تطور لافت... "تل أبيب" واحتمالات التعرض لعقوبات عسكرية
احتمالات جدية لفرض حظر مؤقت على التسلح من جانب الدول الأربع (فرنسا - ألمانيا - بريطانيا - الولايات المتحدة)، قد باتت مطروحة، خاصة في ظل حاجة "إسرائيل" إلى تعويض مخزوناتها من الذخائر المتنوعة.
تتالت، خلال الآونة الأخيرة، المؤشرات حول إمكانية خضوع "إسرائيل" في المدى المنظور، لسلسلة من العقوبات العسكرية متنوعة الدرجات، على خلفية عدوانها المستمر على قطاع غزة.
هذه المؤشرات باتت من الجدية والوضوح بمكان، لدرجة دفعت الصحافة ومراكز الأبحاث في "إسرائيل" – وعلى رأسها معهد دراسات الأمن القومي – إلى تناول هذا الملف بشكل تحليلي جدي، خاصة ما يرتبط بتأثيرات أي حظر محتمل لتوريد الأسلحة، على القدرات الدفاعية والعملياتية لـ"الجيش" الإسرائيلي.
واقع الحال أن بوادر مخاوف إسرائيلية من إمكانية تشكل "تيار دولي"، يدفع نحو خضوع "تل أبيب" في المدى المنظور، لحظر رسمي أو غير رسمي لتصدير الأسلحة إليها، قد ظهرت بشكل واضح خلال الفترات الأخيرة، وذلك نتيجة تأثيرات عدد من العوامل الهامة، على رأسها قرار محكمة العدل الدولية، بإلزام "إسرائيل" اتخاذ إجراءات مؤقتة لمنع أعمال الإبادة الجماعية، والسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وهو القرار الذي كان بمنزلة الخطوة الأولى التي بدأ من خلالها طرح فرضية "تطبيق حظر توريد الأسلحة إلى إسرائيل".
عوامل ضاغطة في اتجاه حظر تسليح "تل أبيب"
تلا هذا القرار قرار آخر اعتمده مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في الخامس والعشرين من آذار/مارس الماضي، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة.
حينها، حثّ محقق الأمم المتحدة الدول الأعضاء على استخدام العقوبات وحظر الأسلحة، لإجبار القيادة الإسرائيلية على تغيير مسارها في ما يتعلق بقطاع غزة.
هذا التوجه دعمته المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي قدمت تقريراً إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الشهر الماضي، قالت فيه إن "إسرائيل" ارتكبت أعمال إبادة جماعية في غزة، ويجب أن تخضع لحظر دولي على الأسلحة.
وقد قالت المقررة في تقريرها - الذي يحمل عنوان "تشريح الإبادة الجماعية" - إن هناك مؤشرات واضحة على أن "إسرائيل" انتهكت ثلاثة من الأفعال الخمسة المدرجة في اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية لعام 1948، وتشمل قتل الفلسطينيين؛ التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير؛ و"فرض ظروف معيشية متعمّدة تهدف إلى إحداث الدمار الجسدي" للسكان كلياً أو جزئياً، مؤكدة أن توفير الأسلحة لـ"إسرائيل"، على الرغم من الأدلة المتزايدة على الانتهاكات الجسيمة الموثقة على الأرض، يمكن أن يجعل الدول الموردة للأسلحة إلى "تل أبيب"، متواطئة في جرائم الحرب.
وقد أدت تبعات عملية استهداف رتل السيارات التابع لمنظمة "المطبخ المركزي العالمي"، مطلع الشهر الجاري، أثناء تحركها على طريق الرشيد الساحلي، قرب مدينة دير البلح، واعتراف "الجيش" الإسرائيلي بتنفيذه هذه العملية، إلى إثارة موجة ردود فعل دولية لافتة، إذ تزايدت حدة الانتقادات الموجهة إلى التصرفات الإسرائيلية حيال المؤسسات الإغاثية، وهي موجة هامة، رغم أنها في حد ذاتها تؤكد ازدواجية المعايير الدولية، التي لم يحركها بالدرجة نفسها، ذهاب أكثر من 30 ألف فلسطيني حتى الآن، ضحية العمليات البرية والجوية والمدفعية الإسرائيلية.
