قراءة في قواعد الصراع على جبهة "إسرائيل" الشمالية
الكيان الصهيوني يواجه استحقاقاً على الجبهة الشمالية: إما أن يقضي على المقاومة في لبنان سياسياً، أو عسكرياً، أو بمزيجٍ من الإثنين، وهو لن يستطيع النوم بهدوء، وأن يؤدي دور قوة إقليمية "عظمى" بوجود قوة غير نظامية في لبنان تقزّمه بهذه الصورة المهينة.
ربما يظن بعض الذين ولدوا في العقدين أو العقود الثلاثة الفائتة أن الخطاب الذي يسوَّق ضد حزب الله في لبنان محلياً وعربياً، وخصوصاً منذ حرب صيف 2006، جديدُ المفردات والمحتوى، أو أن العداء له نابعٌ من خصوصيات تموضع حزب الله في البيئة اللبنانية وأثرها فيها.
وربما تساعد تلك الخصوصيات في تفسير لون الصياغات المحددة للمقولات المناهضة للمقاومة في لبنان اليوم، لكنّ تلك ألوانها وظلالها الموسمية فحسب التي لا تحجب عن العين المدققة كونها مستلّةً ومهجّنةً من سلالات الشجرة الخبيثة ذاتها التي طالما ناهضت كل ظاهرة مقاوِمة في لبنان قبل حزب الله، وكونها تتشابه معها في جذورها وارتباطاتها وجذعها وتركيبتها وغصونها وأوراقها وثمارها السامة، وفي نوعية المركبات الكيميائية والعناصر التي تتغذى عليها لبنانياً وإقليمياً، وحتى في سمية ثاني أوكسيد الكبريت الذي تنفثه في الفضاء العام.
انطلقت الحملة المحرضة على المقاومة في لبنان بعد اتفاق القاهرة، الموقّع بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، في 3/11/1969، برعاية مصر عبد الناصر، وكان اتفاقاً شرعن العمل الفدائي ضد العدو الصهيوني انطلاقاً من الجبهة اللبنانية في أجواء حرب الاستنزاف التي كانت تقودها مصر آنذاك ضد "إسرائيل" على خلفية هزيمة الـ 67.
وبعد وقف إطلاق النار في آب/ أغسطس 1970، وارتقاء جمال عبد الناصر في الشهر الذي تلاه، دشن أنور السادات انقلاباً أميركياً في المشهد السياسي، مصرياً وعربياً، ليفتح الباب، بالتالي، أمام عصر هيمنة البترودولار على القرار الرسمي العربي، وعلى الحياة السياسية العربية بصورةٍ عامة، الأمر الذي ترافق مع الدفع في اتجاه "تسوية الصراع العربي-الصهيوني سياسياً".
أدى بقاء المقاومة الفلسطينية خارج معادلات تجميد القتال، في أجواء الانقلاب الساداتي، وتحولها تالياً إلى علامةٍ فارقةٍ ونقطةٍ جاذبةٍ للشباب العربي انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، وخصوصاً بعد إخراجها من الأردن بين عامي 1970 و1971، إلى جعل شيطنتها والتحريض عليها، وصولاً إلى القضاء عليها كظاهرة، استحقاقاً أميركياً وصهيونياً ورسمياً عربياً تجلت مفاعليه في مسارين:
أ – مسار فرض نهج التسوية والاستسلام داخل منظمة التحرير الفلسطينية.
ب – مسار تأليب البيئة اللبنانية الحاضنة بشدة للمقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي عليها.
منذ ذلك الوقت، اتخذ الخطاب المناهض للمقاومة المعالم الآتية، وما أشبه اليوم بالأمس:
أ – التركيز على عدم لبنانيتها، وربطها بأجندات غير لبنانية "غريبة" عن لبنان واللبنانيين.
ب – التحشيد طائفياً لإنتاج شرخ يشق لبنان عمودياً عبر تسليط الضوء على أثر صعود المقاومة في الإخلال بموازين القوى بين الطوائف اللبنانية، من ميثاق 1943 والميزان المسيحي-المسلم سابقاً، إلى اتفاق الطائف والميزان السني-الشيعي حالياً، من أجل تحويل المقاومة إلى "قضية خلافية" لبنانياً.
