مصير سوريا وأسئلتها الكبرى
ما مصير سوريا؟ وما فرصها بعد الأسد، ومع الجولاني وفريقه؟ كيف تشكّل حدثُها الكبير؟ وما علاقة أزمات القوى الكبرى وصفقاتها وحساباتها؟ وكيف تنظر القوى الخارجية إلى سوريا الآن؟ وماذا بعدها؟ هل تكون إيران الخطوة التالية؟
قبل أيام من اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، كان رون ديرمر يتنقل بين موسكو و"تل أبيب" وواشنطن.
لم تكن فحوى المباحثات واضحة، لكن بدا ظاهراً أن البحث يتركز على لبنان. لكن الرجل هو وزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة نتنياهو، وطبيعة عمله لا تقتصر على محاولة توليد صفقة بخصوص جبهةٍ واحدة، بل إن ملفّه أكثر ثقلاً من ذلك، لكنه كان يحاول إدارة تفاهمات لاستثمار جرائم رئيسه في المنطقة، من أجل صياغتها سياسياً وعسكرياً وفق الشكل الذي يلائم "إسرائيل"، ومع اللاعبَين الكبيرين في أزمتي أوكرانيا والشرق الأوسط.
وُلد الاتفاق، لكن الأحداث اللاحقة أظهرت أن توائم (غير متشابهين) آخرين وُلدوا في عملية التلقيح الإسرائيلية لنيّات واشنطن وموسكو. فما الذي حدث؟
بعد خطوة بايدن السماح لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي بصواريخ بعيدة زوّدها الغرب بها، استنتج الرئيس المنتخب دونالد ترامب أن الهدف إغراقه ومنعه من تحقيق وعده الكبير بإنهاء الحرب الأوكرانية، والتفاهم مع بوتين.
لكن ليس هذا أخطر ما في الأمر، بل إن ما يؤرّق ترامب هو المعنى الكامن خلف الخطوة. فقرار مثل هذا لا يتخذه رئيس سيغادر بعد أسابيع قليلة. إذاً، الرسالة الضمنية أن بايدن، ومن خلفه الدولة العميقة التي يحاربها ترامب بكل ما أوتي من قوة، يتصرفان - يا للعجب - على أنهما مستمران في الحكم. وهذا لا يمكن أن يعني إلا أحد احتمالين، أحلاهما كارثيّ على ترامب، فما هما؟
الأول يعني أن مصالح الدولة العميقة - وهي تتجاوز أميركا لتمسك بنخبٍ أوروبية تشغل مواقع رؤساء دول وحكومات، أعلنوا القرار نفسه - هي في استمرار الحرب الأوكرانية، ومحاصرة حكم ترامب من خلال إيصال المواجهة مع روسيا إلى حدّ لا يمكن لرئيس أميركا التراجع عنه. كيف؟ من خلال استفزاز بوتين ليضرب، بقوة غير مسبوقة، ضربةً تجعل ترامب مضطراً إلى الانخراط في الحرب بالكامل، مرغماً، ومن دون أي تردد.
أما الثاني، فهو أن يكون الديموقراطيون يتصرفون على أساس أن ترامب سيختفي، الأمر الذي سيضرب مشروعه القائم على شخصه ومواصفاته الذاتية، والعودة إلى انتخاباتٍ تستعيد معها الدولة العميقة الحكم. فهل هذا وارد؟
تصوري أن الاحتمالين واردان بقوة، وأن ترامب يشعر بالأمر بشدة. وها هو يضغط على زيلينسكي بالشدة نفسها لإرغامه على توقيع اتفاقٍ يقبل فيه معظم شروط روسيا التي طلبتها في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير 2022، قبل الحرب مباشرةً، مضافةً إليها المناطق التي ضمتها خلال الحرب، وعدم المطالبة بدخول الناتو، وقبول عدم العداء لموسكو فيما يتبقى من أوكرانيا.
