هل ستنجح "دبلوماسية الباندا" الصينية في تفكيك طوق التحالفات الأميركية في المنطقة
تركيز بكين على الجانب الاقتصادي، يأتي انطلاقاً من فكرة البناء على القواسم المشتركة بين البلدين، وترسيخاً لرؤيتها المتمثلة بأن الاقتصاد يشكل القاطرة للعلاقات السياسية بين الدول وليس العكس.
مساعٍ حثيثة تقوم بها الحكومة الصينية لمنع دول المنطقة من المضي قدماً في تحالفاتها الأمنية والعسكرية مع واشنطن.
آخر تلك المساعي هي الزيارة التي قام بها رئيس مجلس الدولة الصيني، لي تشيانغ، لأستراليا، والعمل على عودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها.
أستراليا دولة مهمة بالنسبة إلى الصين، فهي أكبر جزيرة في العالم، وأصغر قارة، وتبلغ مساحتها نحو ثمانية أضعاف مساحة مصر، وحجم اقتصادها ضعف حجم اقتصاد المملكة العربية السعودية.
منذ وصول الرئيس شي جين بينغ إلى السلطة، عمل على توطيد العلاقة بين بكين وكانبيرا. وقام في عام 2014 بزيارة أستراليا وإلقاء كلمة أمام البرلمان، داعياً إلى تطوير العلاقات بين البلدين، وصولاً إلى الشراكة الاستراتيجية بينهما، وإلى أن تكون أستراليا جزءاً من مبادرة الحزام والطريق.
تطوُّر العلاقات بين البلدين لم يَرُقْ للولايات المتحدة الأميركية التي فجرت أزمة بين البلدين بعد اتهام عدد من رجال الأعمال والشركات الصينيين العاملين في أستراليا بمحاولة تقديم رِشىً إلى بعض السياسيين هناك.
تدهورت العلاقات بين البلدين في عام 2018، بعد تحفظات أستراليا عن قيام شركة هواوي الصينية بتنفيذ شبكة 5G هناك، تحت ذريعة المخاوف من قيام الشركة بأعمال تجسس لمصلحة بكين.
هذا الموقف فُهم على أنه جاء تلبية وانسجاماً مع الموقف الأميركي الداعي إلى عرقلة حصول شركة هواوي على عقود لتنفيذ شبكات الإنترنت في عدد من دول العالم.
وفي عام 2020، وبعد انتشار فيروس "كوفيد 19"، كان موقف الحكومة الأسترالية لافتاً، بحيث دعت إلى فتح تحقيق دولي لكشف مصدر الفيروس، مطالبة بكين بتقديم التعويضات مما لحق بالعالم بسبب انتشار هذا الوباء.
وفي عام 2021، تم إعلان تأسيس تحالف أوكوس، الذي ضم كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وهو تحالف تَعُدّه بكين موجَّهاً ضدها.
دبلوماسية الباندا والعلاقات بين البلدين
يُعَدّ دب الباندا في الثقافة الصينية حيواناً رقيقاً ومحبوباً، لذا عملت بكين على جعله سفيراً لها، الأمر الذي يدل على حبها وصداقتها للدول التي تقدّم إليها هذا الحيوان.
وبالتالي، باتت "دبلوماسية الباندا" نوعاً من القوة الناعمة الصينية، وتقليداً عملت به بكين منذ نحو ألف عام.
جرت العادة أن تقوم بكين بإهداء زوج من الباندا تعبيراً عن صداقتها لبعض الدول، على أن تقوم تلك الدول بإرسال مواليد الباندا إلى الصين.
وفي العصر الحديث، تم استخدام الباندا في عام 1972، حين زار الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون الصين، ومع بداية الانفتاح بين البلدين، بعد أن تم إعطاء مقعد تايوان في الأمم المتحدة لجمهورية الصين الشعبية، في عام 1971.
حينها أعلن الرئيس ماو إهداء الصين الولايات المتحدة زوجاً من الباندا، تعبيراً عن دفء العلاقات بين البلدين.
وفي عام 2017، قامت الصين بإهداء زوج من الباندا لألمانيا، وظهر الرئيس الصيني والمستشارة الألمانية ميركل إلى جانبهما، تعبيراً عن الألفة والصداقة بين شعبي البلدين.
أمّا أستراليا فتم إهداؤها زوجاً من الباندا في عام 2009، لكنهما لم يتكاثرا حتى الآن. لذا، قررت بكين استرجاعهما وإبدالهما باثنين آخرين.
رئيس مجلس الدولة الصيني رأى أن ذلك ربما عائد إلى ابتعادهما عن أرض الوطن، والرغبة في العودة إليه، ليعيشا حياتيهما الطبيعيتين.