حكومات غربية تتحرك نحو حظر تسليح "تل أبيب"
العوامل السابقة كافة، دفعت عدداً من الدول إلى اتخاذ إجراءات جزئية أو كلية، حيال عمليات توريد الأسلحة إلى "إسرائيل"، وكانت البداية من إيطاليا، ففي كانون الثاني/يناير الماضي، أعلن وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاجاني، أن بلاده أوقفت جميع الصادرات العسكرية إلى "إسرائيل"، منذ بدء العمليات العسكرية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. تعدّ إيطاليا ثالث أكبر مورد للأسلحة إلى "إسرائيل"، لكنها تمثل 0.9 في المئة فقط من الواردات الإسرائيلية بين عامي 2019 و2023. وقد بلغت مبيعات الأسلحة الإيطالية إلى "إسرائيل" عام 2022، 14.8 مليون دولار.
جدير بالذكر أنه رغم هذا التصريح، تمت الموافقة على صادرات عسكرية إلى "إسرائيل" بقيمة 2.1 مليون يورو في الفترة ما بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر 2023، لكن قالت الحكومة الإيطالية أن هذه العقود كافة تم فحصها كلاً على حدة، وتم منع تنفيذ ما يرتبط منها بمواد يمكن استخدامها ضد المدنيين، بموجب قانون يحظر مبيعات الأسلحة إلى البلدان التي تشن حروباً أو التي تنتهك حقوق الإنسان.
في بلجيكا، أعلنت حكومتان من أصل ست حكومات إقليمية في بلجيكا مطلع شباط/فبراير الماضي، إيقاف عمليات تصدير الأسلحة إلى "إسرائيل"، إذ علقت حكومة إقليم "والونيا" في جنوب البلاد، تراخيص تصدير البارود إلى "إسرائيل"، من مصنع "PB CLERMONT"، بعد أن قدمت أربع منظمات محلية غير حكومية، بالإضافة إلى منظمة العفو الدولية، رسالة مفتوحة إلى رئيس وزراء حكومة الإقليم، تطالبه فيها بوقف تصدير الأسلحة إلى الكيان، وهو ما تمت الاستجابة له بالفعل.
كذلك أعلنت الحكومة البلجيكية توسيع الحظر الذي كان مفروضاً منذ عام 2006 على تصدير وعبور البضائع العسكرية إلى "إسرائيل"، ليشمل البضائع ذات الاستخدام المزدوج، أي التي قد تستخدم لأغراض مدنية وعسكرية.
في الشهر نفسه، أعلنت شركة "إيتوتشو" اليابانية، أنها ستنهي تعاونها الاستراتيجي في مجال تقاسم التكنولوجيا وقدرات التصنيع، مع شركة "البيت سيستمز" الإسرائيلية للصناعات العسكرية، والذي تم الاتفاق عليه في آذار/مارس 2023، استجابة لحكم محكمة العدل الدولية بسبب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
أما في إسبانيا، فقد أعلن وزير خارجيتها، خوسيه مانويل ألباريس، في الشهر نفسه أيضاً، أن بلاده أوقفت منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، جميع تراخيص تصدير السلاح إلى "إسرائيل"، وأنها فرضت حالياً حظراً على مبيعات الأسلحة إلى "تل أبيب"، وقد تمثلت بداية تطبيق هذا الحظر بشكل فعلي، في إيقاف عملية تصدير شحنة من الذخائر إلى "إسرائيل" في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بلغت قيمتها 1.1 مليون دولار.