هل يتمرد زيلينسكي على ترامب؟
في باريس، التقى ترامب بزيلينسكي دقائق معدودة، وأسمعه ما يريده منه. الأخير عاد إلى كييف، وأصدر إشارة أولى إيجابية، لكنه سرعان ما أرسل إشارة تمردٍ معاكسة، ضد طلب ترامب. فماذا كانت؟ وما علاقة سوريا؟
قال زيلينسكي إنه سيتصل ببايدن في المستقبل القريب، من أجل إثارة مسألة العضوية في الناتو، لأنه الرئيس الحالي للولايات المتحدة. والكثير من الأمور يعتمد على موقفه، ثم أضاف أن من غير المنطقي أن يناقش مع ترامب ما لا يمتلك التأثير فيه قبل أن يصل إلى البيت الأبيض.
إنها ليست صفعةً لترامب فحسب، بل إنها أيضاً تحرك الاحتمال الأخطر، وهو أن هناك في أوكرانيا من يتصرف على أساس أن ترامب لن يحكُم! فهل بات الجميع يأخذون الخطر على حياته كمعطى جدي، ويتخذون الخيارات السياسية على أساس ذلك؟
هذا يتطلب رداً بالقوة نفسها. بالأمس، خرج ترامب بموقفٍ ناري، يقول فيه إن أخطر ما يحدث الآن هو قرار زيلينسكي "الغبي" شَنَّ ضربات صاروخية على روسيا.
إذاً، يواصل زيلينسكي محاولة الحصول على أسلحة وأموال لمواصلة الحرب، بينما تُظهر الأحداث أن صفقةً كبرى حدثت، تلاها توقف الحرب على لبنان، ثم تسليم الرئيس السوري البلاد من دون قتال، ومغادرته إلى موسكو، ومكاسب إسرائيلية من جراء ذلك، ثم مكسب روسي بتأكيد ترامب وقف الحرب في أوكرانيا، مع توليه الرئاسة.
لكنّ هناك ثُغَراً كثيرة هنا، منها أن من الصعب جداً أن يوفَّق ترامب في إنهاء الحرب الأوكرانية. فذلك سيعني انتصاراً كبيراً لروسيا، وهزيمةً للغرب كله، بما فيه أميركا، ثم إن فارقاً كبيراً في الوزن الاستراتيجي لسوريا في مقابل أوكرانيا، وهو ما يجعل الصفقة مائلةً بوضوح لمصلحة روسيا، وخصوصاً أن سوريا الآن ستصبح مساحة لعبٍ لمجموعةٍ من القوى، منها من يجيد المراوغة السياسية، ويتقن أصعب فنون الاستراتيجيا: المناورة، وهو (إردوغان) يلعب ورقةً متناقضة على الأرض وفي التطلعات البعيدة مع ورقة الأميركيين الكردية. فما الداعي لهذه الصفقة؟
تقديري أن شخصين ساهما بقوة فيما يجري في المنطقة. أولهما الإسرائيلي ديرمر، الذي تمكن من صياغة رؤية رابحة للجميع، تُظهر فوائد دعم التغير الكبير في المنطقة على كل من أميركا وروسيا و"إسرائيل". وثانيهما سأعود إليه بعد قليل، علماً بأن نصائح روسية مؤكدة كانت توجَّه إلى الأسد منذ أشهر باللقاء مع إردوغان، وتخريج حل سياسيٍ وتطبيع العلاقات.
عندما أطلقت تركيا الزخم الجديد من الشمال في اتجاه حلب، كانت روسيا أصبحت في قلب تنفيذ المبادلة، من موقع المضطر. قد يأتي السؤال: لكنها يجب أن تكون وافقت على المبادلة قبل ذلك. والجواب أن روسيا لا تثق بأن واشنطن ستقوم فعلياً بإنهاء الحرب في أوكرانيا (حتى مع ترامب)، وبالتالي لن تسلم ورقتها، إلا بعد أن تأكدت من أن شوطاً كبيراً قطعته واشنطن وحلفاؤها في تقويض النظام، من خلال تفكيك مراكز النفوذ وإبعادها عن الأسد.
