مقاطعة الشركات الداعمة للعدو الصهيوني وأثرها اقتصادياً وسياسياً
المقاطعة أداة عزل للكيان الصهيوني ولاقتصاده، وأداة ضغط على الحكومات التي تطبّع معه أو تدعمه، وبناءً عليه، فإنها، في لحظتنا الغزية بالذات، رافعة أخرى لإيقاف العدوان وفرض وقف لإطلاق النار.
اكتسبت حملات مقاطعة العلامات التجارية الداعمة للاقتصاد الصهيوني، بعد السابع من أكتوبر الفائت، زخماً شعبياً عربياً وإسلامياً متصلاً، واتخذ ذلك الزخم بعداً عالمياً مدوّياً في حالة بعض الشركات، من أبرزها "ستاربكس"، أو "ماكدونالدز" بدرجةٍ أقلّ قليلاً.
لعلّ ما ساهم في ديمومة حملات المقاطعة شعبياً واتساع نطاقها جغرافياً، مقارنةً بمثيلاتها عشية انتفاضة الأقصى عام 2000 مثلاً، والتي تأججت بضعة أسابيع فحسب، هو الآتي:
أ – كثافة عمليات القتل والتدمير والمجازر المرتكبة صهيونياً في اليوم الواحد، وتتابعها يوماً بعد يوم، الأمر الذي أوقظ ضمائرَ أكثر تكلّساً، واستفزّ عقولاً أقلّ تسييساً، واسترجع إلى الميدان أجيالاً كنّا ظننا أنها سافرت بعيداً في مركباتها الفضائية إلى كواكبها الخاصة.
ب – وسائط إنترنت يصعب منع الأفراد والمجموعات الصغيرة من التفاعل وتبادل الفيديوهات عبرها، ولو كانت مراقبة أو مقيّدة، وتطبيقات تواصل اجتماعي، على غرار "تيك توك" الصيني و"تلغرام" الروسي، ما برحت تقنياً خارج قبضة ديكتاتورية الإعلام والاتصالات المركزية المتصهينة.
جـ - منهجية حكومة نتنياهو في اتباع حلولٍ صفريةٍ كابرت عليها حتى بعدما أظهرت فشلها أمام صمود الغزيين شعباً ومقاومة. ولو انهارت غزة في المراحل الأولى للعدوان الصهيوني عليها، أو الثانية، أو العاشرة، لما ولّدت في الشرفاء إحساساً بضرورة الارتقاء إلى سوية مأثرتها، ولما أصبحت المقاطعة موقفاً سياسياً يعزّز موقفها.
الصمود هو العنصر الجوهريّ إذاً، وشتان ما بين المقاومين و"الضحايا"، فالأولون مشروع سياسي نضالي، مشروع تحرّر وطني، يستدعي وقفةً مشرّفة، والآخرون مشروع "شفقة" يستدعي الرثاء. وهي نقطة كثيراً ما تغيب عن المنشورات والفيديوهات وإطلالات المؤثّرين التي تعرض غزة كضحيةٍ مسكينة فحسب، من دون إبراز هوية الجناة بوضوح وربط معاناتها بالتالي بضرورة تفعيل أدوات مناهضة الصهيونية وداعميها. ويصبّ ذلك التوجّه، عن حسن أو سوء نية، في جيب الداعين إلى نزع سلاح المقاومة وتدجينها سياسياً، وإلا فإنها "مسؤولةٌ عن استمرار معاناة الغزيين"! فالحذر الحذر...
وإذا كان الأساس في دعم غزة هو تقديم المال والسلاح والمتطوّعين وفتح الجبهات المساندة ومناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني، وممارسة الضغط في الشارع لإغلاق سفاراته وقطع كلّ العلاقات معه واتخاذ موقفٍ حاسمٍ من داعميه، وأن يتمثّل ذلك رسمياً في سحب السفراء من الدول الغربية ووقف تصدير النفط والغاز العربيّين إليها، ناهيك عن قطع دابر الجسر البري إلى الكيان الصهيوني وفتح معبر رفح، فإن شرفاء العرب والمسلمين والعالميين اختاروا فتح جبهةٍ مساندةٍ أخرى، اقتصادية، شكّلت بذاتها إحدى الأمواج الكبرى التي أطلقها "طوفان الأقصى"، هي جبهة مقاطعة العلامات التجارية الداعمة للعدو الصهيوني.