في الشهر نفسه، أمرت محكمة الاستئناف الهولندية، الحكومة الهولندية بمنع جميع صادرات قطع غيار الطائرات المقاتلة من نوع "أف-35" إلى "إسرائيل" في غضون 7 أيام، حيث تستضيف هولندا واحداً من عدة مستودعات إقليمية لقطع غيار هذا النوع من الطائرات، والتي تستخدم في توزيع قطع الغيار على الدول التي تطلبها ومن بينها "إسرائيل"، وقد أُرسلت شحنة واحدة على الأقل من قطع الغيار إلى "إسرائيل" منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
قامت كندا بخطوة مماثلة في آذار/مارس الماضي، حيث أعلنت وزيرة الخارجية الكندية، ميلاني جولي، أن بلادها ستعلق تصدير الأسلحة إلى الكيان الإسرائيلي، واصفة القرار بالمهم وأنه "ليس تغييراً رمزياً".
وقد جاءت هذه الخطوة عقب موافقة البرلمان الكندي على مقترح قرار غير ملزم قدمه الحزب الديمقراطي الجديد، يحث الحكومة الكندية على المطالبة بوقف فوري للنار في قطاع غزة، ووقف منح المزيد من تصاريح تصدير الأسلحة على "إسرائيل".
تزود كندا "إسرائيل" بمساعدات عسكرية سنوياً، وبلغت قيمة مبيعاتها من الأسلحة 15.7 مليون دولار عام 2022، لكنها خفضت بالفعل شحناتها من الأسلحة إلى "إسرائيل" منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لتقتصر على عتاد غير فتاك مثل أجهزة الاتصالات، وحالياً قامت بتعليق الموافقة على تصاريح تصدير جديدة للأسلحة إلى الكيان، إلى أن تتمكن من التأكد من أنها لا تنتهك القانون الكندي، علماً أن تصاريح التصدير التي كانت قد صدرت بالفعل قبل إعلان تعليق صادرات الأسلحة إلى "إسرائيل"، ظلت سارية المفعول.
حملات الضغط لفرض حظر التسلح على "إسرائيل" تتصاعد
يضاف إلى ما سبق، تزايد الحملات الداخلية في دول أوروبية عدة، والتي تدعو إلى حظر تصدير الأسلحة إلى "إسرائيل"، من بينها حملة دولية تم إعلانها مطلع العام الجاري، تتضمن أكثر من 160 منظمة دولية، تدعو إلى حظر تصدير الأسلحة إلى "إسرائيل"، وفي الدنمارك، رفعت جماعات حقوق الإنسان في آذار/مارس الماضي، دعوى قضائية ضد الحكومة لمنع تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى إلى "إسرائيل"، ومؤخراً أرسل 115 برلمانياً فرنسياً، رسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يطالبون فيها بتطبيق فرنسا حظر تصدير الأسلحة إلى "تل أبيب"، وكذلك أرسل أكثر من 600 خبير قانوني الشهر الجاري، رسالة إلى الحكومة البريطانية، أشاروا فيها إلى أن لندن بحاجة إلى وقف صادرات الأسلحة إلى "إسرائيل" لتجنب "التواطؤ في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي".
وجدت "تل أبيب" أن هذا المستوى من الضغوط بدأ يتوجه بشكل أكبر نحو الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا، وهم أكبر موردي الأسلحة إلى "الجيش" الإسرائيلي، إذ تعددت مطالبات منظمات المجتمع المدني الأوروبية، كي تقوم هذه الدول بوقف عمليات توريد الأسلحة إلى "إسرائيل"، اعتماداً على بنود عدة في القانون الدولي، أهمها بنود اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وكذا معاهدة الأمم المتحدة لتجارة الأسلحة.
وعلى الرغم من مقاومة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا حتى الآن للدعوات القانونية والشعبية لمراجعة مبيعاتها من الأسلحة لـ"إسرائيل"، فإن إشارات مهمة بدأت تظهر حالياً هذا الأمر ربما تشي بإمكانية تطبيق هذه الدول أشكالاً مختلفة من حظر الأسلحة على "إسرائيل"، فالحكومة البريطانية ألمحت الشهر الماضي إلى أنها قد تفكر في تعليق تراخيص تصدير الأسلحة إلى الكيان الإسرائيلي إذا نفذ هجوماً على مدينة رفح، ويحتمل أن تلجأ ألمانيا - العضو في معاهدة الأمم المتحدة لتجارة الأسلحة - إلى حظر بيع أسلحة معينة للكيان، إذا كان هناك خطر من إمكانية استخدامها لانتهاك القانون الإنساني الدولي، خاصة في ظل تصاعد أنشطة المحامين الألمان المرتبطين بقضايا حقوق الإنسان، لمطالبة الحكومة بوقف تراخيص الأسلحة لـ "إسرائيل"، وفقاً لقانون مراقبة أسلحة الحرب في البلاد.