ما موقف واشنطن بشأن القيادة السورية الجديدة؟
يعرب بلينكن عن عدم ثقته بأن الجولاني سيحمي الأقليات، على الرغم من سماعه الكلام الصحيح. قبله قالت واشنطن أيضاً إن هيئة تحرير الشام تقول الكلام الصحيح، لكن أميركا تنتظر الأفعال الصحيحة.
طبعاً، الأفعال هنا لا تخص الأقليات، بل مصالح الولايات المتحدة في سوريا. وكانت واشنطن صريحة في القول إن لديها مصالح كبيرة جداً هناك.
حسناً، ماذا تريد واشنطن من القيادة السورية الجديدة؟
تنطلق واشنطن من تصنيف الهيئة في لوائح الإرهاب، لتزيد الضغوط عليها، وتحصل على التنازلات المطلوبة.
وهذه التنازلات تتعلق بأمن "إسرائيل"، على مسطرةٍ تبدأ بقطع سبل الإمداد بين إيران والعراق وحزب الله، وتصل في أقصاها إلى التطبيع مع "إسرائيل". لكن هناك أشياء أخرى.
هناك ما يتصل بالكرد، وتمكينهم من الحكم الذاتي، وصولاً إلى الانفصال لاحقاً. وعلاج واشنطن لمسألة الأقليات عبارة عن فدرلة وتفتيت، وهو ما يتيح هوامش أوسع للتدخل وإدارة التوازنات من وزارة الخارجية الأميركية.
وهنا مبعث الخطر الكبير، ليس بالنسبة إلى السوريين فحسب، وإنما أيضاً بالنسبة إلى تركيا والعراق وإيران.
ما موقف تركيا "الناتوية"؟
أتقن إردوغان الخداع الاستراتيجي، وخصوصاً في الفترة الأخيرة، بحيث أخفى نياته الحقيقية عن الجميع، من خلال غطاء مد اليد إلى الأسد عبر روسيا والحلفاء الآخرين. لكن اليد الأخرى كانت تمدّ السلاح والدعم إلى المقاتلين في إدلب.
والآن، أصبح اللاعب الأكبر في سوريا الجديدة، ومن موقعه هذا يقول: لم يعد في إمكاننا السماح بتقسيم سوريا، وأن تصبح أراضيها منطقة صراع مرة أخرى، وأي هجوم على استقرار الحكومة السورية الجديدة سيتم صده من جانب الشعب السوري وتركيا.
وهذا معناه ضرورة قتال "قسد"، لكن هذا تحديداً يتناقض مع مصلحة أميركا، ويقترب من موقف كل من إيران والعراق في هذه النقطة. فكيف يترجم ذلك؟
قلنا آنفاً إن شخصين ساهما في رسم التحول في المنطقة. الثاني هو هاكان فيدان، وزير الخارجية التركي، وأقوى من يُنظر إليهم عند التفكير في خليفة إردوغان.
بالأمس، زار وفد تركي - قطري دمشق، وضم فيدان ورئيس الاستخبارات التركية إبراهيم قالن ورئيس جهاز أمن الدولة القطري خلفان الكعبي، رفقة فريق استشاري موسّع، من أجل لقاء الجولاني ورئيس الوزراء الجديد محمد البشير.
أتصور أن البحث هناك يتركز على آليات تحويل المجموعات المسلحة إلى جهاز حكمٍ دولتي، يفكر كدولة، ويتصرف كدولة، ضمن خيارات هذا التناغم التركي - القطري.
