"أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

تُعدّ قرية المراح في جبال القلمون الموطن الأصلي للوردة الشامية. وفي مثل هذا الوقت من كل عام، تتحوّل آلاف الدونمات المزروعة بالورود إلى مهرجانٍ يحتفي فيه الأهالي بموسم قطاف هذه الوردة.

  • "أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

على بعد 60 كم شرق العاصمة السورية دمشق، تحتضن جبال القلمون ذات الطبيعة الجغرافية الصعبة، قارورةَ عطرٍ اسمها "المراح"، هذه القرية التي تعد الموطن الأصلي للوردة الشامية.

وفي مثل هذا الوقت من كل عام، في تلك الجبال البعيدة جغرافياً، والقريبة بالهوية الوطنية الجامعة للسوريين، تتحوّل آلاف الدونمات المزروعة بالورود إلى مهرجانٍ يحتفي فيه الأهالي بموسم قطاف هذه الوردة.

وتتجاوزُ الوردة الشامية كونها جزءاً من الهوية الثقافية لمناطقها، لتصبح مورداً اقتصادياً للعائلات التي تعمل بها وتتوارثها جيلاً بعد جيل، مستفيدين من خواصها العطرية والغذائية والتجميلية والطبية.

ما سرُّ الوردة الشامية؟

  • "أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

ذاع صيتُ الوردة الشامية عبر العصور، إذ انتقلت من بلاد الشام إلى العالم القديم  على أيدي اليونانيين والرومان وقدماء المصريين، ثم إلى أوروبا خلال حرب الفرنجة.

وحظيت الوردة الشامية بالاهتمام، نتيجة فوائد منتجاتها التجميلية كماء الورد وزيتها العطري الذي يعد الأغلى ثمناً في العالم.

ولا تقلّ فوائد منتجاتها الغذائية أهمية عن التجميلية، فمربى الورد ذو قيمة غذائية عالية، ويعد شراب الورد الشراب الأكثر شعبيّة في دمشق لإكرام الضيوف.

ويمتلئ التاريخ بقصص الملوك مع الوردة الشامية، إذ تعتبر من الشعارات الأساسية للعائلة الملكية البريطانية، ويروى أن صلاح الدين الأيوبي حين حرّر القدس من الصليبيّين، جلب 500 جمل محملاً بماء الورد من دمشق، لتطهيرها من رجس الغزاة.

وبلغ إعجاب الخليفة المتوكل بهذه الوردة أن منع عامة الشعب من زراعتها قائلاً : "أنا ملك الملوك وهذه ملكة الورود لذلك يستحقُّ كل منا الآخر".

  • "أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

أما أدبيّاً، فقد ذُكرت الوردة الشامية في كثيرٍ من الكتابات أبرزها ملحمتا الإلياذة والأوديسا، حتى أن شكسبير حين أراد وصف جمال امرأة في إحدى مسرحياته، قال: "إنها جميلة كجمال وردة دمشق".

موسم القطاف.. فرحٌ واستعادة ذكريات خربتها الحرب

"بيسألني الورد.. بتقطفني أنا لمين؟!.. قلت للورد.. خود مني هالعهد.. ما رح إهديك إلا لأحلى الحلوين".

ينصتُ الجميع لصوت أم أحمد الشجي وهي تدندن هذه الأهزوجة الشعبية أثناء قطافها الورد وتقول للميادين نت: "نحن هنا نعد الأرض للزراعة ونزرع ونقطف، لا يقتصر الأمر على ذلك بل نصنع منتجات ما بعد القطاف، كماء الورد والزيت والمربى والشراب والكريمات التجميلية، كلها من ورداتنا وشجيراتنا".

وتشرح السيدة الخمسينية لزوار القرية، كيف تفرز الورد بين ما هو مناسبٌ للشراب والمربى وبين ما يصلح للزهورات، وتقول: "الأزرار هي الزهور التي لم تتفتح بعد، نحن نقوم بتيبيسها وتجفيفها لنصنع منها الزهورات التي تفيد في معالجة الرشح وتقوي المناعة، وكل 11 طناً من هذه الأزرار يعطي كيلو غراماً واحداً من الزيت العطري، إذا استخدمنا أجهزة عادية، أما الأجهزة الحديثة  فكل 4 أطنان تعطي كيلو غراماً واحداً من الزيت" .

  • "أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

"الأيّام الخوالي" هكذا تصف أم أحمد أيام ما قبل 2011 وتستذكرها قائلة: "كنت وزوجي وأولادي، ننقل المحصول الذي كانت كميته تقدر بالأطنان إلى سوق البزورية بدمشق، حيث يأخذه تجار لبنانيون متخصصون، وينقلونه إلى أوروبا وتحديداً إلى فرنسا حيث يقومون بتقطيره لصناعة أفضل العطور وأفخمها".

تستبشر أم أحمد بموسمٍ وفير هذا العام بعد هطولات اعتبرتها كافية، تمسك بيدها مجموعةً من الورود وتقدمها إلينا لنشم رائحتها ونحتفظَ بها وتقول ضاحكة: "ألم تسمعوا ماذا قال نزار قباني؟.. أنا وردتكم الدمشقية يا أهل الشام.. فمن وجدني فليضعني في أول مزهرية".

رائحة الورد تطغى على رائحة البارود

بخفّةٍ لافتة تضع ريم  جزءاً من الورد الذي تقطفه في جيبٍ من القماش تعلقه على خصرها، والجزء الآخر تضعه في سلّة صغيرة وتقول للميادين نت: "نقل أبي هذا العام جهاز استخراج ماء وزيت الورد إلى الحقل مباشرة، ليخفّف علينا الوقت والجهد والتكلفة، ولكي نستطيع الاستخراج مباشرة بعد القطاف، كون ذلك يُعطي قيمة مضافة للمنتج".