في ما يتعلق بموقف الولايات المتحدة الأميركية، يمكن القول إن التزام واشنطن بدعم الكيان عسكرياً بدأ يتأثر بنتائج الوضع الحالي في جنوب قطاع غزة، خاصة بعد عملية استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، والتي تم استخدام مقاتلات "أف-35" الأميركية الصنع فيها، وكذلك بعد استهداف سيارات مؤسسة "المطبخ المركزي العالمي".
وقد رأت بعض الأوساط الأميركية أن المحادثة الهاتفية التي جمعت بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بعد هذا الاستهداف، وأدت إلى إعلان "إسرائيل" عن فتح معبر "إيريز"، هي في حد ذاتها بمنزلة دليل على جدية إدارة بايدن في تقليص دعمها لـ"إسرائيل" خلال الفترة المقبلة إذا لم تتجاوب مع التوجهات الأميركية. هذا الموقف ربما يكون قد تعرض لبعض "التبريد" عقب الضربة الصاروخية الإيرانية لـ"تل أبيب"، بيد أن الموقف الأميركي من عملية رفح العسكرية يبقى حتى الآن كما هو.
يلاحظ هنا تصاعد آراء في الداخل الإسرائيلي تحاول الإيحاء أن الصادرات العسكرية الغربية إلى "إسرائيل"، تصب في الأساس في مصلحة الدول المصدرة، سواء من الناحية السياسية "ضمان استمرار اعتماد إسرائيل على هذه الدول"، أو من الناحية العسكرية والمادية "دعم صناعات الأسلحة الغربية، والأميركية تحديداً".
لكن واقع الأمر أن هذه الآراء تتجاهل بشكل كبير حقيقة أن "إسرائيل" في حاجة ماسة إلى الذخائر المتنوعة - خاصة ذخائر المدفعية - في الوقت الحالي، وهي حاجة ستتزايد وطأتها في حالة دخول "تل أبيب" في حرب على الجبهة اللبنانية، وبما أنه لا تتوافر لـ"تل أبيب" القاعدة الصناعية الكافية لإنتاج هذه الذخائر، ستظل في حاجة إلى الدعم التسليحي الغربي على مستوى الذخائر، تحديداً في المدى المنظور.
جدير بالذكر أن "منظمة الحكماء"، وهي مجموعة من 12 من قادة حقوق الإنسان العالميين برئاسة المفوضة السامية السابقة لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة ماري روبنسون، قد أصدرت بياناً يطالب الولايات المتحدة بفرض حظر للتسليح على الكيان الإسرائيلي، وهو ما يتزامن مع تأكيد جون كيربي، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، أن وزارة الخارجية الأميركية تواصل مراجعة الإجراءات الإسرائيلية في غزة، اعتماداً على الآليات الموجودة لدى وزارتي الخارجية والدفاع، لتقييم ما إذا كانت الأسلحة الأميركية تُستخدم لانتهاك القانون، الذي وضعته إدارة بايدن العام الماضي، والذي فرض على الإدارة تقديم تقرير سنوي إلى الكونغرس، حول ما إذا كان متلقو الأسلحة الأميركية يستوفون المعايير.
من هنا، يمكن القول إن احتمالات جدية لفرض حظر مؤقت على التسلح من جانب الدول الأربع (فرنسا - ألمانيا - بريطانيا - الولايات المتحدة)، قد باتت مطروحة، خاصة في ظل حاجة "إسرائيل" إلى تعويض مخزوناتها من الذخائر المتنوعة، ناهيك بأن أي صفقات عسكرية جديدة لـ"إسرائيل" من جانب الولايات المتحدة في المدى المنظور، ستحتاج إلى موافقة غرفتي الكونغرس.