العراق يتحرك للجم المخاطر
لكن إلى الشرق قليلاً، هناك العراق، الذي زادت الأحداث في قلق قادته، وبدأوا يتحركون. منذ لقاء الدوحة قبل أيام، لم يهدأ العراقيون. انتقل قائد القيادة المركزية الأميركية مايكل كوريلا من سوريا إلى بغداد والتقى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
الأخير زار الأردن، فالتقى ملكها، وعاد ليستقبل في بغداد وفداً من الخارجية الأميركية. في غضون ذلك، تواصُل مستمر مع السعودية، في أعلى مستوى، وحركة موفدين عسكريين غربيين في العاصمة العراقية.
حضور "داعش" قرب الحدود يُقلق بغداد بالطبع، واحتمالات انتعاش الحلم الكردي مع توسع حضور "إسرئيل" وأميركا يقلقها أكثر، والدخول لضرب العراق من باب التذرع بالحركات المتحالفة مع إيران شديد الخطورة هناك.
قد تكون هذه الحركة المحمومة حراكاً عراقياً لتجنّب انتقال الفوضى إليها. لكن النهم الإسرائيلي في التوسع أكثر واستغلال الموقف الاستراتيجي يُلقي غيوماً سُوداً على الجميع، وعين "إسرائيل" الآن تركز على إيران، فهل يريد ترامب إقفال أوكرانيا، وفتح الحرب مع طهران؟
ترامب: كل شيء وارد
أصبح واضحاً أن الضغط الأميركي (وعوامل الحرب) أجبر نتنياهو على وقف الحرب على لبنان، لكن الأميركيين والإسرائيليين متفقون على إبعاد إيران عن المنطقة.
ترامب لا يقبل المشاركة في إدارة الأحداث. وبالنسبة إلى الحرب على طهران، قال إن كل شيء وارد. لكن مع ذلك، الأمر يتوقف على الطرف الآخر أيضاً، والذي يدير حساباته بروية الآن، ويتطلع إلى الفرص مع الأتراك والحكومة السورية الجديدة.
ولم يتصرف بانفعال بعد خروج الأسد. هذه المعطيات تصعّب مهمة الإسرائيليين بإقناع ترامب بالحرب، لكن الأخير ينتظر صفقةً مغايرة، وربما شاملة، عنوانها الملف النووي، وهي غير مستبعدة. فكيف تفكر إيران بالنسبة إلى سوريا؟
مع حكم "هيئة تحرير الشام"، خرجت إيران (بمعنى التأثير في الخيارات) من "حدود" "إسرائيل" الشرقية، ودخلت مكانها تركيا.
الآن، هي فرصة إردوغان في استثمار سوريا جيوسياسياً، وفتح بازار مع "إسرائيل" وأميركا. بات اللاعب الأقوى في المساحة الممتدة من البحر الأسود (ملامسة الأزمة الأوكرانية) حتى حدود فلسطين، وفي قلب أزمات الشرق الأوسط كلها.
من هناك سيفاوض الجميع، وسيحصد منهم المكاسب. مشكلته الرئيسة تنقسم في اتجاهين: هشاشة داخلية تجاه سيناريو التقسيم، أو العنف الطائفي. فالأتراك العلويون أو الكرد سيشتعلون إن أخطأ الحساب في سوريا. وربما هذا ما يفسر الخطاب الجديد للحكام الجدد تجاه الأقليات، وتركيزهم على مواجه "قسد"، من أجل محاصرتها ميدانياً، وإحراق هذه الورقة.
إيران، والصبر عادتها المحمودة والمكروهة في آن، تنتظر أن تتضح اتجاهات الحكام الجدد، مع استعدادها للتفاهم معهم والتشارك في فكرة قتال "إسرائيل"، وخطاب إردوغان غير بعيد عن ذلك، وإن بقي في إطار ما يُسمع ولا يُرى. وهنا بيت القصيد، وسبب تدمير الجيش السوري.
