إعلان "دولة الجليل" في الشمال.. مجتمعات انفصالية تُفكك "إسرائيل"
تفسخ يصيب المجتمع الإسرائيلي، هجرة اليهود من الجليل إلى غوش دان تزيد من الانقسام والتفسخ، وصوت الناطقين باسم سلطات الاحتلال في الشمال التي عزمت إعلان إقامة "دولة الجليل" في ذكرى "الاستقلال" هذا العام تشي بالانقسام.
لا شيء يدعو إلى الانقسام في "إسرائيل" أكثر من السياسات الحكومية اليمينية الراهنة. في مقاله عن رقصة الفراش - في وصفه الانقسام السياسي في الكنيست - يحذر الكاتب الإسرائيلي شموئيل روزنر في صحيفة "يديعوت أحرونوت" [1] من تفسخ يصيب المجتمع الإسرائيلي، هجرة اليهود من الجليل إلى غوش دان تزيد من الانقسام والتفسخ، الهجرة الفلسطينية العكسية من المركز إلى الجليل تزيد من الانقسام كذلك، صوت الناطقين باسم سلطات الاحتلال في الشمال التي عزمت إعلان إقامة "دولة الجليل" في ذكرى "الاستقلال" هذا العام تشي بالانقسام. "إسرائيل" تمشي إلى حتفها بفعل سياسات اليمين. وكلفة الحرب على غزة التي ستتجاوز الـ240 مليار شيكل (12% من حجم الناتج العام الإسرائيلي، 47% من حجم الميزانية العامة للعام 2024) لا شك سرعان ما ستظهر آثارها السلبية على خطط تطوير النقب والجليل سياسياً واجتماعياً. ربما غداً أو بعد غد، أو في المستقبل غير البعيد على أبعد تقدير. ولفهم الأمر، نحن بحاجة إلى العودة قليلاً إلى الوراء.
في فيلمه الوثائقي القصير "أنا كنت تسفي" يعرض المخرجان الإسرائيليان ديفيد أوفك وزوجته أييلت بشير حكاية "الشبيبة العربية الطلائعية" مرحلة الستينيات.[2] تشكلت "الشبيبة" من مئات الشبان العرب من الذين تجندوا من قبل منظمة "هشومير هتسعير/ الحارس الشاب" بغية العمل في الكيبوتسات رغبة في المساواة مع المستوطنين. كانت حركة "هشومير هتسعير" تقدم نفسها باعتبارها حركة يسارية تتبنى الاشتراكية وفكرة "الثنائية القومية" وتنادي بأخوة الشعوب. عمل الشباب العربي مع "هشومير هتسعير" في مستوطنات الجليل ورقصوا الهوّراة مع اليهود وأنشدوا الهتكفاه ورفعوا علم "إسرائيل"، حتى أنهم استبدلوا أسماءهم بأخرى يهودية نزولاً عند وعود الأممية وأخوّة "هتسعير"؛ أحمد صار اسمه تسفي، محمد صار يتسحاك، حمدان صار عاموس، ونبيل صار ناتان.
يروي فيلم "أنا كنت تسفي" كيف سقطت كل شعارات الأخوّة بعد أن تقدم أحد هؤلاء الشباب بطلب إلى وزير الزراعة لتخصيص أرض لإقامة "كيبوتس عربي". كان رد الوزير واضحاً: "أرض الوطن مخصصة لليهود فقط". بعد سنوات، حاول أحمد مصاروة (بطل الفيلم الذي كان قد انضم إلى شبيبة كيبوتس يكوم) الحصول مجدداً على أرض لإقامة "كيبوتس عربي" فتلقى جواباً أوضح: "لا تكن ساذجاً، على أراضي قريتك المصادرة نقيم ثلاث مستوطنات يهودية يرفع سكانها السلاح عند الحاجة... نظنك فهمت الرسالة".