ج – إثارة مشكلة "السلاح غير الشرعي" الذي "يقوض سيادة الدولة اللبنانية" عند كل مفصل ممكن، من دون الإشارة إلى سلاح الميليشيات المناهضة للمقاومة وبيئتها الحاضنة، أو إلى صلاتها الخارجية المشبوهة.
د – السعي لزج الدولة اللبنانية ومؤسساتها في حروب استئصال للمقاومة وامتداداتها، الأمر الذي أدى إلى صدامات مسلحة عدة قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 وأدى إلى انقسام الجيش في الحرب الأهلية.
هـ - التذرع بأن لبنان الصغير لا يقوى على مواجهة العدو الصهيوني وحده، مع التظاهر بالعداء له، والتلطي خلف شعار "قومية المعركة" للاتساق مع الأنظمة العربية المروّجة للتسوية مع العدو الصهيوني، مع أن ذلك الشعار يعني إسناد المقاومة الفلسطينية، لا محاولة وقفها.
و – الزعم بأن "لبنان المعتمد اقتصادُه على التجارة والخدمات السياحية والمصرفية" لن يبقى "سويسرا الشرق" أو "درته" إذا تبنى نهج المقاومة، وسيتحول بالتالي إلى "دولة فاشلة"، بحسب النسخة المحدثة لذلك الخطاب، من دون الإشارة إلى الحصار والعقوبات ومخططات إفشال الدول المستقلة عمداً، وإلى أن الاقتصاد المنتج هو ما ينهض بالبلدان، لا الكازينوهات والمقامرة المالية.
ز – العمل الدؤوب على إبراز مواصفات "استثنائية لبنانية"، "فينيقية" أو "غربية"، أصبحت ليبرالية في النسخة المحدثة، تحيّد العداء مع الاحتلال الصهيوني وتشيد جدراناً نفسية و"ثقافية" مع القضية الفلسطينية والمحيط العربي والإسلامي.
حـ - تسخيف العمل المقاوم وإنجازاته، وإنكار أثره في العدو، وتضخيم "عواقبه" على البيئة الحاضنة، والمبالغة بشأن أي أخطاء أو تجاوزات أو اختراقات أمنية.
الحرب على المقاومة في الجبهة الداخلية اللبنانية
وعلى الرغم من أن المآل العام لهذا التوجه يصب في مجرى المشروع الأميركي-الصهيوني لاجتثاث المقاومة من لبنان، فإن وكلاءه اللبنانيين احتكروا ملكية "الهوية اللبنانية" وأخرجوا مناصري المقاومة منها، بينما كانوا يعملون على إلحاق لبنان بمشروع غير لبناني بالأساس.
وإذا كان خطاب مناهضي المقاومة سابقاً يذهب إلى أن المشروع العروبي "محاولة لابتلاع مسيحيي لبنان إسلامياً"، فإن خطابهم اليوم يتقمص وضعية "الدفاع عن العروبة" في مواجهة "المشروع الإيراني"، والمقصود طبعاً "عروبة" الأنظمة العربية المطبّعة والمتخاذلة، لا عروبة المقاومة بصفتها مصلحة استراتيجية عليا للأمة العربية، قبل إيران.
وكما كان حضور المواطن اللبناني المسيحي الداعم للمقاومة، أو المنخرط في أحزاب وتيارات وطنية وقومية ويسارية، يقوض الخطاب الطائفي المتقوقع لبنانياً ويجعله خطاباً أجوف فاقداً للمصداقية والتماسك، كذلك فإن من مصلحة حزب الله اليوم، برأيي المتواضع، أن يسوّر المقاومة اللبنانية ويحصنها بأكبر عدد ممكن من الأطر والشخصيات العابرة للطوائف والمذاهب، وبمدٍ موازٍ وطني وقومي ويساري، وبإبراز لبنانية المقاومة وعروبتها كقوة تحرير وردع ووزن مكافئ للعدو الصهيوني، وبالتذكير دوماً بحرصها على عدم التورط في لعبة السلطة والمحاصصة في لبنان.
الداعي إلى هذا الكلام أن الجبهة الداخلية اللبنانية هي الجبهة الأخرى، السياسية، التي يحركها الغرب الجماعي والعدو الصهيوني وأدواتهما خلف خطوط المقاومة في لبنان، وأنها جبهةٌ لا تقل خطورةً عن الجبهتين العسكرية والأمنية.