ما الحكمة من استهداف العلامات التجارية الداعمة للاقتصاد الصهيوني؟
لا يستطيع أحد أن يجبرك على تعاطي علامة تجارية، أو على ارتياد أحد فروع سلسلة مطاعم أو مقاهٍ أو متاجر بيع بالمفرق، لها صلاتٌ بالاقتصاد الصهيوني. تلك وسيلة آمنة إذاً لإرسال رسالة سياسية من دون الدخول في صدام مباشر مع الأنظمة العربية، وهي أضعف الإيمان عندما تُسَدُ الدروبُ ولا يكون بوسعك أن تقوم بأكثر.
المقاطعة أداة عزل للكيان الصهيوني ولاقتصاده، وأداة ضغط على الحكومات التي تطبّع معه أو تدعمه، وبناءً عليه، فإنها، في لحظتنا الغزية بالذات، رافعة أخرى لإيقاف العدوان وفرض وقف لإطلاق النار.
لذلك، انتشرت المقاطعة عربياً، أكثر ما انتشرت، في حلكة الأنظمة التي قيّدت أو حظرت النشاط الداعم لغزة ومقاومتها، وصودف أنها الأنظمة ذاتها التي فتحت أسواقها، أكثر من غيرها، للعلامات التجارية الغربية الداعمة للاقتصاد الصهيوني، وإن بيع الاقتصاد من بيع البلاد.
والمقاطعة عمل مقاوم يمكن أن يمارسه الأطفال والشيوخ والنساء والرجال فردياً، ولا يحتاج إلى الانخراط في نشاطات حزبية أو سياسية معارِضة، وهي مكمّلة لوسائل المقاومة الأخرى (عندما لا تُطرح عن خبث بديلاً لها)، كما أنها تنطلق من تساؤل منطقي وأخلاقي بسيط: هل يصح أن تنفق مالاً تعرف أن بعضه سيذهب إلى من يقتلنا ويحتلّ أرضنا، أو إلى من يدعمه؟
وتأتي النخب الحاكمة في الولايات المتحدة الأميركية على رأس قائمة داعمي الكيان بصفتها رأس هرم الهيمنة العالمية بقواعدها وشركاتها وأدوات سيطرتها الناعمة و"نمط الحياة الأميركية" الذي تروّجه عبر تلك العلامات التجارية بالذات كأداة هيمنة ثقافية محمية قانونياً بموجب "حقوق الملكية الفكرية" التي تكرّست في اتفاقيات ولدت منظمة التجارة العالمية WTO عام 1995. وهناك في الغرب حملات لمقاطعة تلك العلامات التجارية لأسباب لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية من قبل 7 أكتوبر.
المهم أن المقاطعة عربياً وإسلامياً بالذات رسالة شعبية بشأن التطبيع مع العدو الصهيوني أولاً، وبشأن المركزية الغربية ثانياً، وبشأن النخب المحلية ثالثاً التي ارتبطت مصالحها بأجندات خارجية اقتصادياً وغير اقتصادياً. ولهذا الحديث تتمة...
تجربة مقاطعة "ستاربكس" وأثرها المدوّي
ثمة مواقع شتى في الإنترنت، وتطبيقات يمكن تحميلها على الهاتف المحمول، توثّق علاقة الشركات المستهدفة بالمقاطعة، من أميركية وغير أميركية، بالاقتصاد الصهيوني، وهذا وحده كافٍ لمقاطعتها شعبياً في ظلّ العدوان الصهيوني على غزة، وهو الأمر الذي دفع الشباب عالمياً لإدارة حملات مقاطعة مقاهي "ستاربكس" مثلاً، من الولايات المتحدة إلى أندونيسيا وماليزيا.
