عندما تحوّل "غلاف غزة" إلى "قلعة" محصّنة (6 / 7): حربٌ على الزراعة والصيد وما وراءهما
ينفذ الاحتلال عمليات توغل خارج حدود قطاع غزة لتجريف المزروعات، ويستخدم الطائرات الصغيرة لرش المزروعات القريبة من الحدود بالمبيدات لقتلها ومنع نموها.
في هذه الحلقة، نبحث في قضيتين: الأولى القطاع الزراعي في غزة الذي تمثل الحدود 25% من مساحته الإجمالية في القطاع، فضلاً عن أنه من أهم مقومات الصمود للفلسطينيين، والثاني الحرب الصامتة في البحر ومحاربة الصيادين.
القطاع الزراعي يعطي شبه اكتفاء ذاتي للغزيين في الخضراوات (من دون الفواكه) على مدار العام، فيما تُصدر إلى الضفة المحتلة كميات كبيرة منها سنوياً، ما يجعل هذا القطاع مصدراً لدخول العملة الصعبة. لذلك، كان ولا يزال من القطاعات التي يستهدفها الاحتلال الذي يخرب على نحو مدروس الزراعة في المنطقة الحدودية ضمن دوافع اقتصادية وأخرى أمنية.
في الميدان، ينفذ الاحتلال عمليات توغل خارج الحدود لتجريف المزروعات، ويستخدم الطائرات الصغيرة لرش المزروعات القريبة من الحدود بالمبيدات لقتلها ومنع نموها، فضلاً عن إجراءات عقابية أخرى تستهدف الصيادين بصورة مباشرة وغير مباشرة.
الحرب على الزراعة
أثّر عدد من الصور التي ظهرت في وسائل الإعلام حول تجريف الاحتلال المناطق الحدودية داخل غزة سلباً في صورة المقاومة التي لا تطلق النار في مثل هذه الحالات على الاحتلال لكونها تتبع بروتوكولاً محدداً في هذا الشأن، فيما يستغل خصوم المقاومة في الداخل والخارج مثل هذه الصورة لترويج أن هناك تنسيقاً بينها وبين الاحتلال في المنطقة الحدودية.
جراء الحروب والحصار والتوغلات، بلغت خسائر الزراعة منذ 2006 ما يزيد على 1.3 مليار دولار، ولم يجرِ تقديم مساعدات إلّا بما بنسبته 30% من إجمالي الضرر. ويلاحظ أن العدو عمل طوال السنوات الماضية على استهداف الزراعة في غزة من ناحية، وتعزيز بعض الزراعات داخل القطاع من ناحية ثانية، وخصوصاً التي يستفيد منها ويريدها، ما أدى إلى أن يكون المزارع الفلسطيني حلقة في منظومة الاقتصاد الإسرائيلي، بل جعل القطاع منطقة إنتاج لكل ما يكلف الاحتلال موارد مائية (التوت، الفراولة، الورد... مثلاً)!
لا يأتي ذكر هذه الأرقام من باب الإثراء فحسب، بل هي أيضاً إشارة أساسية إلى أن قرارات الاحتلال مبنية على دراسات دقيقة لما سردناه، بل مع إسهاب في معلومات تفصيلية أخرى في القطاعات كافة.
أكثر من ذلك، أجرى "المعهد القومي للبحوث الإستراتيجية" لدى الاحتلال في 5/2022 دراسة حملت عنوان "قطاع غزة وأزمة المناخ"، رسم فيها بالشراكة مع مؤسسات دولية (وأخرى فلسطينية!) مستقبل الاحتلال للقطاع حتى سنة 2100، والتخوف من تأثير المناخ وأزماته في بقائه واستمراره!
هذه الدراسة مثلاً توقعت ازدياد موجات الحرارة في القطاع، وأن تكون أطول وأكثر كثافة وتواتراً، إضافة إلى انخفاض كبير في كمية الأمطار المتوسطة التي ستؤثر في إمكانية إعادة ترميم الخزان الجوفي في الشاطئ بواسطة ملء متكرر من مياه الأمطار، ما سيصعب الموقف على الزراعة في قطاع غزة.
وفي الوقت نفسه، سيكون ظهور الأمطار أكثر كثافة مع عواصف شديدة ستتسبب بالفيضانات والانجرافات، وهي ظاهرة صارت معروفة الآن في القطاع. في المحصلة، تخلص الدراسة إلى مجموعة أفكار وحلول، منها الاستعانة بالطاقة الشمسية عبر الأردن لتحلية مياه البحر ليستفيد منها الأخير في عطشه!
