أصواتهم دليل "جوّا قلوبنا".. الغزّيون يتفقدون آثار شهدائهم في المقابر المجرّفة

تغيب الشمس، ولا يملّ المئات من الرجال والنساء، البحث عن جثامين أبنائهم، يحيط المئات بالمقبرة المجرفة، والقليل من الأهالي يزورون البيوت المهدّمة، "الميت هنا أبقى من الحي".

  • فلسطينيون يعاينون الأضرار في مقبرة بخان يونس في 17 يناير الحالي (أ.ب)
    فلسطينيون يعاينون الأضرار في مقبرة بخان يونس في 17 يناير الحالي (أ.ب)

كان يجب أن نذهب إلى حيّ التفاح شرقي مدينة غزة، كي نفهم الدافع الذي قضى لأجله ثلاثة شبان رفقة والدتهم التي تجاوزت الستين عاماً من العمر في مقبرة الفالوجا غربي مخيم جباليا، حاول من تبقى من العائلة نقل جثمان آخر العنقود، من فسحة التراب حيث دُفن في شارع يعجّ بالمارة والبسطات التجارية، إلى مقبرة الحي؛ لقد أقسمت الحاجة بحياتها وحياتهم، أنها لن تدخل لقمة واحدة إلى جوفها، قبل أن يكرموا جثمان محمود.

وفي مقابل هذه المساومة التي تخر أمامها عزائم الرجال، قرر الجميع المخاطرة. دخلوا المقبرة، وشرعوا في حفر قبرٍ كريم للشهيد الذي لم يزهر العام الرابع عشر من ربيع عمره بعد، وقبل أن يفرغوا من مهمتهم، باتت مهمة من تبقى من العائلة أكثر صعوبة، إذ عليهم أن يجمعوا أشلاء أم شهداء أربعة من العائلة، والتي فتّت صاروخ من طائرة مسيّرة جسدها وأجساد الشبان الثلاثة جميعهم، قبل أن يفرغوا من حفر قبر صغيرهم الأول.

تحضر المفاضلة الصارخة التي تلغي مأثورات اجتماعية قديمة مِن مثل "الحي أولى من الميت"، في وجوه من عادوا إلى حي التفاح، كانت الوجوه المشدوهة، تحث الخطى إلى مقبرة البطش، التي جرفتها الآليات الإسرائيلية، وعجنت جثامين شهدائها الغضة بالتراب، في محيط المقبرة التي يتجاوز عمرها المئة عام، يذهب القليل لتفقد مئات المنازل المدمرة، ربما، سيكون البحث عن ما سلم من مواد تموينية وأغطية بين الركام، خطوة لاحقة، سيلتفتون إليها بعدما ينتهون من البحث عن بقايا جثامين أبنائهم الشهداء.

حتى اللحظة، لم يفهم أحد على وجه الدقة العلاقة الثأرية بين جنود العدو و27 مقبرة دمرتها الجرافات الإسرائيلية وسوّت قبورها بالأرض، لقد نبشوا كل مقبرة وصلت إليها جنازير دباباتهم، الفالوجا في جباليا، النمساوي في خان يونس، والبطش في حي التفاح، يعتقد البعض، أن "جيش" العدو يبحث عن جثامين جنوده القتلى. "يظنون أن المقاومين يشرفونهم بالدفن إلى جانب الشهداء"، قال أحمد الخضري في حديثه إلى الميادين نت، وأضاف وقد تبدّى قهر رجال العالم كله في ملامحه: "وحينما يعودون خائبين، ينتقمون من الشهداء والأموات، إنهم يلاحقوننا أحياءً وأمواتاً".

إلى جانب مقبرة البطش في حي التفاح التي استحالت تراباً، كانت تجلس الحاجة أم كمال، في حجرها أكوام من أغصان الياسمين وعسفة نخيل، لقد انتظرت أم الشهيدة لويرزا انسحاب القوات الإسرائيلية بفارغ الصبر، لكي تزور القبر الذي تسكنه ابنتها الكبرى رفقة أبنائها الأربعة، وقطعت في سبيل ذلك، طريقاً يزدحم بركام المنازل المدمرة، تقول للميادين نت: "حرقوا قلبنا الله يحرق قلوبهم، ما رضيت أنزح على الجنوب حتى أضل قريبة منهم، كنت بحلم في النهار إلى رح آجى أزورها فيه، لا خلوا قبر ولا شي من أثرهم".

القبور هنا، أكبر من مجرد حجارة، إنها صلة الوصل بين من رحل ومن ينتظر الرحيل، ونقطة ارتكاز لكل الأجواء الاجتماعية التي تحافظ على البقاء الشعوري للشهداء، زيارات الأعياد، استعادة الذكريات، ومساءات الخميس. تقول أم عماد، وهي مسنّة قضى نجلها محمد شهيداً قبل أكثر من عشرين عاماً: "والله ما بشعر بالراحة يمّا إلا لما أزوره، بحس إنو عايش، أنا بزور قبره كل أسبوع مرة، بعمل حلويات وبوزع على كل إلى في المقبرة عن روحه، لما بقعد ساعتين يا خالتي أحكي معه، بحس في صوته جوا قلبي بيردّ عليا، بشعر بضحكته، قبره أعز مكان على قلبي في هذه الدنيا، هوّا إلّى مهوّن عليّا وجع الشوق، لحد ما يأخذ الله أمانته أنا ما بغيب عن زيارته".

تغيب الشمس، ولا يملّ المئات من الرجال والنساء، البحث عن جثامين أبنائهم، يحيط المئات بالمقبرة المجرفة، والقليل من الأهالي يزورون البيوت المهدّمة، "الميت هنا أبقى من الحي"، قلنا الجملة آنفة الذكر في شكل سؤالٍ أو استنتاج، لترد أم عماد: "ليسوا أمواتاً، الله قال عنهم في  آيات عدة إنهم أحياء عنده يرزقون".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.