يذكر أن هوارد شولتز، أكبر مالك لأسهم شركة "ستاربكس"، ومديرها العام التنفيذي السابق، صهيوني متعصّب استثمر بكثافة في الاقتصاد "الإسرائيلي"، ومن ذلك مثلاً لا حصراً إسهامه في تأسيس شركة WIZ للأمن الإلكتروني في الكيان الصهيوني، والتي بلغت قيمتها 1.7 مليار دولار، بحسب مجلة "فورتشن" الاقتصادية في 4/7/2021.
كما يذكر أن شركة "ستاربكس" الدولية، أحد فروع الشركة الأم، عقدت شراكة مع مجموعة ديليك "الإسرائيلية" لتأسيس فرعها في الكيان الصهيوني تحت اسم "شركة شالوم للقهوة"، أي أنها شركة مطبّعة بامتياز.
لكن بعيداً عن فعّاليات هوارد شولتز وأمثاله، ليست "ستاربكس" تحديداً أخطر مساهم في قطاع الأغذية والمشروبات في الاقتصاد "الإسرائيلي"، بل هناك من هو أخطر منها بكثير، مثل "كارفور" و"نستلة" و"بيبسي" (التي استحوذت على شركة "سودا ستريم" في الكيان الصهيوني عام 2018 مقابل 3.2 مليارات دولار). سوى أن "ستاربكس" وضعت نفسها في عين العاصفة عندما أدانت تغريدة من 3 كلمات:
"التضامن مع فلسطين"، بعد أيام من "طوفان الأقصى"، في صفحة نقابة العاملين (تحت التأسيس) في موقع "أكس"، فأصدرت "ستاربكس" بياناً، أرادته "قوياً"، يردّ على كلمات النقابة الثلاث في عدة فقرات.
الحبكة أن الشركة كانت تخوض أصلاً صراعاً ضدّ تأسيس نقابة عاملين لديها، ولم تدرك أن الشباب الأميركي بدأ يتحوّل إلى جانب فلسطين، فوقعت في كارثة مزدوجة، نقابية محلية وسياسية دولية.
وبحسب تقرير لموقع "بلومبيرغ" في 1/2/2024، ارتفع عدد المنشورات المطالِبة بمقاطعة مقاهي "ستاربكس" من متوسط مقداره نحو 3200 في الشهر قبل بيان الشركة المشؤوم إلى نحو 466 ألف مطالبة شهرياً بمقاطعتها من بعده (انتبهوا إذاً أن هناك مراكز أبحاث متخصصة تصنّف المنشورات الإلكترونية إحصائياً).
تصاعدت المقاطعة ضد "ستاربكس" في الغرب، وفي الوطن العربي والعالم الإسلامي، لأنها وضعت نفسها في طريق "طوفان الأقصى" في لحظة سياسية لم تدرك أبعادها، تماماً كما فعلت "ماكدونالدز" عندما استعرض فرعها في "إسرائيل"، في صفحته في موقع "أكس" في 22/10/2023، الـ 100 ألف وجبة مجانية التي قدّمها لقوات الاحتلال عشية عدوانها على غزة. في الحالتين، كان لا بدّ من "دفع الثمن"، بتعبير غلاة مستوطني الضفة الغربية.
تشكّلت حملات منظّمة في 25 جامعة أميركية، من طلابها وأساتذتها وموظفيها، وبحسب تقرير في "ذا غارديان" البريطانية في 21/2/2024، تطالب إدارات تلك الجامعات بسحب تراخيص مقاهي "ستاربكس" في الحرم الجامعي.
