ماذا وراء أزمة المياه في جنوب أفريقيا؟
أدركت شركات جنوب أفريقيا والقطاعات المعنية بالمياه أنها في حاجة إلى حلول مبتكرة لحل أزمة نقص المياه بصورة مستدامة. وقُدّمت حلول كثيرة.
تعاني جنوب أفريقيا نقص المياه وندرتها منذ عام 2015. وبدت هذه الأزمة جلية في أيار/مايو 2017، عندما تصدّرت كيب تاون - واحدة من أكثر المناطق الحضرية اكتظاظاً بالسكان في جنوب أفريقيا - منصات الأخبار بسبب الخوف من "يوم الصفر" (Day Zero)، وهو مصطلح تُوصف به حالة انخفاض السدود الرئيسة إلى نسبة 13.5 في المئة من سعتها، الأمر الذي يستدعي إغلاق شبكة المياه البلدية ومواجهة ملايين السكان قيوداً شديدة على المياه.
وفي حين لم يحدث "يوم الصفر" في كيب تاون، حيث لم تصل السدود إلى المستوى الحرج (13.5 في المئة)، إلّا أن سدود المياه العذبة انخفضت إلى أقل من 25 في المئة من سعتها. واستمرت الأزمة إلى اليوم لتصبح من القضايا الرئيسة، التي تشغل الرأي العام، وخصوصاً أن المدن الأخرى في جنوب أفريقيا تواجه اليوم أزمة مماثلة، إذ أُعلِن مؤخراً أن محافظة "غاوتينغ" - المركز الاقتصادي لجنوب أفريقيا – بدأت تتحمل العبء الأكبر بشأن نقص المياه.
وأرجع خبراء البيئة والمياه ومسؤولو الحكومة في جنوب أفريقيا سبب الأزمة إلى عدة أمور وعوامل، بعضها مادي، بالإضافة إلى عوامل أخرى اقتصادية وبيئية واجتماعية ومناخية، إلى جانب ضعف ثقافة استهلاك المياه.
العوامل المادية
اتفق العلماء وخبراء المياه والبيئة ومسؤولون في جنوب أفريقيا على أن تهالك البنية التحتية المستخدمة للمياه من الأسباب الرئيسة لهذه الأزمة، بحيث إن أغلبية مناطق البلاد لا تزال تستخدم البنية التحتية التي يزيد عمرها على ثلاثة عقود من دون صيانة أو استبدال، بينما يُدار نحو 64 في المئة من المياه الصالحة للاستخدام من جانب هذه البنية التحتية، وهو ما أدى إلى انخفاض مستويات إمدادات المياه في كيب تاون وجيكبيرها (Gqeberha).
تحدث أزمة المياه في وقت تعاني جنوب أفريقيا أيضاً أزمة انقطاع التيار الكهربائي، وهو ما يفاقم الوضع ويزيد في الضغط على الحكومة ومسؤولي قطاعي المياه والكهرباء. وهناك علاقة بين الأزمتين، إذ تتوقف إمدادات المياه عندما تحاول شركة الكهرباء التخلص من الأحمال، بينما يعني انقطاع الكهرباء ارتفاع الطلب على المياه، وخصوصاً في حالات انقطاع التيار الكهربائي فترات طويلة، بحيث تسبب درجات الحرارة الحارقة، إلى تسجيل ثلاث بلديات أعلى معدل استهلاك للمياه، وإلى استنزاف بعض خزانات المياه في "غاوتينغ"؛ المركز الاقتصادي الذي قال مسؤولون إن إمدادات مياهه معرضة لخطر الجفاف.
ويُلمَس من تصريحات المسؤولين أن عدة محطّات ضخ للمياه في "جوهانسبرغ" و"تشواني" في حاجة إلى إمدادات ثابتة من الكهرباء لتغذية أبراج مياهها، بينما يفرض الوضع الراهن على سكان المدينتين التزام قيود "المستوى الـ1" وتقليل الاستهلاك من أجل المحافظة على إمدادات مياه ثابتة. وتحظر قيود "المستوى الـ1" استخدام خراطيم المياه بين الساعتين الـ6 صباحاً والـ6 مساءً، واستخدام خراطيم المياه في المناطق المرصوفة والممرات، كما تحث على استخدام المياه الرمادية في ريّ الحدائق وغسل السيارات.
بناءً على ما سبق، فإن معالجة أزمة المياه تعني ضرورة التحسّن في التيار الكهربائي، الذي يعاني أيضاً بسبب بنيته التحتية القديمة المتهالكة. وأثبتت حوادث الأشهر الماضية أن الاكتفاء بمعالجة عوارض أزمة المياه لا يُجدي نفعاً، ففي مايو الماضي استُنفدت السدود في بلدية "نيلسون مانديلا باي"، التي تضم مدينة "جكيبرها"، وأدى الإفراط في استخدام المواد الكيميائية من أجل معالجة المياه الآسنة المتبقية إلى وفاة طفلين ونفوق المواشي وإتلاف النباتات.
عوامل اقتصادية واجتماعية ومعرفية
تكبر نسبة نقص المياه في المدن الكبرى، ذات الأنشطة الاقتصادية المتعددة، مثل مدينة "غاوتينغ" التي تتحمل وطأة الأزمة بسبب ارتفاع الطلب على المياه فيها. وشملت العوامل الاقتصادية للأزمة نقص الاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا اللازمة لجمع المياه من الأنهار واستغلال طبقات المياه الجوفية ومصادر المياه الأخرى، والتي يمكن استغلالها لأغراض متعددة، بما في ذلك الزراعة، إلى جانب القدرات البشرية غير الكافية لتلبية الطلب على المياه.