هناك في الوطن العربي من لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار عندما يتساءل "لمَ لا يصعد حزب الله أكثر مع العدو الصهيوني؟"، وهناك من يعرفه جيداً، لأنه مشاركٌ في الحملة على حزب الله والمقاومة، لكنه بات يتهمهما اليوم بخوض "حرب استهداف أعمدة" شكلية على الحدود، فهي مدانةٌ عنده إن حاربت، أو لم تحارب، أو حاربت ضمن ضوابط كي لا تترك لمن هم مثله ذريعةً بأنها "جرت لبنان" إلى حربٍ كبرى لا تبقي ولا تذر.
حشود العدو الصهيوني على الجبهة الشمالية
لكن الكلمة تبقى للميدان، لا للمزايدين، وقد زعم الناطق بلسان "جيش" الاحتلال دانييل هاغاري، بحسب "تايمز أوف إسرائيل" في 3/2/2024، أن 3 فرق عسكرية جرى نشرها على الحدود الشمالية في مواجهة تصاعد هجمات حزب الله، وترافق ذلك مع أنباء متواترة منذ بداية العام الجاري عن سحب قوات عسكرية من غزة وتوجيهها نحو الحدود الشمالية.
يعد عدد التشكيلات العسكرية وحجمها في أي جبهة من الجبهات في زمن الحرب من الأسرار العسكرية طبعاً. لذلك، ليس من الحكمة أن نصدق تصريحات "جيش" الاحتلال بأن ما بقي في غزة حالياً هو فرقة عسكرية واحدة، أو أن نستنتج أن ما نشر شمالي فلسطين هو 3 فرق عسكرية فحسب.
تشير المعلومات المتوافرة من عام 2023 أن الجبهة الشمالية، خلف ما يسمى "الخط الأزرق"، البالغ طوله نحو 120 كيلومتراً، تحتشد خلفها أربع فرق عسكرية إسرائيلية من القوات البرية فحسب، ما عدا القوات الجوية والبحرية والأمنية والشرطية، هي:
أ – الفرقة المؤللة رقم 36، وتضم 6 ألوية وكتيبة سلاح إشارة.
ب – الفرقة البرية رقم 91، وتضم 6 ألوية وكتيبة سلاح إشارة وكتيبة استطلاع وسرية مهندسين.
جـ - الفرقة المؤللة رقم 146، وتضم 7 ألوية وكتيبة سلاح إشارة.
د – الفرقة البرية رقم 210، وتضم 6 ألوية وكتيبة سلاح إشارة وكتيبة استطلاع وسرية مهندسين.
وبالإمكان وضع قائمة بأسماء وأرقام كل لواء في تلك الفرق.
نتحدث هنا عن نحو 62 ألفاً من جنود القوات البرية على الأقل، فضلاً عن قوات حرس الحدود، الذين يكثر العملاء "العرب" من كل الطوائف والمذاهب في صفوفهم، وفروع القوات الخاصة التابعة لحرس الحدود في الشمال، مثل وحدات "يمام" و"يماس" وغيرها، والقوات الجوية والبحرية، ومجموعات حراسة المستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية، وفرق المتطوعين التي تضم في صفوفها كثيراً من المستوطنين القادمين من القارتين الأوروبية والأميركية، والذين يخدمون على أساس غير نظامي.
يُذكر، بالمناسبة، أن 23380 أميركياً يخدمون حالياً في القوات المسلحة للاحتلال الصهيوني، قالت "واشنطن بوست"، في 22/2/2024، إن 23 منهم قتلوا منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر حتى ذلك التاريخ.
إشارة إلى أن مقر قيادة قوات الشمال يقع في صفد، وأنه استُهدف بمسيّرة في 9/1 الفائت، ثم برشقة صواريخ في 14/2 (يوم "عيد الحب لفلسطين").
يُذكر أن القيادة العسكرية الإسرائيلية أعلنت مؤخراً عن تأسيس لواءٍ جديدٍ للقتال الجبلي هو لواء "ههاريهم" الذي سيلحق بقيادة الفرقة رقم 210 المذكورة أعلاه، على أن يجري استبداله بأحد ألوية تلك الفرقة، اللواء "حيرمون 810"، بحسب "جيروزاليم بوست" في 21/3/2024، والذي ليس من الواضح إن كان سيجري نقل عناصره من القطاع الشمالي أم لا.