ارتعب مالكو أسهم "ستاربكس" من تصاعد حملة المقاطعة وأثرها على عائدات الشركة وأرباحها وبدأوا بالتخلّص من أسهمهم، فانهار سعرها، وخسرت الشركة 11 مليار دولار من قيمتها السوقية، وعبثاً تحاول اليوم استرداد مواقعها، فقد وافقت على التفاوض مع نقابة العاملين لديها، وتبرّعت بـ 3 ملايين دولار لـ"مطبخ العالم المركزي" لتقديم وجبات في غزة، وتحسّنت قيمة أسهمها قليلاً، لكنها ما برحت تكابد الخسائر مالياً، وتغلق فروعاً بالجملة، ويرى القائمون عليها، بحسب تصريحات رسمية، أن أزمتهم لن تنتهي إلا بعد وقف إطلاق النار في غزة، وذلك هو بيت القصيد غزيّاً.
كذلك حدث مع "ماكدونالدز" التي خسرت 7 مليارات دولار من قيمتها السوقية بحسب ما أعلنه مديرها المالي في 14/3/2024.
في حالتي "ستاربكس" و"ماكدونالدز"، صرّح القائمون على الشركة رسمياً أن تباطؤ المبيعات وأثر ذلك على سعر سهميهما ارتبط بـ "الأحداث في الشرق الأوسط"، مع مقاطعة عالمية أشمل لـ "ستاربكس"، وعربية وإسلامية أوسع لـ "ماكدونالدز"، بحسب مجلة "تايم" في 14/2/2024.
والأسبوع الفائت، أعلنت مجموعة الشايع الكويتية، التي تدير 1900 فرعٍ لـ "ستاربكس" في البحرين وقطر والإمارات وعُمان والسعودية والكويت ولبنان والأردن ومصر والمغرب وتركيا، عن تسريح 2000 من موظفيها من جراء تباطؤ مبيعاتها وإغلاق بعض فروعها.
أصابت المقاطعة عربياً وإسلامياً أيضاً مبيعات شركات مثل "بيرغر كينغ"، "كنتاكي فرايد تشيكن"، "بيتزا هَت"، "كوكاكولا"، "بيبسي"، "زارا"، Puma، وغيرها ممن عبّرت صراحةً عن تأييدها لـ "إسرائيل"، أو أنها ترتبط بعلاقات وطيدة باقتصادها.
وقالت "مطاعم أميريكانا" في 7/5/2024، وهي صاحبة امتياز فروع "كنتاكي" و"بيتزا هَت" و"هارديز" و"تي جي أي فرايديز" و"كريسبي كريم" في الوطن العربي إن أرباحها في الربع الأول من سنة 2024 بلغت نصف مستواها في الربع الأول من سنة 2023.
يذكر أن "مطاعم أميريكانا" مملوكة مناصفة بين صندوق الاستثمارات العامة السعودي البالغة قيمته 700 مليار دولار، وشركة الاستثمارات الخاصة الإماراتية "أديبتيو".
وصلت الرسالة: أعلنت شركة Puma الألمانية للألبسة والأحذية الرياضية عدم تجديد رعايتها لـ "رابطة كرة القدم الإسرائيلية"، وطالبت شركة Ben & Jerry للمثلّجات رسمياً بـ "وقف فوري ودائم لإطلاق النار في غزة"، وهكذا دواليك...
ردّاً على مزاعم إضرار المقاطعة بالاقتصادات الوطنية
أدّت وسائل التواصل الاجتماعي دور نقل رسالة المقاطعة عبر الحدود بسرعة وفعّالية، كما أدت الحملات المنظّمة والمؤثّرون اجتماعياً الذين تبنّوها دوراً في ديمومتها، وأدى إجرام العدو الصهيوني المتواصل والدعم الأميركي والغربي له الدور الأكبر في تجاوب الناس مع رسالتهم.
من البديهي أن رأس المال المحلي الوكيل للشركات الأجنبية يتضرّر من حملات مقاطعتها. وثمّة مصطلح في علم الاقتصاد السياسي، هو "كمبرادور" comprador، لوصف الوكيل المحلي للشركات والجمعيات الأجنبية المنخرطة في التجارة أو الاستثمار، أو المكلّف بتأدية دور إداري عامّ لمصلحتها محلياً.