تُسِرّ الشابة العشرينية لنا أنها تتغيب عن بعض المحاضرات في الجامعة، كي لا تفوتها هذه الأجواء المليئة بالحماس والسعادة، والتي لا تحدث إلا مرة في السنة. وتتابع: "رغم أنني أجد صعوبة في الاستيقاظ فجراً، لكنني في الموسم أشعر بعكس ذلك، فأنا أقوم بعد القطاف بفرك الورد قليلاً، ثم أضع الكمية المناسبة في الجهاز بعد ضبطه على درجة حرارة عالية، وعندما أنتقل للتقطير أقوم بتبريد الجهاز وخفض درجة حرارته".

  • "أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

أما عن سبب اختيارها لمهمة العمل على هذا الجهاز، فتعترف طالبة كلية الآداب في جامعة دمشق، أنها تنتظر استخراج أول 10 ليترات كونها المناسبة للاستخدام لنضارة الوجه والزينة. ثم تضحك وتقول: "أريد أن أحجز حصتي قبل أن تنفد الكمية، فالـ10 ليترات التالية نخصّصها للصناعات الغذائية كون دسمها أخف".

تنتقل ريم إلى المنزل القريب من الحقل، لتقوم بإعداد شراب الورد الذي يعد الضيافة التقليدية لأهل الشام وتشرح: "شراب الورد الذي نقدمه الآن هو من العام الماضي، لأن عملية إعداده طويلة لكنها تحفظه لمدة 5 سنوات، فهو يحتاج للأوراق فقط، ننخلها ونفركها ونصفيها ونرقدها ثم نضيف إليها السكر، وكل كيلوغرام من الورد يحتاج إلى 4 ليترات من الماء".

تغالبُ الشابة دموعها مستذكرة أخيها الذي استشهد في الحرب، "لقد كان يحبه كثيراً، يا ليته رأى كيف عاد المهرجان وكيف عدنا إلى زراعة الوردة الشامية".

عملٌ مضاعف وأرقام مبشرة بموسم جيد

يجول مدين البيطار رئيس جمعية المراح لإحياء وتطوير الوردة الشامية، على حقول القرية مطمئناً على مجريات عملية قطاف الموسم، ويقول للميادين نت: "بتنا نعملُ بشكلٍ مضاعف بعد أن أُدرجت الوردة الشامية ومنتجاتها على قائمة التراث العالمي اللا مادي، للتوسع في إنتاجها وتطوير صناعتها".

يعتبر بيطار الذي يعمل في زراعة الورد منذ زمن طويل، أن زراعة هذه الوردة أُهملت في بعض المراحل لكن الوضع أفضل اليوم ويشرح: "هذا العام بلغت المساحة المزروعة 3500 دونم في القرية، ونتوقع إنتاج حوالى 60 طناً من الورد بسعر 2500 لكيلو الورد الأخضر، و700 ليرة لكيلو الورد اليابس".

  • "أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

أما عن الإجراءات السنوية لدعم الفلاحين وتمكينهم من الحصول على مردودٍ كاف فيقول البيطار: "كل عام يتم استصلاح 500 دونم بشكل مجاني، ويُشترط على أصحابها زراعتها فوراً، وإلا يتم تقاضي أجور استصلاحها، ويتم العمل على حفر آبارٍ جديدة وتعبيد الطرق الزراعية للوصول إلى الحقول بيسر وسهولة، وهناك جهودٌ تبذل لتمكين الفلاحين من الحصول على أجهزة حديثة لاستخراج الماء والزيت العطري".

الخطة الوطنية لصون الهوية التراثية والثقافية لسورية تمضي قدماً

تشرف ريم الإبراهيم، العاملة في برنامج التراث الحي لدى الأمانة السورية للتنمية، على سير فعاليات مهرجان قطاف الوردة الشامية.

وبينما ترافق بعضاً من الزوار لتذوق وتجربة منتجات الوردة الشامية تقول للميادين نت: "اهتمت الأمانة السورية منذ تأسيسها بصون الهوية التراثية والثقافية، وهذا المهرجان هو من ضمن الخطة الوطنية التي وضعتها الأمانة بالشراكة مع جهات حكومية وأهلية لصون الوردة الشامية، بعد أن نجحت في تسجيلها على قوائم اليونيسكو للتراث اللا مادي".

  • "أغلى من الذهب.. وأبقى من النفط".. جمالُ الوردة الشامية يهزم قبح الحرب

تؤكد الإبراهيم أن الأمانة لا تدعم فقط أهل قرية المراح، بل كل من يزرع الوردة الشامية على امتداد أرض الوطن وتوضح: "موطن الوردة الأصلي هو في قرية المراح، لكنها موجودةٌ وتزرع بأسماء مختلفة في عدة محافظات سورية، على سبيل المثال منطقة النيرب بحلب والمهالبة بريف اللاذقية".

مهرجان قطاف الوردة الشامية، هو واحد من أصل عدة إجراءات اتخذتها برامج الأمانة السورية للتنمية لإحياء  هذه الزراعة وصونها، تعدد ريم بعضاً من هذه الإجراءات قائلة: "عملنا على حلّ الكثير من العقبات أمام هذه الزراعة مثل زيادة المساحات المزروعة، وإقامة الندوات التعريفية والتعليمية للفلاحين بخصوص آلية الزراعة، ومكافحة الآفات التي تصيب المحصول كما عملنا على تسويق منتجات الفلاحين في التكية السليمانية والسورية للحرف في جميع المحافظات".