاصمة لنواجه خطر الموت جوعاً أو برصاص طائش".
مأساة 9 ملايين
يجسد حسن أزرق واقع معيشي قاسي يعيشه نحو 9 ملايين شخص في العاصمة الخرطوم نتيجة الاشتباكات العسكرية التي تسببت في توقف الحياة بشكل كامل، وعطلت الأعمال المختلفة وألقت بظلالها السالبة على الوضع الاقتصادي المتدهور أصلاً، إذ شهدت الأسواق السودانية حالة من الندرة في مجمل السلع الأساسية، إلى جانب موجة من الغلاء ضربت أسعار مجمل السلع الاستهلاكية.
ومنذ صبيحة اندلاع المواجهات العسكرية، توقفت عمليات الإمداد للأسواق بالسلع المختلفة بعد إغلاق المصانع والشركات الكبرى أبوابها وغياب وسائل النقل بسبب عدم وجود ممرات آمنة تربط أنحاء العاصمة الخرطوم، فضلاً عن شح في الوقود نتيجة توقف محطات تقديم الخدمة البترولية، مما أعاق حركة ترحيل السلع وأدى إلى غلاء طاحن فاقم الفجوة الغذائية للسكان.
ويشير خالد عبد الله – صاحب متجر في سوق ليبيا غربي أم درمان في حديثه إلى الميادين نت إلى أنّ السكر ارتفع بنسبة تصل 50% عن ما كان عليه قبل نشوء الصراع المسلح، وزاد سعر طحين القمح بنسبة 30%، وزيت الطعام بنسبة 45%، كما ارتفعت أسعار البصل والأرز والخضروات والبيض واللحوم بنسب تتراوح بين 50 – 60%.
وتيرة الغلاء المتصاعدة، تقابلها معدلات عالية من الفقر في السودان تصل إلى 65% حسب آخر حصيلة لوزارة الرعاية الاجتماعية في البلاد، كما أن أكثر من 90% من سكان الخرطوم، وفق تقديرات اقتصاديين، يعتملون في تغطية احتياجاتهم المعيشية على الأعمال اليومية أو ما يعرف محلياً بـ "رزق اليوم باليوم"، والتي توقفت تماماً بسبب المواجهات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع.
عندما تفجر الصراع المسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع صبيحة الخامس عشر من شهر نيسان/أبريل 2023، كان المواطن حسن أزرق يحتفظ بكميات محدودة من الأطعمة كان قد ادخرها لقضاء شهر رمضان، إلى جانب مبالغ بسيطة لم تصمد أمام احتياجاته المعيشية الكثيرة سوى 4 أيام من الحرب لتبدأ بعدها قصة معاناتهم مع نقص الغذاء.
يواصل أزرق حديثه للميادين نت: "نواجه مأساة حقيقة بسبب هذا القتال الذي أسوأ ما فيه هو أنه جعلنا نعجز عن توفير أقل مقومات الحياة لأبناءنا. لقد أحزنتني حالتي للغاية ولم نكن نتوقع أن يأتي يوم نواجه فيه شبح الجوع في بلادنا المأمول منها أن تكون سلة غذاء العالم نتيجة كثرة ثرواتها، لكن هي مصيبة الحرب التي نسأل الله أن يرفعها عنا بقدرته".
غياب المساعدات
وبعد أسبوعين من الحرب الضارية، لم يتسن وصول أي مساعدات إنسانية إلى السودان، بينما علق برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة نشاطه موقتاً في البلاد بعد مقتل 3 من موظفيه في إقليم دارفور، الشيء الذي يضاعف مخاطر الجوع على سكان هذا البلد الذين يواجه ثلثين منهم انعدام الأمن الغذائي، حتى قبل اندلاع الاشتباكات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع، وفق الأمم المتحدة.
وإلى جانب غياب المساعدات الإنسانية الدولية، فإنّ كافة مصادر الكسب المادي للمواطنين توقفت، فبخلاف تعطل الأعمال والأنشطة التجارية، فقد توقفت التحويلات المصرفية من الخارج إذ عجز السودانيين المغتربين عن مساعدة عائلتهم في الداخل نتيجة إغلاق كافة الصرفات والبنوك، كما توقف صرف الرواتب للعاملين في الدولة، وهم فئة مقدرة من المواطنين تقدر بنحو 5% من مجموع السكان، وهم يعتمدون بشكل أساسي في معيشتهم على الأجور.
ويقول صابر عبد القيوم، وهو معلم في المرحلة الإعدادية بالخرطوم في حديثه إلى الميادين نت إنّه دخل الشهر الثاني على التوالي دون أن يحصل على راتبه، الأمر الذي جعله يواجه ظروف معيشية قاسية في ظل تصاعد جديد لأسعار السلع الاستهلاكية نتيجة استمرار المواجهات العسكرية بين الجيش وقوات الدعم السريع.
ويضيف: "نفدت كل ما عندي من مبالغ، وليس هناك أي امل في صرف رواتب العاملين في الخدمة العامة، فنحن نعيش حالة اللا دولة الآن في ظل فوضى الصراع المسلح. هذا وضع صعب للغاية الأسعار اشتعلت بصورة جنونية وتوقفت الأعمال، ولا خيار غير إيقاف الحرب بشكل فوري لأنّ استمرارها يعني حكم بالإعدام على شعب كامل".
تقشف قسري
لم يكن أمام حسن أرزق وغيره من البسطاء الذين لم يجدوا سبيلاً للفرار من نيران الحرب المشتعلة في الخرطوم غير الدخول في برنامج تقشف قسري لمواجهة الصعوبات المعيشية في ظل استمرار المواجهات العسكرية وانعدام المساعدات الإنسانية التي لا تبدو ضمن أولويات العالم في الوقت الراهن، فالجميع مشغولين بإجلاء رعاياهم.
ويقول أزرق في مقابلته مع الميادين نت: "في بعض الأحيان نكتفي بتناول وجبه واحدة خلال اليوم في تغيير كامل لنمطنا الغذائي الذي كان سائداً قبل اندلاع الحرب، كما صرنا نعتمد على الوجبات الشعبية مثل العصيدة والكسرة التي تصنع من الذرة البلدية فهي أقل تكلفة مقارنة بالأكلات الأخرى. لم يكن لنا أي خيار غير ذلك، فليس لدينا أي مصدر للكسب، وصرنا تحت رحمة مساعدات شحيحة تصلنا من أقاربنا وجيراننا".
وشدّد على ضرورة أن تتوقف هذه الحرب بشكل عاجل حتى يعافى السودان ويرفع العناء عن مواطنه، بل يعود بلد غني يزخر بأراضيه الزراعية وثروته الحيوانية وذهبه، ويعول عليه من جديد كسلة لغذاء العالم بأثر.