تدمير قدرات السوريين
تعلم "إسرائيل" أنه على الرغم من الخلافات المذهبية، والغرق في المستنقعين الطائفي والمذهبي، وتراكم الحقد خلال الأعوام الأخيرة في سوريا، والتطرف الذي يتسم به كثيرون في الجماعات التي وصلت إلى دمشق الآن، فإن كثيرين من المقاتلين والقادة في هذه الجماعات يعادون "إسرائيل" ويتمنون قتالها، وتحرير المسجد الأقصى.
وهم إذا تمرسوا في الدولة كما فعلوا في القتال، ودخلوا المجتمع السوري كله بدلاً من خنادق القتال، فإن الدولة والحياة الاجتماعية المختلطة سوف تهذّبان نظرتهم تجاه الآخرين، وتخلقان مساحاتٍ مشتركة، أبرزها النظر إلى الجولان. وهذا ما تتمناه إيران، وقد تعمل باستماتة من أجل تحقيقه.
لذلك، تحرك "الجيش" الإسرائيلي ليقضي على قدرات الجيش السوري، ويقصف البحرية والصواريخ الثقيلة ومراكز البحوث والمنشآت السرية، وساعده بعض المتهورين (على الأقل) في تصوير تلك المنشآت وكشفها. لكن الخوف من بقاء الإسرائيليين حيث دخلوا، فهل يبقون؟
احتلال نقاط عسكرية استراتيجية في الجنوب السوري قطع الطريق على أي تعاون يمكن أن يتبلور بين الحكام الجدد والمقاومة اللبنانية فيما لو تبدلت الأجواء، وقطع طريق التسليح للأخيرة. ومن خلاله تسعى "إسرائيل" أيضاً لبسط نفوذها في المنطقة الجنوبية، عبر التهديد والسطوة النارية، والضغط على خيارات دمشق، وسياستها الدفاعية وسياستها الخارجية.
والوسيلة ضرب مبدأ وحدة سوريا من أجل تسهيل تفكيكها، والبدء من نقطتين. الدروز في الجنوب، والكرد في الشمال الشرقي. فكيف تبين ذلك؟
وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، يقول إن من غير الواقعي التفكير في دولة سورية واحدة تتمتع بالسيادة على المنطقة بأكملها. والشيء المنطقي هو تحقيق الحكم الذاتي، وربما تشكيل حكومة فيدرالية للأقليات السورية.
إذاً، تتطلع "إسرائيل" وأميركا في الاتجاه نفسه، بينما تتطلع تركيا والعراق وقطر والسعودية وإيران إلى وحدة سوريا، وتَعُدّها مصلحة مركزية في نظرتها إلى مستقبل البلاد.
لاعب جديد يتطلع إلى اقتناص فرصة
هناك لاعب جديد يُطل برأسه، وهو لاعب يقف على تقاطع إسرائيلي - تركي، لكنه ضد هذا الاتجاه تماماً، وعينه على سوريا، لكن نيّته تنظر إلى الداخل الإيراني.
هذا اللاعب هو أذربيجان. هناك في جنوبي القوقاز، ترسل أذربيجان إشارات لافتةً جداً، تكشف عن شهية مفتوحة لاستغلال الحضور الأميركي – الإسرائيلي -التركي في المنطقة، وتتطلع إلى الداخل الإيراني.
قبل يومين، بدأ نائب الرئيس الأذري، حكمت حاجييف، زيارةً لـ"تل أبيب". الهدف المعلَن التوسط بين "إسرائيل" وتركيا لتجنب سوء الفهم. وفي هذا اعتراف بأن تركيا أصبحت حدود "إسرائيل".