وهناك عامل المعرفة والتثقيف بأهمية عدم الإفراط باستخدام المياه في جنوب أفريقيا، بحيث أفادت عدة دراسات بأن معظم مواطني البلاد غير مدركين كيفية حماية المياه وإدارتها، وأن أغلبية حكومات البلديات المحلية لا تملك المهارات والقدرات على إدارة البنية التحتية للمياه، بصورة صحيحة.
يُضاف إلى ما سبق أن السكان يستخدمون من المياه أكثر من المتوسط العالمي بنحو 234 لتراً من الماء للفرد يومياً، وهو ما يزيد على المتوسط العالمي البالغ 173 لتراً، بالإضافة إلى أن مليارات الغالونات من مياه الصرف الصحي والنفايات الاصطناعية والصيدلانية تهدر في الأنهار والبحار من دون استغلال وإعادة تدوير، بينما ما مجموعه 56 في المئة من محطات المعالجة في البلاد في حالة سيئة.
ما لا شك فيه أن عامل التاريخ وعنصر التوزيع غير المتكافئ للمياه يؤثران في الأزمة، إذ إن التخطيط الجغرافي المكاني لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وفّر المياه للمناطق الحضرية، بينما المناطق الفقيرة والريفية الكثيرة تعاني عدم توافر المياه وتفتقر إلى خدمات إمدادات المياه والصرف الصحي الأساسية. ويؤكد هذا أنه يوجد لأقل من 40 في المئة أو 45 في المئة صنابير مياه في منازلهم. وعلى الرغم من موقف حكومات جنوب أفريقيا السابقة والراهنة بشأن مشاريع تحسين حالة المياه في المناطق الفقيرة والريفية، فإن تقارير الصحف المحلية أظهرت أن هذه المشاريع لم تُحدث فارقاً كبيراً، وأن التباينات لا تزال كبيرة فيما يتعلق بتوزيع البنية التحتية للمياه بين المجتمعات الريفية والحضرية.
عامل تغير المناخ
لا يمكن إبعاد عامل تغير المناخ عن أزمة ندرة المياه التي تواجهها جنوب أفريقيا، لأن البلاد تشهد تأخر هطول الأمطار وقلتها وعدم اتساقها. وتستقبل البلاد 497 مليمتراً من الأمطار سنوياً في المتوسط، وهو أقل بنسبة تزيد على 50 في المئة من المتوسط العالمي البالغ 860 مليمتراً في السنة، يؤدي إلى خفض مستويات السدود، وبالتالي الجفاف في أجزاء متعددة من البلاد.
وتُعَدّ جنوب أفريقيا ودول أخرى في أفريقيا بين أكثر الدول عرضة لانعدام الأمن الغذائي والمائي، والناجم عن الظواهر الجوية الشديدة، والتي كانت من آثارها حالات الفيضانات والجفاف طوال عام 2022، والتي عانتها دول كثيرة، بما في ذلك موزامبيق والنيجر ونيجيريا ورواندا والسنغال وسيراليون.
وكشفت "ESI Africa" في تقريرها أن جنوب أفريقيا على وشك الوقوع في مشكلة نقص في المياه بنسبة 17 في المئة بحلول عام 2030، وأن تغير المناخ والظروف الجوية القاسية ستفاقم المشكلة. وهذا يستدعي خطة شاملة لتفادي ما وقع في كيب تاون عام 2017 عندما أجبر الجفاف سكان المدينة، البالغ عددهم أكثر من 4 ملايين نسمة، على خفض استهلاكهم اليومي من المياه إلى النصف.
حلول مقترحة
أدركت شركات جنوب أفريقيا والقطاعات المعنية بالمياه أنها في حاجة إلى حلول مبتكرة لحل أزمة نقص المياه بصورة مستدامة. وقُدّمت حلول كثيرة، بحيث يتم تنفيذها، بما في ذلك خطة تحديث البنية التحتية لمرافق مياه المدن في الأعوام الخمسة المقبلة، وتطوير مصنع لتنقية المياه الحمضية التي تتخلص منها المناجم وإعادة تدوير المياه المستخدمة ومعالجتها، بحيث يمكن استخدام هذه المياه النقية للشرب والري، وخصوصاً أن بعض مرافق المياه في بعض المدن، مثل "غاوتينغ"، يملك تدابير قد تساعد على إنجاز الخطة.
وفي حين دعت شركات أخرى سكان جنوب أفريقيا إلى تبنّي نموذج بناء خزان المياه الكبير، أو شراء الخزانات لتخزين المياه والمحافظة عليها من جانب المجتمعات، على نحو يسهّل استخدامها في الحالات التي تجف فيها الصنابير، فإن مدينة كيب تاون وضعت في عام 2020 استراتيجية أخرى بالتعاون مع الخبراء والعلماء، بهدف تقوية إمدادات المياه لمواجهة حالات الجفاف في المستقبل. وتشمل الاستراتيجية أيضاً تنويع مصادر المياه لتشمل المياه الجوفية من الآبار، ومياه العواصف المعاد تدويرها، ومياه الصرف الصحي المعالجة، والمياه الرمادية المنزلية التي يمكن إعادة استخدامها للبستنة والأغراض الأخرى، بالإضافة إلى خطة لزيادة تحلية المياه ومتابعة القيود المفروضة على الإفراط في استخدام المياه، وتقليل التسرب وتكثيف الاستثمار في البنية التحتية.