كيف تصدّر طوفان الأقصى المشهد السياسي في مصر؟
الحديث الدائر اليوم بين المصريين، يدور حول كيفية مساندة المقاومة الفلسطينية في معركتها، وما الذي يمكن أن يقدمه مرشحو الرئاسة إلى قضية العرب المركزية؟
لم تغب القضية الفلسطينية مطلقاً عن العقل المصري، وظل الموقف من التطبيع معياراً حقيقياً للحكم على أي سياسي أو ناشط في المجال العام. صحيح أن بعض الدخان قد يُعمي العيون ويشوّش الرؤى، لكن على الفور، مع أول طلقة رصاص جديدة تُسدَّد إلى صدر صهيوني، تعود الأمور إلى نصابها الصحيح.
فمع توالي الأخبار، التي تكشف حجم الانتصار الذي حققته عناصر المقاومة في المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، كان المصريون في مواقع التواصل يتبادلون التهاني والتبريكات، وينشرون صوراً من الأراضي المحتلة، تعكس مدى جسارة العملية التي نفذتها المقاومة، تعلوها عبارة «عملية طوفان الأقصى هي الإحياء الفعلي لانتصار أكتوبر 1973».
حتى صفحات الفيسبوك المليونيّة الساخرة، والتي لطالما تعامل معها الكثيرون بعلى أنها منصّات للتسلية، وتعبّر عن فراغٍ عقلي لدى الأجيال الجديدة، تحوّلت، بين طرفة عين وانتباهتها، إلى منصّات لتأييد العمل المقاوم، ثمّ التهكم والحطّ من أي شخص يتجرّأ على التقليل من قيمة المقاومة الفلسطينية وجدواها.
عادت فلسطين إلى صدارة المشهد السياسي المصري، لتؤكد أنها القضية الأهم والأجدر بالمتابعة، وليَصدُق فيها القول إنها «كقطعة الفلين، كلما حاول أحد إغراقها تحت الماء طفت»، وهو تعبير التصق بالقضية الفلسطينية، وكان استخدامه الأول بواسطة الجغرافي الراحل جمال حمدان، لوصف القومية العربية وراهنيّتها.
حملات المرشحين لانتخابات الرئاسة في مصر صارت مطالَبة، أكثر من أي وقتٍ مضى، بالتعبير عن موقفها تجاه المقاومة الفلسطينية والتطبيع وكل الملفّات التي تتعلق بحركة مصر في دوائرها الثلاث: العربية والأفريقية والإسلامية. وهي أمور دأب السياسيون البارزون في القاهرة على تجاوزها خلال الأعوام الماضية، على عكس الحال في عقود خلت.
تعالت الأصوات الشعبية التي تطالب الفاعلين السياسيين داخل مصر، أفراداً وأحزاباً، بمواقف أكثر جذريّة ووضوحاً في رفض التطبيع مع العدو الإسرائيلي. وما دام الشعب العربي خارج فلسطين غير قادر على دخول المعركة بصورة مباشرة، فليضغط على الجالسين فوق كراسي السلطة، أو المرشحين لها، حتى تُحرم "إسرائيل" من الاعتراف بها، بعد أن نجحت المقاومة في حرمانها من الأمن.
بحسب الآراء السائدة في منصّات الإنترنت وفي الشارع المصري، اختطفت حركات المقاومة الفلسطينية الأنظار من الجميع، كأنّ لا شيء يحدث في البلد، الذي يضمّ مئة مليون نسمة، سوى متابعة كل خبرٍ جديد تنقله وسائل الإعلام عن «طوفان الأقصى»، وكل خبر يحمل معه بشرى جديدة، ترفع معدّلات الحماسة والثقة بالنصر.
من معبر العوجة إلى غلاف غزة.. محمد صلاح كان هناك
مع فجر يوم السبْت، الثالِث من حزيران/يونيّو 2023، عبر الجندي المصري محمد صلاح داخل "الحدود الإسرائيلية"، وقام بإطلاق النار على عدد من جنود الاحتلال وضباطه، ونتج من الاشتباك مقتل 3 من الجنود وإصابة اثنين آخرين، واستشهاد الشاب المصري منفذ العملية.
بعدها بأربعة أشهر وبضعة أيام، وفي يوم السبت أيضاً، يعبر الشبان الفلسطينيون السياج الذي يفصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وينجحون في تنفيذ عملية استثنائية وغير مسبوقة، جعلت حكومة الاحتلال عاجزة، فترةً طويلة، عن إحصاء خسائرها.
محمد صلاح، المجند البسيط والذي تحولت صورته (وهو يمتطي أحد الخيول في منطقة الأهرامات) إلى أيقونة مصرية خالدة، وصار نشرها في الآلاف من حسابات مواقع التواصل تعبيراً عن المكتوم في النفوس من تأييد للمقاومة، وتأكيداً مفاده على أن كل "المباحثات" و"المفاوضات" التي تجري منذ عقود بين القاهرة وحكومة الاحتلال لم تنجح في تغيير عقيدة المصريين، مع أول اختبار يثبُت للجميع أن ما حدث منذ السبعينيات حتى اليوم، ليس إلا تطبيعاً هشاً وواهناً، بل أضحوكة.
استحضر المصريون روح محمد صلاح في أثناء متابعة أخبار عملية طوفان الأقصى، وأرادوا بذلك تأكيد وحدة المعركة عربياً، وأن هذه "الحدود الإسرائيلية" بات عبورها أيسر من حبو الأطفال، و"أنّ "إسرائيل" التي تملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، هي أوهن من بيت العنكبوت"، كما قال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله.