المصطلح برتغالي الأصل، ويعني "المشتري"، وقد نشأ لوصف شريحة من المقاولين جنوبي الصين تولّت بيع منتجات المستعمرين الأجانب محلياً وتأمينهم بالمواد الخام والعمال المحليين، أو إدارة مصالحهم وتسهيلها. وأصل المصطلح لاتيني Comparare، أي عملية جمع الأشياء معاً ومقارنتها بعضها ببعض. ومن ثمّ اتسع المصطلح ليشمل الشرائح الاجتماعية "الوطنية" التي تؤدي دور وكيل أجنبي اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وإعلامياً.
ترى تلك الشرائح في مشروع الاستقلال الوطني والتنمية المستقلّة ضرراً كبيراً لمصالحها، لذلك فإنها تعمل سراً وعلناً ضدّهما. أما نقيض تلك الشرائح فهو رأس مال وطني يمتلك مشروعاً للنهوض صناعياً وتكنولوجياً وسياسياً، أو دولةٌ وطنيةٌ تتبنّى مثل ذلك المشروع بالنيابة عن الطبقات الشعبية، أو تحالفٌ وصيغة شراكة ما بين الطرفين.
ما يقوم به الكمبرادور اقتصادياً هو تحويل صافي فائض القيمة الاجتماعي من الداخل إلى الخارج، مبقياً الاقتصاد المحلي تابعاً للخارج، فهو يمثّل قاعدة محلية لمنظومة الهيمنة الخارجية. وما يقوم به مشروع النهوض الوطني والقومي، سواءٌ قام عليه قطاع عام أو خاص أو مزيجٌ منهما، هو إعادة تدوير الأرباح تنموياً أو لمصلحة الاقتصاد الوطني.
بناءً عليه، إن أسخف ما يتفوّه به البعض، من منظور علم الاقتصاد الجزئي Microeconomics، هو الزعم أن المقاطعة تضرّ بالاقتصاد الوطني والمستثمر المحلي والعامل والموظف من أبناء البلد، إذ إن بديل المنتج الغربي الداعم للعدو الصهيوني هو منتجٌ آخر محلي أو عربي أو إسلامي أو جنوبي أو شرقي بديل. ومن يمتلك قوة شرائية يعيد توجيهها نحو النوع الثاني من المنتجات والعلامات التجارية لا يعاقب العدو الصهيوني وداعميه فحسب، بل يفتح آفاقاً تنموية واسعة للاقتصادات المحلية والصديقة، ويدعم رأس المال الوطني، ويتيح تشغيل نسبة أكبر من القوة العاملة المحلية والصديقة، ويدوّر نسبة أكبر من الأرباح في البلد، ويسهم برفع متوسط الدخل الفردي.
تقدّم المقاطعة إذاً فرصةً ثمينة لا تعوّض لتنشيط الاقتصادات المحلية وتحسين الميزة التنافسية لمنتجاتها. والمطلوب إذاً، كمتمم للمقاطعة، هو رؤية يتبنّاها رجال أعمال وقوى وطنية وقومية لإيجاد بدائل للمنتجات المقاطعة يجري تصنيعها محلياً أو بالتعاون مع دول صديقة كي تحلّ محلها، وهو ما يوفّر أيضاً فرصاً للمستثمرين الوطنيين الراغبين بالخروج من دور الوكيل إلى العمل مع منتجين وطنيين وأصدقاء.
فهل عجزنا عن إنتاج أغذية ومشروبات وألبسة وأحذية ومقاهٍ ومطاعم وجبة سريعة وموادّ تنظيف إلخ... تضاهي المنتجات الغربية وأكثر؟!
لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها، فهناك منتجات تصعب مقاطعتها من دون مشروع تنمية وطنية كبير يضع البنى التحتية لتأسيسها. لذلك رفعتُ شعاراً، منذ عام 2000، هو "قاطع ما استطعتَ إلى المقاطعة بديلاً"، فالمقاطعة ليست تعجيزاً وإلا انهار الالتزام بها. والمهم أن نبحث عن البديل، وأن ندفع باتجاه إيجاده، وعلى رأس القائمة هنا شبكات تواصل اجتماعي بديلة عن شبكة "فيسبوك" الصهيونية علناً، والتي نبقى فيها كمن يبقى خلف خطوط العدو تحت وطأة التقييد والحظر في أيّ لحظة إذا أفلتت كلمة واحدة "خاطئة" بحسب مقاييسه الديكتاتورية.
حملة كمبرادورية لمناهضة المقاطعة
من البديهي أن الكمبرادور العربي، بصفته الرسمية كأنظمة والتجارية كوكيل للعلامات المقاطعة، يسعى بقوة الآن إلى كسر حدّة المقاطعة لمصلحة أسياده الأجانب. ومؤخّراً جرى إطلاق حملة عبر وسائل التواصل لكسر المقاطعة، من خلال إبراز مؤثّرين ينتهكونها، وإطلاق دعاية لشركة "بيبسي" شارك فيها عدد من المشاهير العرب على رأسهم عمرو دياب ومحمد صلاح ونوال الزغبي وغيرهم.
أما على مستوى الخطاب، فإن الكمبرادور الإعلامي والثقافي يركّز على أمرين:
أ – الضرر المزعوم الذي تحدثه المقاطعة في الاقتصاد المحلي، وقد جرى الردّ على ذلك أعلاه.
ب – الزعم أنّ المقاطعة لا تؤثّر إلّا بصورةٍ عابرة وثانوية على الشركات المستهدفة بها، بهدف إحباط جهود المقاطعة التي ثبت علمياً أنها تنجح، أكثر ما تنجح، عندما يشعر المشاركون فيها بأثرها.
من الأمثلة على النقطة "باء" ورقة نشرت في مركز أبحاث مسمّى باسم أحد كبار ممثّلي الكمبرادور الإماراتيين، وهو مستثمر ومطبّع معروف جداً، جرى الزعم فيها أن أثر المقاطعة على أسعار أسهم شركات "ستاربكس" و"ماكدونالدز" و"بيبسي" و"كوكاكولا"، بناء على الرسوم البيانية التي عرضتها الورقة، كان مؤقتاً ومحدوداً جداً.
اللعبة، أو المشكلة المنهجية في تلك البيانات بالأحرى، أنها تغطي فترة زمنية تمتد منذ عام 2010 حتى عام 2024، وأنها تغطي القيمة السوقية للسهم على مستوى عالمي، في حين أن ما يُظهِر أثر المقاطعة هو مستوى المبيعات والأرباح منذ 7 أكتوبر في الوطن العربي والعالم الإسلامي تحديداً، وهو ما يعترف به مدراء تلك الشركات رسمياً في تصريحاتهم وما تدلل عليه أرقامهم المعلنة، كما جاء أعلاه.
على سبيل المثال، يدل تقرير "ماكدونالدز" عن الربع الأول لعام 2024 أن مبيعاتها انخفضت بشدّة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، ولا سيما ماليزيا وأندونيسيا، وفي الأماكن التي يكثر فيها العرب في فرنسا، في حين ازدادت مبيعاتها في اليابان وأميركا اللاتينية وأوروبا ما عدا فرنسا، فظهر الأمر بصورة ارتفاع طفيف، وأقلّ من المتوقّع، في مبيعاتها، وهذا يموّه أثر المقاطعة طبعاً. ولو كان لدينا تخطيط استراتيجيّ لحملات المقاطعة لجرى تركيز رسالتها في الاتجاهات التي ازدادت مبيعات "ماكدونالدز" فيها.
في جميع الأحوال، هي معركة كبرى لا يجوز أن يغيب عنها محور المقاومة والشخصيات والقوى الوطنية والقومية، والمعركة تخاص الآن على مستوى وسائل التواصل، فكلّ الدعم للشباب والشابات والمؤثّرين الذي يتبنّون رسالة المقاطعة، فلنوزّع روابط منشوراتهم ونتفاعل معها.