في المحصلة، فإن "دبلوماسية الباندا" فيها عدد من العِبَر والرسائل السياسية، كما أنها لا تخلو من الرومانسية، إلى حد كبير، وهو ما لا ينطبق على العلاقات الدولية بكل تأكيد.
بشأن العلاقة بين الصين وأستراليا، فإن القضية تتمحور حول رغبة بكين في تفكيك التحالفات والتعاون الأمني بين الولايات المتحدة ودول المنطقة، وعلى رأسها أستراليا.
أستراليا والتحالفات الأمنية في المنطقة
تاريخياً، كانت أستراليا مستعمرة بريطانية، حصلت على استقلالها في عام 1942، لكنها ظلت تدور في الفلك البريطاني والفلك الأميركي.
هي جزيرة، بمعنى أنها دولة محاطة بالبحر من كل جوانبها، وبالتالي فإنها في حاجة إلى أسطول بحري قوي، لا تمتلكه حتى الآن.
كانت أستراليا جزءاً من عدد من التحالفات الأمنية التي نسجتها الولايات المتحدة الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
بعد الحرب العالمية الثانية، جرى تشكيل تحالف أمني باسم العيون الخمس، ضم في البداية الولايات المتحدة وبريطانيا، وانضمت إليه أستراليا في عام 1956.
وفي عام 2007، جرى إعلان تحالف كواد الرباعي، الذي ضم الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا والهند واليابان.
وفي عام 2021، كانت أستراليا جزءاً من تحالف أوكوس الذي سمح لها بامتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية، لتكون بذلك الدولة السابعة في العالم التي تمتلك مثل تلك الغواصات، ولتكون الدولة الوحيدة غير النووية التي تم تزويدها بمثل تلك الغواصات.
تحالف أوكوس لم يكن فقط متعلقاً بتزويد أستراليا بالغواصات النووية، كما أُشيع حينها، لكنه تضمن أيضاً مساعدة أستراليا على امتلاك صواريخ متطورة، وتقنيات تمكّنها من خوض الحروب السيبرانية، بالإضافة إلى التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي، ووجود قوات عسكرية أميركية في أراضيها... إلخ.
تلك الأسباب جعلت بكين ترى في أستراليا أداة لتنفيذ السياسات الأميركية في المنطقة، في حين ترى كانبيرا أن بكين تتنمّر عليها وتحاول فرض إرادتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
التعاون الاقتصادي بين البلدين
الصين أكبر شريك تجاري لأستراليا، بحيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 202 مليار دولار، في عام 2023.
للسوق الصينية أهمية كبيرة لأستراليا، بحيث تستقبل نحو 30٪ من صادراتها، بينما تستورد كانبيرا نحو 20٪ من مستورداتها من الصين.
في عام 2020، فرضت بكين نوعاً من العقوبات على بعض المستوردات من أستراليا، ومنها النبيذ ولحم البقر والشعير والفحم.
في عام 2022، مع وصول رئيس الوزراء الأسترالي، أنتوني ألبانيزي، تحسنت العلاقات بين البلدين، وتُوِّجت بزيارة رئيس مجلس الدولة الصيني لأستراليا.
بدأ زيارته من مدينة بيرث، وهي عاصمة ولاية أستراليا الغربية، وكانت مصدراً لـ 39 ٪ من الحديد الخام المصدَّر إلى العالم، العام الماضي.
كما زار رئيس مجلس الدولة الصيني كروم العنب التي تتم منها صناعة النبيذ، بحيث كان تم رفع الرسوم الصينية المفروضة على هذه الصناعة في شهر آذار/مارس الماضي.
وجرى توقيع خمس اتفاقيات بين البلدين شملت مناحي الاقتصاد والثقافة والتعليم والتجارة، وإعلان إدراج أستراليا على لائحة الدول التي يُعفى مواطنوها من تأشيرات الدخول للصين، وإعلان منح تأشيرات دخول متعددة الاستخدام، لمدة خمسة أعوام.
زيارة مناجم الليثيوم في أستراليا من رئيس مجلس الدولة الصيني تشير إلى أهمية هذه المادة الاستراتيجية، بحيث تدخل في صناعة البطاريات للسيارات الكهربائية، وهي الصناعة التي باتت اليوم تستحوذ على جزء كبير من اهتمام العالم.
تركيز بكين على الجانب الاقتصادي، يأتي انطلاقاً من فكرة البناء على القواسم المشتركة بين البلدين، وترسيخاً لرؤيتها المتمثلة بأن الاقتصاد يشكل القاطرة للعلاقات السياسية بين الدول وليس العكس.
يبدو أن بكين حريصة، أكثر من غيرها، على المحافظة على الأمن والاستقرار للبيئة الاستراتيجية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتي تضم أربعاً وعشرين دولة، لكل منها خصوصيتها في الساحة الدولية.