حوادث المناطق الحدودية
عودة إلى موضوع السلسلة، وضعت اتفاقية أوسلو نصاً يفيد بأن "من حق" الاحتلال إقامة "منطقة عازلة" أو "مقيدة الوصول" على الحدود (50 متراً من السياج الفاصل). في أعقاب اندلاع انتفاضة الأقصى الثانية في 9/2000، وسع الاحتلال عرض المنطقة الفاصلة لتصبح 150 متراً، غير أن الواقع يؤكد أن عرض المناطق الفاصلة يتراوح بين 400 إلى 800، كما أن المزارعين القاطنين في المنطقة يتعرضون لمضايقات الاحتلال بشكل أو بآخر على مسافة 1.5 كلم وحتى كيلومترين.
بعد "سيف القدس"، بات متعارفاً أن من غير المسموح دخول قوات الاحتلال أكثر من مئة متر خارج الحدود. وفي هذه الحدود، لا تستهدف المقاومة القوات التي لا تطول مهماتها، لكن الشريط الحدودي وحده يمثل 25% من الإنتاج الزراعي المحلي، فالمنطقة الحدودية تحتوي على أخصب أنواع التربة في القطاع وأعذب المياه فيه وأغناها بالمحاصيل الزراعية المتنوعة، وهو ما يجعلها هدفاً مستمراً للنيران والجرافات، وتكرار هذه التوغلات يزيد إحراج المقاومة، فضلاً عن أنه خرق لحالة الهدوء.
لذلك، وخلال تفاهمات التهدئة بين المقاومة والعدو عبر الوسطاء، أعلن الأخير جملة من التسهيلات الاقتصادية، من بينها تحسين وضع الزراعة والسماح بتصدير المنتجات الزراعية إلى الضفة و"دولة" الاحتلال. ومنذ مطلع 2022، حدث ارتفاع كبير في تسويق المحاصيل الزراعية من غزة إلى الاحتلال والضفة، ويدور الحديث عن تصدير عشرات آلاف الأطنان، وكذلك الحال مع تصدير الأسماك.
في المقابل، يربط الاحتلال التسهيلات الاقتصادية للقطاع الزراعي وتوسعتها بالحفاظ على الاستقرار والهدوء الأمني في المنطقة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين عقدت وحدة "المنسق" في "الجيش" الإسرائيلي دورة تدريبية للمزارعين الفلسطينيين نهاية 2021 بهدف تدريبهم على الزراعة الحديثة، وزيادة الإنتاج الزراعي، إضافة إلى إطلاعهم على الشروط الإسرائيلية لعمليات التصدير، وذلك بعدما أتلف مزارعون فلسطينيون في غزة محاصيلهم رفضاً للشروط التي وضعتها "إسرائيل" لتصديرها، ومنها مثلاً أنه للسماح بتسويق الطماطم في الضفة لا بد من رفع الغطاء الورقي الأخضر (العنق-القمعة) الذي يعلو كل حبّة.
إلى جانب ما سبق، لا يزال الاحتلال يحتكر صناعة الكيماويات الزراعية، ويمنع إلى حد كبير أي تطوير في صناعتها بالحجة الدائمة: "منع إنتاج مواد ثنائية الغرض"، والشعار الدائم: "ممنوع لأسباب أمنية"، الأمر الذي جعل هامش الربح في الإنتاج الزراعي عند الحد الأدنى دائماً، فالمزارعون في غزة يستوردون كل شيء من البذور حتى مواد التعبئة والتغليف.
الحرب على الصيد
يطلّ قطاع غزة على البحر الأبيض المتوسط بساحل يمتد قرابة 40 كيلومتراً، يحده من الجهة الشمالية بيت لاهيا، التي يفصل بينها وبين موقع "زيكيم" العسكري الإسرائيلي جدار فولاذي تحت الماء وفوقها، وهو ملاصق لميناء مدينة أسدود المحتلة، فيما تحده من الجنوب مدينة رفح فحدود بحرية مع مصر مراقبة بوسائل تقليدية وأخرى متطورة، إضافة إلى دوريات بحرية على مدار اليوم.
بالتوازي، يُعدُّ الصيد من القطاعات الاقتصادية البالغة الأهمية في غزة، إذ يشارك في دعم الناتج القومي بتشغيل أعداد كبيرة من الصيادين قُدّروا، بحسب وزارة الزراعة، بنحو 4054 صياداً عام 2019، إضافة إلى مئات العاملين في المهن المرتبطة بالصيد، مثل: تجار السمك، والميكانيكيين، والكهربائيين، وبنائي المراكب، وتجار أدوات الصيد... وله أهميته في دعم الأمن الغذائي عبر توفير البروتين الحيواني من الأسماك.
