إلى جانب الحرب.. السيول تلتهم ما تبقى من حياة السودانيين
عصفت السيول والأمطار بآمال السودانيين في النجاة، ووضعتهم مجدداً في العراء بلا طعام أو شراب أو إيواء، ليجدوا أنفسهم أمام حرب أخرى لا تقل مآسيها عن تلك التي تدور رحاها في جبهات القتال.
نجت السودانية صفاء حسن وعائلتها من رصاص الحرب في العاصمة الخرطوم، لكنها كادت أن تفقد حياتها نتيجة سيول جارفة اجتاحت مخيمها في مدينة كسلا شرقي البلاد، بعدما أيقظتها الأقدار في منتصف ليلة مظلمة، ووجدت نفسها عائمة فوق شلالات من المياه، وأفراد أسرتها على المصير نفسه، في مشهد توقفت معه الحياة البسيطة التي كانوا يعيشونها.
سقطت الخيام والمباني الثابتة، وامتلأ المخيم بالمياه، ولم تجد صفاء ساعتها غير رصيف مجاور احتمت به مع أفراد عائلتها، وهم بلا فراش أو غطاء من البرد، أو ملابس بعدما جرفتها السيول جميعها، كما لم يجدوا سبيلاً للوصول إلى الغذاء والمياه الصالحة للشرب، بعدما توقف مطابخ مجانية كانوا يعتمدون عليها في معاشهم بسبب الظروف الطبيعية القاسية، وفق ما روته للميادين نت.
الواقع القاسي لم يتوقف عند صفاء، بل يمتد إلى آلاف النازحين في السودان، عصفت السيول والأمطار بآمالهم في النجاة، ووضعتهم مجدداً في العراء بلا طعام أو شراب أو إيواء، ليجدوا أنفسهم أمام حرب أخرى لا تقل مآسيها عن تلك التي تدور رحاها في جبهات القتال المختلفة في هذا البلد الملتهب، كما طالت الآثار كافة أنحاء السودان، بعدما تحولت أجزاؤه إلى جزر معزولة نتيجة انقطاع الطرق الحيوية.
ترسم السول والأمطار واقع أكثر مأساوية في السودان من شرقه إلى غربه، يتجلى في ارتفاع قياسي في أسعار السلع الاستهلاكية، وسط ندرة في العديد من الأصناف الغذائية، وذلك نتيجة توقف حركة نقل البضائع والإمداد، في حين أدت الكارثة إلى توقف مصادر الكسب المادي الشحيحة للمواطنين في بعض المناطق، مثل التنقيب اليدوي عن الذهب ومزارع الخضر والفواكه والنخيل التي غمرتها المياه بالكامل.
وارتفعت أسعار معظم المواد الغذائية، لا سيما الذرة ودقيق القمح وفق أصحاب محال تجارية تحدثوا إلى الميادين نت، بنسبة تزيد عن 50% في إقليمي دارفور وكردفان غربي السودان، خلال الفترة التي أعقبت كارثة السيول والأمطار، والتي بدأت في الأسبوع الأول من شهر آب/أغسطس الجاري، مما زاد صعوبة الوصول إلى الغذاء، فبالتالي مزيداً من تدهور الأوضاع الإنسانية.
خسائر بشرية
كما تسببت السيول والأمطار التي هطلت بمعدلات عالية وغير مسبوقة نتيجة التغييرات المناخية في السودان، في وفاة 83 شخصاً على الأقل في سبع ولايات سودانية وإصابة 588 آخرين، وتضرر أكثر من 10 آلاف عائلة بعد سقوط جزئي وكلي لمنازلها، وفق ما أفادت به وزارة الصحة في البلاد.
وكانت المآسي الماثلة من جراء النزوح تكفي صفاء حسن وعائلتها، لكن جاءت كارثة السيول لتُعمّق الجراح، وتسلبهم حياتهم البسيطة التي كانوا يعيشونها بالحد الأدنى داخل مخيم الإيواء في مدينة كسلا شرقي السودان، وسط نقص في الغذاء ومياه الشرب والخدمات العلاجية، وصاروا حالياً في العراء يحاصرهم خطر الجوع والوبائيات.
تقول صفاء في حديثها إلى الميادين نت: "نقيم في العراء حالياً بعد أن سقطت الخيام والمباني في مركز الإيواء، وليس هناك أي تدخلات لمعالجة وضعنا، ومع ذلك فقد خلّفت السيول والأمطار وضعاً بيئياً سيّئاً، إذ تكاثر البعوض والذباب بشكل مخيف، كما ظهرت عدة وبائيات من جراء ذلك، من بينها الإسهال المائي الحاد، كوليرا".
وتضيف: "باتت حياتنا مهددة مجدداً بعد أن نجونا من أعمال القتال والقصف العشوائي في العاصمة الخرطوم، فنحن نواجه شبح الجوع بسبب شح الغذاء، وخطر الإصابة بوباء الكوليرا الذي انتشر بكثافة في المدينة نتيجة التردي البيئي الناجم عن السيول والأمطار، في ظل ضعف التدخلات الوقائية والرعاية الصحية".