حكاية الشباب العربي داخل مناطق الحكم العسكري (في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ـ48) لم تأخذ حيزاً وافياً من هستوغرافيا الصراع. مارس الصهاينة (اليسار منهم قبل اليمين) صنوفاً من الترهيب والسلب والتطويق للعرب طوال العقدين الأولين من عمر الكيان. كان الأمر واضحاً وثقيلاً في الجليل. حارب الحكم العسكري كل من حاول العودة من الفلسطينيين من وراء خطوط وقف إطلاق النار بإطلاق النار عليهم دون حساب. هدمت كثير من القرى العربية المهجرة (بما فيها قرى المهجّرين داخلياً - "الغائبين الحاضرين" -) بحجة تحويلها إلى مناطق عسكرية مغلقة. هذه السياسات كانت بالمحصلة تصب في هدف تهويد الجليل وتقليص مساحات الأراضي التابعة للفلسطينيين وعزلهم في قراهم وبلداتهم.[3]
في كتابها عن الدور الاستيطاني لليسار الصهيوني من خلال نشاط "هشومير هتسعير" في منطقة مرج ابن عامر ما بين 1936 و1956، تعرض الباحثة الفلسطينية أريج صباغ خوري، لخطورة طروحات اليسار الإسرائيلي في التعمية على حقيقة المشروع الصهيوني من خلال تركيزها على "هشومير هتسعير" وبداية عمل الأخيرة في الكيبوتسات منذ العشرينيات. تقسّم خوري كل تشكيلات "الحركة الاستيطانية الكيبوتسية" إلى مرجعيتين سياسيتين: حزب "مباي" بقيادة بن غوريون، وحزب "مبام" الذي تعود جذوره إلى حركة "هشومير هتسعير" وأحدوت هعفودا والمنظمة الاشتراكية. المفارقة أن "هشومير هتسعير" تعود اليوم بمسمى "هشومير هحداش" (الحارس الجديد). والمفارقة أيضاً، أن حدود اليمين واليسار تكاد تغيب بين الجمعيتين. "هشومير هتسعير" يسارية و"هشومير هحداش" يمينية، فيما تقدم الأخيرة نفسها على أنها الامتداد الشرعي للأولى.
تأسست منظّمة "هشومير هحداش/ الحارس الجديد" عام 2007 من قِبَل مجموعة من المستوطنين "من أجل الحفاظ على أراضي إسرائيل... ومساعدة المزارعين وتعميق ارتباط الإسرائيليين والشباب اليهود بالأرض وبالروح الصهيونية". تدعي المنظمة ارتباطها الفكري بكتابات إسحاق بن تسفي (ثاني رؤساء "إسرائيل")، ويهوشواع غوردون (نائب مدير دائرة الهجرة في الإدارة الصهيونية) وماكس نورداو (أحد زعماء الصهيونية ومؤسسيها) وغيرهم، كما تدعي أنها امتداد لمنظّمة "هشومير هتسعير والصهيونية المبائية" (اليسارية). ومع ذلك، ترتبط المنظمة باليمين الإسرائيلي وأحزابه الأكثر تطرفاً. رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت كان أحد أعضاء المنظمة حتى عام 2010، مئير هارتسيون، إيفي ايتام، أييلت شاكيد، كلهم يمينيون وكلهم يعبّرون عن فخرهم بالمنظمة ويقدمون لها الدعم. في الحقيقة، تشكل هذه المنظمة نموذجاً مختصراً عن تحولات المشهد الاجتماعي في "إسرائيل". انتقال اليسار إلى اليمين لم يكن صدفة، تحول هشومير هتسعير إلى هشومير هحداش لم يكن استثناءً. بالأصل، انتقال كثير من دعاة اليسار ومؤسساته إلى اليمين كان ظاهرة عالمية. لكن في "إسرائيل" تحديداً، للظاهرة معنى آخر.