بنظرة عامة إلى تاريخ صيد الأسماك في قطاع غزة، نجد أن المرحلة من 1967 إلى 1978 كانت العصر الذهبي لهذه المهنة، لكن الحال لم تستمر على هذا المنوال، فقد بدأت سلطات الاحتلال تضع العوائق والعراقيل أمام أصحاب هذه المهنة، فحددت المسافة المسموح بها بـ82 كلم، وبذلك تم تحجيم هذه المهنة وإضعاف تطورها وإنقاص كميات الأسماك.
بعد اتفاقية أوسلو بين "إسرائيل" و"منظمة التحرير" عام 1993، تم خفض هذه المسافة إلى 20 ميلاً بحرياً (قرابة 37 كلم) بعيداً من الشاطئ، فيما لم تلتزمها سلطات الاحتلال، فتراجعت إلى 12 ميلاً بحرياً، ما تسبب بتناقص كمية الصيد.
بعد حرب 2008-2009، ضيّقت "إسرائيل" المسافة المسموح بها إلى ثلاثة أميال بحرية فقط، وهو ما أثر سلباً في قطاع الصيد، وأكثر فئة عانت هي "لنشات وحسكات الشانشولا" التي توقفت عن العمل في صيد السردين، وكانت تنتج من 40% إلى 70% من الإنتاج السمكي الكلي. أدى ذلك إلى تدهور الوضع الاقتصادي لغالبية الصيادين، فأصبح معدل الدخل الشهري للصياد دون 100 دولار أميركي شهرياً بعدما كان يتجاوز 400 دولار.
تشير التقديرات إلى أن ما يزيد على 90% من عائلات الصيادين يعيشون تحت خط الفقر، وأنهم الأكثر عرضة للانتهاكات من الاحتلال على مدار 14 عاماً مضت من الحصار والإغلاق المستمر للبحر والملاحقات اليومية التي غالباً ما تكون نهايتها الخسارة الجسدية أو المادية أو كلتيهما، إضافة إلى الآثار النفسية السلبية الناجمة عما يتعرضون له من إهانة.
منذ فرض الحصار سنة 2006 حتى نهاية 2021، تظهر الأرقام سقوط 13 شهيداً من الصيادين في نتيجة مباشرة لاعتداءات الاحتلال، فيما أصيب 183 واعتقل 650، فضلاً عن تدمير أكثر من 200 قارب ومصادرة 167. وقد كانت خسائر الصيادين فادحة خلال الحروب الثلاث، وآخرها عام 2021 حين قُصفت غرف الصيادين بما فيها من أملاك وأدوات وكذلك عدد كبير من القوارب.
بالتوازي، شهدت الأعوام الخمسة عشرة الماضية سلسلة متقطعة من الإغلاقات، أطولها كان منذ 2008 حتى 11/12/2012، فيما ارتفع تلاعب الاحتلال بمساحة الصيد بين 2018 و2019 خلال "مسيرات العودة" على طول الحدود الشرقية للقطاع. ومنذ 29/7/2021، قرر الاحتلال توسيع مساحة الصيد في قطاع غزة من 9 أميال بحرية إلى 12، وهو القرار المعمول به حتى الآن.
الحدود البحرية: حلم السيادة
حتى بدء الانتفاضة الثانية عام 2000، لم يشكل البحر بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية إلا منفذاً للسيادة، فسعى الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى إتمام بناء الميناء فيه أملاً في تشغيله بقدرته الكاملة "تجارياً وسياحياً" وفق ما نصت عليه اتفاقية أوسلو، غير أن المماطلة الإسرائيلية، التي قادت إلى تأجيل إعطاء هذا الامتياز للسلطة إلى حين التوقيع على اتفاقية الحل الدائم، حالت دون اكتمال الدور الوظيفي لحدود القطاع البحرية، وأيضاً لميناء غزة الذي ظل وجهة سياحية داخلية ومرفأً للصيادين المحليين.
ولكن انتفاضة الأقصى الثانية ساهمت في تغير النظرة الإسرائيلية إلى حدود البحرية، وأيضاً إلى جهاز الشرطة البحرية التابع للسلطة في عهد عرفات، إذ سارعت الطائرات الإسرائيلية في مطلع الانتفاضة إلى تدمير البنى التحتية كافة لجهاز الشرطة البحرية، فكانت "البحرية" أول المواقع الأمنية التي يجري قصفها مطلع الانتفاضة، والسبب أن الاحتلال أدرك بعد كشفه خلية سفينة السلاح "كارين A" أن جهاز البحرية الذي كلفه عرفات جلب الأسلحة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومنها إلى مصر فغزة، هو من الأجهزة التي لا سيطرة إسرائيلية عليها.