الرئيس الأذري إلهام علييف قال ما هو أوضح: سنتحرك مع تركيا في سوريا. لكن في العمق، ترى باكو فرصةً مغرية في سيناريو حربٍ أميركية - إسرائيلية على إيران. لماذا قد ترغب في ذلك؟
تحتوي الديموغرافيا الإيرانية على أذربيجانيين أكثر مما تحويه أذربيجان نفسها. وهناك محافظات بهذا الاسم، ففي حين يصل عدد هؤلاء في إيران إلى نحو 19 مليوناً، ويشكلون نحو 20% من السكان، فإن عدد سكان أذربيجان لا يتجاوز 10.1 ملايين نسمة.
أكثر من ذلك، تشعر باكو بأن إيران خطرة جداً، فالدولتان من دول الأغلبية الشيعية مذهبياً، ووجود نظام إسلامي متدين قد يمد نفوذ إيران إلى داخل أذربيجان ويغير اتجاهها.
الآن فرصة باكو ليست إبعاد إيران عن سوريا عبر التحالف المتين بين علييف وإردوغان فحسب، بل من خلال استغلال الموقف الجديد في المنطقة، والعلاقة الممتازة بين باكو وكل من "تل أبيب" وواشنطن، من أجل التحفيز على تقسيم إيران بعد حربٍ عليها. وهذا مكمن خطرٍ حقيقي على سوريا، إذا زاد نشاط باكو لإدارة ما ينشأ من خلافات إسرائيلية - تركية.
ما الأفضل للسوريين؟
سوريا تحتاج الآن إلى الخبز والأمن والسيادة. وهي مكونات أي دولةٍ قوية. والعلاقة بين ميادين القوة الثلاثة هذه متداخلة وصعبة. تمسك واحدةً فتفلت الأخرى، لكن في المقابل، إذا أدرت العلاقة بين كل منها جيداً، فإنها تعزز بعضها بعضاً.
الأمن يحتاج إلى الخبث في التعاطي مع الأدوار الخارجية، والسيادة تحتاج إلى الخبز. والخبز يحتاج إلى الأمن بالضرورة.
الأمن والسيادة مسألتا حياة أو موت لمستقبل الدول. وسوريا الآن مع تدخل كل هذه القوى الخارجية، من دون سيادةٍ تقريباً، ومن دون خبز أيضاً، والخوف على الأمن يطال الجميع، حتى من انتصروا الآن. لذلك، فإن السوريين لا وقت لديهم لتضييعه في الأحقاد والانتقام. لماذا؟
كل الدول، بلا استثناء، تنظر إلى مصلحتها في سوريا. وهي تغذي زخماً معيناً، مع نظام أو ضده، مع طائفة أو ضدها، لتخدم مصالحها هي فقط.
والانتقام ليس خطاً مستقيماً في اتجاهٍ واحد. إنه دوّامة. والثقة بدوام الحال وَهْم، وهذا ما يجب أن تدركه شعوب المنطقة، وهي شعوبٌ تغلّب العاطفة على التفكير السياسي البعيد والهادئ.
وإن نظرتم إلى العالم المضطرب الآن فسوف تجدون الدول تخطط وترسم وتندفع، ثم تفرمل وتغيّر الاتجاه، ولا تعبّد استراتيجياتها، بل مصالحها الدائمة، وهي في سبيل ذلك تتخلى عن أي حليفٍ أو صديق أو شريك. وما الجثث إلا الجسر الذي تسلكه من تصوراتها إلى مصالحها. قالها الأديب الشهير ماريو فارغاس يوسا يوماً: السياسة هي شق الطريق بين الجثث.
سوريا والمنطقة امتلأتا بالجثث، وهما تحتاجان إلى طريق سياسة يُخرجها إلى بر التنمية، فالبلاد التي تفرغ من الذهب، تمتلئ بالعظام.
أما لبنان، المتأثر دائماً بما يحدث في سوريا، بحكم التاريخ والجغرافيا والحيوبوليتيك، فإنه يعبُر الخطر رويداً رويدا، كم ينسلّ من ليلٍ إلى صباح، وآماله كبيرة ألّا يتعثر في المرحلة المقبلة.