واعترف وزير الصحة في ولاية كسلا شرقي السودان، علي آدم في حديثه إلى الميادين نت، بتفشي الإسهال المائي الحاد "الكوليرا" في ولايته؛ بسبب التردي البيئي الناجم عن كارثة السيول والأمطار، وقد أدى الوباء إلى وفاة 20 شخصاً، وإصابة 300 آخرين حتى الآن.
وقال الوزير إنهم يقومون بعدة تدابير لمكافحة وباء الكوليرا، بينها فتح عنابر للعزل في المناطق المتأثرة، وتوزيع كميات من الكلور لتنقية مياه الشرب، إلى جانب تنظيم حملات لإصحاح البيئة، وعمل حملة لتطعيم ضد الإسهال المائي في الأماكن التي انتشر فيها بكثافة.
قطع الشرايين
وإلى جانب الوبائيات، تسبّبت السيول في قطع شرايين الحياة في السودان بعد خروج طرق حيوية عن الخدمة، مما أعاق حركة المسافرين وإمداد السلع والبضائع والمواد الغذائية، الأمر الذي فاقم تدهور الأوضاع الإنسانية في البلاد.
وبحسب عضو الغرفة التجارية في ولاية نهر النيل شمالي السودان خالد بابكر الذي تحدث إلى الميادين نت، فإن السيول قطعت الطريق الرابط بين مدينتي دنقلا ووادي حلفا، وهو الطريق الذي تأتي عبره البضائع من مصر، علماً أن منطقة شمال البلاد ظلت تعتمد بشكل أساسي على المواد الغذائية والبضائع الآتية من مصر منذ اندلاع الحرب الحالية، كما انقطع الطريق الرابط بين شمال البلاد وشرقها، مما أعاق انسياب البضائع من الموانئ على ساحل البحر الأحمر.
ويشير بابكر إلى أن مدينة عطبرة عاصمة ولاية نهر النيل صارت بمثابة جزيرة معزولة، بعد انقطاع الطرق المؤدية إليها والخارجة منها، فهي تعتبر نقطة رئيسية لتجميع البضائع، ويعتمد عليها ربع سكان البلاد بما في ذلك أمدرمان، وإقليما دارفور وكردفان غربي البلاد، الأمر الذي ستكون نتيجته مزيداً من تصاعد الأسعار، وانعدام الغذاء لاحقاً.
واقع قاسٍ
وشهدت ولايات دارفور قبل أيام انفصالاً قسري فيما بينها، بعد أن جرفت السيول جسوراً مقامة على عدد من الوديان، وتوقفت الحركة التجارية والإمداد بالبضائع بين المدن المختلفة، مما فاقم العزلة الموجودة أصلاً بسبب الحرب.
وينقل عبد المنان أحمد، وهو أحد مواطني مدينة النهود في ولاية غرب كردفان غربي السودان، إلى الميادين نت، واقعاً قاسياً يعيشونه هذه الأيام، نتيجة ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية بما في ذلك الذرة ودقيق القمح التي زاد سعرها بنسبة تفوق الخمسين بالمئة، في حين ليس للسكان مصادر كسب مادي تمكنهم من مقابلة هذه التطورات في الأسعار، فيتوقع مزيداً من التدهور في الحالة الإنسانية.
ويقول: "كل ما يجري الآن نتاج لسيول والأمطار التي أعاقت حركة شاحنات البضائع، والتي أصبحت تحتاج إلى أسبوعين على الأقل لقطع المسافة من الدبة في الولايات الشمالية إلى النهود نسبة لوعورة الطريق غير المسفلت، حيث تعطلت العديد، وانقلبت بعضها مما تسبب بزيادة الأسعار، فالوضع كارثي بكل ما تحمل الكلمة من معنى".
ومن شرق السودان، تقول إحسان آدم في حديث إلى الميادين نت إن السيول تسببت في ارتفاع في أسعار الخضروات والفواكه تحديداً في مدينتي سواكن وبورتسودان، نظراً إلى توقف الإمداد من مدينتي كسلا بعد انقطاع بعض الطرق الرابطة بين تلك المدن، وغرق العديد من المزارع في مناطق الإنتاج المختلفة.
وتضيف: "تضاعفت معاناة العائلات في شرق السودان إلى حد كبير نتيجة هذا الغلاء، فقد تجاوز سعر كيلوغرام من الطماطم 5 دولارات، وهو مبلغ كبير يصعب توفيره بواسطة مواطنين غالبهم عاطلين من العمل، وليس لديهم مصادر كسب مالي خاصة النازحين، فقد شكلت السيول حرباً أخرى علينا، بتأثيرات اقتصادية واجتماعية وإنسانية واسعة".