على صعيد المقاومة، شكّل البحر مطلع الانتفاضة الثانية ميداناً لعمليات محدودة للمقاومة أبرزها:
عقب تلك العمليتين، لم تنفذ المقاومة خلال الانتفاضة الثانية (2000–2005) أي عمليات بحرية أخرى بسبب تشديد الاحتلال الرقابة على البحر وإطلاقه النار خلال أي مواجهة أو حرب على كل ما يتحرك على الشاطئ، فضلاً عن تكثيف الاعتداءات على الصيادين، كما ظهر لنا من الرصد السابق، لكن المواجهات الأخيرة منذ 2021 شهدت محاولات متكررة من المقاومة لاستهداف منصات الغاز الإسرائيلية بالصواريخ أو طائرات الاستطلاع، مع حذر إسرائيلي شديد من غواصات صغيرة يمكن أن تدخل على الخط. لذلك، تبقى العملية البرمائية الأبرز هي الهجوم على قاعدة "زيكيم" في بداية حرب 2014.
حرب صامتة في البحر
إذاً، يمكن القول إنّ الحدود البحرية للقطاع تشكل، من وجهة نظر إسرائيلية، نقطة تماس حساسة، وأيضاً ثغرة يجري توظيفها والاستفادة منها في اختراق بيئة المقاومة. على صعيد التحديات العسكرية، لا يزال احتمال تنفيذ عمليات بحرية قائماً باجتياز الحدود العسكرية عبر الغوص في أعماق البحر، وصولاً إلى الموقع المستهدف. ويخشى الاحتلال زرع المقاومة عبوات بحرية تشبه نوع "صدف" الإيرانية، وخصوصاً أنه يعتقد أن المقاومة تمتلكها لاستهداف زوارقه البحرية في أي مواجهة.
من الناحية الأمنية، يعتقد الاحتلال أن المقاومة تستخدم مراكب الصيادين في الوصول إلى أقرب نقطة من الحدود البحرية لجمع معلومات موثقة عن طريقة عمل القطع البحرية الإسرائيلية ومعدل سرعتها وقدرتها على المناورة ونوع الأسلحة المثبتة عليها، ليسهل عليها في وقت لاحق استهدافها أو تحييدها.
وتعتقد "إسرائيل" أن المقاومة تخطط لاستهداف المصالح الإسرائيلية القريبة (الغاز والنفط والكهرباء) التي يقع بعضها في البحر، وأيضاً أبراج الطاقة الثلاثة في مدينة أسدود المحتلة المحاذية للقطاع. وليس أخيراً، تعتقد "إسرائيل" أن المقاومة تستخدم الحدود البحرية من الجهة المصرية لتهريب السلاح والمواد ذات العلاقة.
في المقابل، تستغل "إسرائيل" البحر أمنياً، لا عسكرياً فحسب، فقد سبق أن جنّدت عدداً لا بأس به من العملاء عبر غطاء الصيد لرصد نشاطات المقاومة البحرية، وتقديم معلومات عن مراكب المقاومة وتدريبات "الضفادع البشرية"، بل يمكن أن يكون الماء نقطة للقاء بين العملاء ومشغليهم.
مشكلة البحر أنه حدود رخوة بسبب صعوبة مراقبتها بشرياً ولوجستياً من وحدات المرابطة. ولهذا، تحافظ المقاومة على تطوير قدرات مقاتليها بحرياً، لأنها ترى أن من الممكن أن تستغل "إسرائيل" اتساع مساحة الحدود البحرية وضعف الرقابة عليها لتنفيذ عمليات في عمق القطاع، خصوصاً أن مدينة غزة تمثل عاصمة القطاع وخاصرته الرخوة التي لا يتجاوز عمقها 6 كلم، وإمكانية إسقاطها عبر احتلال قلب المدينة انطلاقاً من البحر واردة.
مع ذلك، يبقى الشاغل الأساسي للإسرائيليين هو إدخال السلاح عبر البحر، خصوصاً بعدما دمرت مصر غالبية الأنفاق الحدودية مع القطاع، فأضحت الحدود البحرية أفضل السبل لتوفير السلاح بأساليب كثيرة ومستحدثة، حتى بات الإسرائيليون يوظفون دلافين من أجل محاولة قتل غواصي المقاومة!
بين الحدّين، تستخدم "إسرائيل" مساحة الصيد والتلاعب بها لممارسة الضغط الاقتصادي على المقاومة وبيئتها، وخصوصاً أن آلاف الأسر تعتاش من العمل في هذا القطاع، فيما تبقي على ورقة الحدود البحرية وبناء ميناء سياحي للقطاع كمنجز لمباحثات الحل الدائم لا الحروب القصيرة والاتفاقات الموضعية.