أكبر مدن الخيام.. الميادين نت ترصد قصص النازحين في رفح جنوبي قطاع غزة
رفح باتت أكبر مركز لإيواء النازحين في غزة، إذا اضطر اللاجئين إلى استغلال كل المساحات المفتوحة بها خاصة قرب الحدود مع مصر، وسكنوا في خيام.
فوق تبة عالية من الرمال في رفح الفلسطينية، يحاول أحمد عياش، الفلسطيني من شمال قطاع غزة، تلمس مظاهر الحياة في الفضاء الفسيح على الجانب الآخر من الأراضي المصرية، المحاذية للمدينة التي امتلأت عن بكرة أبيها بخيام النازحين من المهجّرين قسرياً من أبناء غزة الصامدة في وجه العدوان والاحتلال.
التساؤل الذي تملّك تفكير عياش، في تلك اللحظات، وهو يسترجع ذكريات صباه في دوار أبو شرخ في جباليا، كما يسرد خلال حديثه إلى الميادين نت، هو كيف حال العائلات المستقرة في منازلها ومنها الجانب المصري والتي تنعم بالهدوء بعيداً من ويلات الحرب وجرائم الإبادة؟ وإن كانت نظراته تصطدم بالسور الحديدي والخرساني، بين القطاع وسيناء المصرية، الذي لا تستطيع عينه المجردة اكتشاف نهايته.
تمجيد "طوفان الأقصى" وأبطال المقاومة
لا يجزع عياش، كحال الملايين من أبناء غزة، مما حدث في 7 أكتوبر و"طوفان الأقصى"، ولا يلوم المقاومة، بل يمجد الحدث والأبطال، لكن القلق والخوف على عائلته من المصير المجهول في آخر بقعة للنازحين في غزة، إن اجتاح الصهاينة رفح، سيطر على صوته، كما يخشى تكرار سيناريو منزله الذي سُوّي بالأرض في منطقة الدوار بفعل القصف الإسرائيلي الذي أزال مربعات سكنية من خارطة غزة.
في ليلة وضحاها، بات منزل عائلته في خبر كان، وتهدمت معه كل مظاهر البهجة والذكريات، فنزح قسرياً إلى رفح الحدودية، وإلى منطقة تختنق بالنازحين داخل خيام لا تعد ولا تحصى، مثلما وصف في حديثه، حال تلك البؤرة الضيقة، البالغ مساحتها 55 كيلومتر مربع، بعد نزوح نحو مليون ونصف غزي أو أكثر إليها الآن.
المشاهد المروعة التي شاهدها، كما يصفها عياش، خلال رحلة نزوحه، من خان يونس إلى دير البلح وبعدها رفح، برفقة 8 أفراد من عائلته، من قتل ودمار وتشريد ولجوء وجثث ملقاة في الشوارع وأخرى منتفخة بعضها تحلل، وأحياء تحت الركام، فضلاً عن الدمار الهائل الذي لم يستثنِ أيّ بيت أو شارع، أو المنشآت الصحية والتعليمية، والتي تحوّلت إلى مراكز إيواء لمئات آلاف النازحين والمهجّرين قسراً بفعل القتل والدمار اللذين يمارسهما الكيان الصهيوني، يندى لها جبين أي عربي أو إنسان على وجه الأرض.
ووفق آخر الإحصائيات الرسمية من بلدية مدينة رفح، بلغ عدد سكان المدينة حوالى 300 ألف نسمة، وبخلاف مليون نازح جديد إليها بفعل التهجير والإبادة الجماعية، جميعهم أصبحوا يعيشون في تلك المساحة الضيقة، أصبحت تعاني من اكتظاظ سكاني.
العذاب والنزوح في "غابة الخيام"
كحال عياش، لا يخشى الشاب العشريني عمر أبو حلس، والذي كان يعمل في الحدادة، من الموت مثل الآلاف من أبناء غزة الصامدين، لكن أجواء الجوع والبرد والمطر، التي تتواجد بها شقيقته الكفيفة، ووالدته القعيدة، زادت مأساة الحرب على نفسه.
"لا أهاب الموت، وغزة في قلبي، لكن أخاف أن تنتهي الحرب وتستمر الحياة بنا هنا، وأخشى على الأطفال والنساء والشيوخ إن اجتاحت القوات الإسرائيلية خيام النازحين، والدتي وشقيقتي من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولا أعرف ماذا أفعل، إن لم يسمح لنا بالعودة إلى ديارنا، بتنا نعاني عذابات الجوع والبرد وسط تجاهل العالم الذي خذلنا ولم يقف في وجه الطغيان وجرائم الحرب من القتل والتشريد"، وفق حديث حلس، للميادين نت.
عمر أبو حلس وصديقه محمود نوفل، من مدينة بني سهيلا، جلسا في أحد الشوارع المزدحمة بالنازحين، التي تغطي الأصوات والضوضاء خوف ساكنيها، مثلما يظهر من صوت الهاتف النقال، بعد أن تعرفا للتو، يتبادلان الحكايات المروعة عما حدث لأرضهم ووطنهم من جرائم وتنكيل تفوق أي حروب العالم، ويقول نوفل: "طلب الصهاينة من المدنيين الآمنين النزوح مع أطفالهم ونسائهم إلى منطقة آمنة، فجئنا إلى رفح آخر نقطة في غزة، لن نخرج من أرضنا وسنعود ولن يدفعنا أحد إلى مصر، ومصر تغلق حدودها على غزة، نجاح مخطط الصهاينة يعني تهجيرنا إلى الأبد".