تفيد الخرائط الانتخابية في الدورتين أو الثلاث الأخيرة بفهم المسألة بنحو صوري/ مشهدي. في غالبية الكيبوتسات الحدودية ثمة ميل للمعسكر "اليساري الصهيوني"، بينما يغلب الليكود في كل المدن والقرى الاستيطانية العادية بنحو كبير. في الخارطة الانتخابية لانتخابات عام 2020، مثلاً، يظهر ضعف اليمين بشكل كبير في إصبع الجليل مقارنة بغيره من الأقاليم كمنطقة الوسط، أو الضفة الغربية أو حتى النقب (أنظر الخارطة أدناه).
واقع الأمر، كانت هذه النتائج الانتخابية حصيلة طبيعية لعقود من سياسات التمييز الإسرائيلية، فحتى عام 1967، كانت مستوطنات الحافة الأمامية في الجليل الأعلى على الحدود اللبنانية والسورية ذات توجه اشتراكي ويساري، إلا أن مخاوف المؤسسة الأمنية من الكتلة العربية في الجليل كان قد دفع بها لإطلاق "خطط تطوير الجليل" لإفراغها من الكتلة العربية، بدءاً من وثيقة كينينغ عام 1976 (نسبة ليسرائيل كينينغ، متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية الإسرائيلية بين عامي 1967 و1985) إلى "قانون لجان القبول" عام 2011، وليس انتهاءً بقانون أساس القومية 2018.
المفارقة أن تلك السياسات عملت، من حيث لم تشأ، على تعزيز الانقسام والفرز في المجتمع الصهيوني نفسه. "قانون لجان القبول" الذي يمنح البلدات اليهودية (المكونة من 400 منزل وما فوق) حق إقامة لجان قبول لطالبي السكن الجدد، كان أول ضحاياه عائلات شرقية أرادت السكن في البلدات الجماهيرية ذات الأكثرية الأشكينازية جنوب فلسطين، وأخرى "أشكينازية/ غربية" أرادت السكن في البلدات الجماهيرية شمالي البلاد ذات الأكثرية الشرقية؛ في قلب الجليل تحديداً. وهذا الفارق/ الفالق هو نفسه كان وراء تحذير شموئيل روزنر في يديعوت أحرونوت، قبل نحو عام، من تحول الجليل إلى إقليم دونباس إسرائيلي (على شاكلة إقليمة الدونباس الأوكراني الانفصالي) يدعو إلى الاستقلال عن الدولة المركزية. مرة جديدة، "إسرائيل" تمشي إلى حتفها بفعل سياسات اليمين. وكلفة الحرب سرعان ما ستظهر آثارها السلبية على خطط تطوير النقب والجليل، ربما غداً أو بعد غد، أو في المستقبل غير البعيد.
[1] https://www.maariv.co.il/journalists/Article-1015479
[2] https://www.fdoc.org.il/movie/%D7%90%D7%A0%D7%99-%D7%94%D7%99%D7%99%D7%AA%D7%99-%D7%A6%D7%91%D7%99/
[3] استند الحكم العسكري في إدارته لشؤون المواطنين العرب المدنية إلى نظام الطوارئ لسنة 1945، وقوانين انتدابية وإسرائيلية أخرى، منها المواد 110، 111، و124، لتقييد حرية التنقل أو منعها. والمادتان 109 و125 لإعلان أي بقعة منطقةً مغلقة أمام السكان العرب. وقام جهاز الحكم العسكري بفرض قانون يلزم أي شخص يريد مزاولة عمل أو نشاط خارج حدود قريته (سواء أكان تجارة، أو تسوق، أم تعليم أو غيره) ضرورة الحصول على إذن من الحاكم العسكري مباشرة. راجع: عادل مناع، الفلسطينيون تحت الحكم العسكري في إسرائيل، 1948-1966، التحكم في مجمل مناحي حياة شعب محاصر، https://rb.gy/l0x05c.
[4] https://z.ynet.co.il/short/content/ElectionMap2020/?externalurl=true