اليوم، يعيش "المجتمع الإسرائيلي" صدمة كبرى، ولم يعد قادراً على الشعور بالأمان بينما تطارده الصواريخ والرصاصات والسكاكين من داخل "الحدود" ومن خارجها، وصار قادة الاحتلال اليوم يدركون أكثر أن كيانهم إلى زوال، وخصوصاً عندما يتابعون أعداداً لا بأس بها من المستوطنين تفرّ نحو المطارات لحجز تذاكر السفر إلى أراضي أجدادهم الحقيقية في أوروبا!
هذه المشاهد، التي تكشف فشلاً صهيونياً حقيقياً في ملاحقة المقاومة أو التصدي لها، أعادت ثقة المواطن العربي بذاته، بعد أن زُعزعت لعقود بفعل عوامل خارجة عن إرادته، استهدفت شلّ قدراته عبر تدميره معنوياً. ولطالما أدرك الاحتلال أنه لا يمكنه الانتصار إلّا في حال أفقد خصمه قدرته على المواجهة، وذلك عبر إفقاده الإيمان بنفسه، وهذا ما سعت له وسائل إعلام غربية وصهيونية، منذ هزيمة حزيران/يونيو 1967.
قضايا المقاومة تتصدّر في مصر.. والمنافسات السياسية تتوارى
تدرك الطبقات الشعبية داخل مصر أن ثمة رابطاً حقيقياً بين تدهور أحوالها المعيشيّة وانخراط الأنظمة الحاكمة في المنظومتين الغربيتين، الاقتصادية والسياسية، والتزامها أجندات مؤسسات المال الدولية، وتؤمن بأن الفكاك من التبعيّة سيحمل معه تحديّات صعبة، لكنه سيُفضي إلى تنمية مستقلة، ثمّ استقرار ورخاء اقتصاديَّين.
وقلّما تجد مواطناً عادياً في مصر لا يتهم الكيان الإسرائيلي بالتورط في مخططات ظاهرة وباطنة لإفساد بلاده وإضعافها وإفقارها، وهذا الموقف ليس نابعاً من متابعة وسائل الإعلام أو تأثير البروباغندا، بل هو نتاج وعي فطري سليم، مفاده أن المصائب تراكمت على بلادنا منذ أن عاونت القوى الغربية الكيان الإسرائيلي على النشوء كترسانة عسكرية ـ بشرية تمثل حاجزاً جغرافياً يقطع التواصل البري بين شرقي العالم العربي وغربيّه، وتبادر إلى تحطيم أي تجربة للتنمية والتحديث في مصر، كما حدث في الزمن الناصري، وفي غيرها من بلدان المنطقة.
بناءً عليه، ينطلق المصري العادي من أسس مادية وعمليّة حين يتخذ موقفاً رافضاً للهيمنة الأميركية أو للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، لأنه يدرك جدوى هذا المسار في تحسين أحوال بلاده. وبالتالي، تأخذه الحماسة إلى المتابعة والتعبير عن الرأي، لكنه، على العكس، ربما تفتر حماسته عند متابعة المنافسات السياسية الداخلية، لأنه لم يقف بعدُ على جدوى تلك "المعارك الانتخابية" وانعكاساتها على قضاياه المعيشية والمصيريّة.
صحيح أن هناك حضوراً لأجواء الانتخابات الرئاسية في مصر، لكنه حضور تقف خلفه عشرات الفضائيات والموقع الإخبارية، وتفرضه حملات المرشحين في الميادين العامة وأمام مقار الشهر العقاري، لكن، في المقابل، طفت قضايا المقاومة على السطح بسلاسة ومن دون مساندة إعلامية، أو حتى حركات منظَّمة تتبنى أفكارها، وعندما برزت أجبرت "المناحراتِ المحليّة" برمتها على التراجع إلى الخلف.
الحديث الدائر اليوم بين المصريين يتمحور حول كيفية مساندة المقاومة الفلسطينية في معركتها، وما الذي يمكن أن يقدمه مرشحو الرئاسة إلى قضية العرب المركزية، وأي مستقبل ينتظر مصر في ظل متغيرات وانقلابات دولية عميقة، بدأت تؤتي ثمارها حتى في مسألة الصراع العربي ـ الصهيوني؟
من المؤكد أن عبور مقاومي كتائب القسام إلى الأراضي المحتلة، وسيطرتهم على عدد من المستوطنات، والانتصار في المعارك العسكرية، ونجاحهم في أسر عدد من جنود الاحتلال، أمرٌ لا ينفصل دولياً عن الأمراض التي بدأت تفتّ في جسد البيت الأبيض الداعم الأهم للكيان الإسرائيلي، وسمحت لدول، مثل الصين وروسيا، بتصدّر المشهد، كما لا ينفصل إقليمياً عن نمو قوة الجمهورية الإيرانية والانتصارات المتتالية التي يحققها محور المقاومة، من طهران إلى بيروت، مرورا بقلب العروبة في دمشق.
كل ما سبق يدفع المواطن المصري، لاشعورياً، إلى خفض الاهتمام بهذا النوع من المنافسات السياسية الداخلية، ما دامت لا تروي عطشه الذي يشعر به من جراء غياب بلاده عن أداء الدور الذي يتلاءم مع مكانتها التاريخية وإمكاناتها البشرية ورصيدها الحضاري.