"غابة من الخيام"، هكذا وصفت التقارير الدولية حال رفح الصغيرة، التي باتت تضيق بالنازحين، لتصبح أكبر مأوى لسكان القطاع الفقير والمحاصر، الذين يخشون أن يدفعهم الاحتلال إلى أن تكون رحلتهم التالية مصر، وبحسب وكالة "الأونروا"، فإن ما يقرب من 90% من سكان غزة تعرضوا للتهجير القسري نصفهم في رفح، ويفتقرون إلى كل شيء، وهو ما خلق واقعاً أكثر تعقيداً في آخر بقعة من غزة.
ما يخشاه عياش ونوفل وحلس، وغالبية النازحين كذلك، هي المزاعم الكاذبة والاتهامات الجزافية التي يسوقها الاحتلال الإسرائيلي ضد وكالة "الأونروا" بشأن مشاركة عناصر منها بهجمات 7 أكتوبر على المستوطنات المغتصبة بغلاف غزة، وهي خطة صهيونية هدفها دفع النازحين جنوباً لعبور الحدود مع مصر.
"وين نروح".. البرد والمطر يغطينا
الرجل الأربعيني أحمد عبد القادر، الذي نزح من مخيم جباليا، بعد تهديدات الصهاينة، يصف في حديث مع الميادين نت، حال أسرته: "نعيش حياة الجوع والبرد والتشريد، لا مأوى ولا ملبس، تركنا كل ما نملك في منزلنا وهربنا من رصاص الاحتلال، كل ما نملكه خيمة، ونعيش على مساعدات الجيران النازحين مثلنا والمساعدات".
يلوم عبد القادر نفسه، وهو لا يتخيل للحظة أن تأكل أسرته الخبز المطحون من علف الدواب، كيف لم يمهل نفسه نصف ساعة لجمع حاجيات أسرته من منزله قبل النزوح؟ لكن وبلغة المرارة، التي كست صوته، عزاؤه الوحيد: "لم يمهلنا جيش الاحتلال أي وقت، ألقوا علينا أوامر الإخلاء، فخشيت قصف المنزل فوراً مثلما يفعلون، أولادي صغار فاضطررت إلى المغادرة سريعاً لإنقاذهم، بعضهم خرج حافي القدمين، بعد رحلة تملأها المرارة من الشمال إلى دير البلح وخان يونس، وصلنا إلى تلك المنطقة الحدودية، لم يتبق لنا إلا هذا المكان، رفح تلك هي آخر نقطة لنا".
أنهى عبد القادر، وهو أب لخمسة أطفال ويعيل والدته المسنة، حديثه قائلاً: "نعيش ظروفاً صعبة من جرّاء البرد والمطر الذي يغطي خيامنا، لا مساعدات ولا طعام أو شراب، ونعيش داخل خيام من القماش والبلاستيك تغمرها المياه.. وين نروح".
ولخصت والدة عبد القادر المسنة صبحة أبو طعيمة، التي عاشت النكبة ومختلف الحروب والجرائم الإسرائيلية، المشهد المأساوي في عبارتين: "هاي أصعب أيام حياتي، هاي أصعب الأيام في تاريخ فلسطين، وأكبر نكبة للدول العربية"، وبصرخة تشي بالوجع: "متنا يا عمي.. حسبي الله ونعم الوكيل في العرب والصهاينة".
أفكر في العودة إلى غزة
الآن أدرك علي حدايدة، كيف كانت تحيط به وأسرته، عناية الله حين ادخر حوالى 600 دولار أميركي، كان ينوي تجديد منزله بها، عقب سؤاله عن يومياته وأسرته في النزوح والتهجير.
دفع جيش الصهاينة حدايدة وعائلته، إلى رفح دفعاً مثل ملايين الغزاويين، "ولم أتوقع تلك الأعداد المهولة في تلك البقعة الصغيرة، هم يدفعوننا إلى مصر وهذا ما أخشاه، لولا عائلتي لعدت إلى دياري والموت بكرامة، سنعود يوماً ما وستبقى غزة رمزاً للصمود والعزة، لن نترك منازلنا، حتى لو نصّبنا الخيام فوق ركامها".
لقد نزح من بلدة بيت حانون مع زوجته وأطفاله التسعة، ولم تتوقف معاناة عائلته، حين اضطر إلى شراء خيمة يعادل سعرها حوالى 400 دولار، لا تكفي 5 أشخاص، لشحّ المساعدات الإنسانية وتحكم الصهيوني في إدخال سبل الإغاثة.
ويقول في حديثه مع الميادين نت، "إن العالم تخلى عنا، أضطر أنا وأسرتي للتكيف مع هذا الوضع المأساوي مع شحّ المساعدات، وهو أمر لم أتصوره في حياتي ولا يمكنني وصفه، ولا أعرف متى سيستمر بنا هذا الحال أو أي طريق لنهايته".
ورفح باتت أكبر مركز لإيواء النازحين في غزة، إذا اضطر اللاجئين إلى استغلال كل المساحات المفتوحة بها خاصة قرب الحدود مع مصر، وسكنوا في خيام، وهو أمر عزز المخاوف من رحلة أخرى إن أجبرهم الصهيانة إلى النزوح والضغط عليهم لدخول حدود مصر، وفق وجهات حكومية فلسطينية.