المقاومة اللبنانية على الجبهة العسكرية ضمن قواعد الاشتباك
كذلك، ليس من الواضح إن كان ما قصده هاغاري هو نشر 3 فرق إضافية في الشمال، إلى العدد الموجود حالياً، لطمأنة المستعمرين المستوطنين الذين نزحوا عنه إلى أماكن أخرى في فلسطين المحتلة، أم أن ما صرح به كان لذر الرماد في الأعين بشأن العدد الحقيقي لقوات الاحتلال المحتشدة في الشمال.
لكن، إن صح ما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" في 21/11/2023، نقلاً عن مصادر أمنية في المستعمرات الشمالية، من أن الاحتلال حشد 100 ألفٍ من قواته على الحدود الشمالية، وإذا افترضنا أن ما قاله هاغاري لا يمثل تعزيزات إضافية، فإن ذلك يعني وضع ما يعادل 833 جندياً من القوات البرية خلف كل كيلومتر من "الخط الأزرق"، أي 5 جنود في كل 6 أمتار، أو جندي في كل 120 سنتيمتراً من الحدود مع لبنان والجولان.
فإذا أضفنا إلى ذلك كل تقنيات الاستطلاع والمراقبة الجوية والإلكترونية التي يستخف البعض باستهدافها، باعتبارها "حرب استهداف أعمدة" بحسب هؤلاء، وأسلحة الجو والمدفعية والصواريخ وغيرها... فإن ما ينتج من ذلك هو سورٌ بشريٍ وإلكترونيٍ وجويٍ يجعل كل سنتيمتر من تلك الحدود أكثر حدود محروسة في العالم بمقاييس الجيوش النظامية.
كما أنه يجعل قدرة حزب الله وسائر المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين على إطلاق أكثر من 3500 صاروخ باتجاه الأراضي المحتلة منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر، نصرةً للمقاومة في غزة انطلاقاً من جنوب لبنان، و38 صاروخاً انطلاقاً من الأراضي السورية، بحسب هيئة البث الإسرائيلية في 20/3/2024، عملاً إعجازياً ما كان من الممكن أن يتحقق لولا النزعة الاستشهادية في صفوف مقاتلي المقاومة.
من الطبيعي إذاً، ضمن معادلة من هذا النوع، أقرب إلى حروب المواقع الثابتة في الحرب العالمية الأولى، أن يرتقي أكثر من 230 شهيداً من حزب الله وحده منذ 8 تشرين الأول / أكتوبر حتى 8 آذار / مارس، في حين أن قوات الحزب بنيت كتشكيلات حرب عصابات تعتمد على الكر والفر وسرعة الحركة والكمائن والتسلل والإغارات، أي أننا نواجه هنا نقطة قوة العدو، وهي التحصين الكثيف تقنياً وبشرياً، ونحاول أن نجد ثغرات فيها على خطوط ثابتة، وهو ما فرض على حزب الله أن يرتقي بأدائه إلى مستوى الجيوش النظامية فعلياً، في مقابل أحد أقوى الجيوش النظامية في العالم، وهي تجربة جديدة له أبلى فيها بلاءً حسناً.
كلُ شهيدٍ غالٍ طبعاً، لكن في حرب نظامية أو شبه نظامية من هذا النوع، مع عدوٍ متفوقٍ عدداً وعتاداً وتقنية، وغير متفوق معنوياً أو كفاءةً قتاليةً، فإن 230 شهيداً في 5 أشهر لا يعد رقماً عالياً، على عكس ما يهول به البعض، ولو اندفع العدو الصهيوني في اتجاه لبنان لتغيّر ميزان الخسائر بالضرورة، لأنه سيكشف نقاط ضعفٍ أكبر، وسيواجه نقاط قوة حزب الله.
لا يهم كثيراً إن كان العدو يخفي خسائره الحقيقية هنا، وإن كان عدد قتلاه على الجبهة الشمالية 170 أو 270، لا 17 قتيلاً كما يزعم، وهو يكذب كثيراً كما تدل مؤشرات شتى، ما يهم، بالنسبة إلى المقاومة في غزة، أن المقاومة في لبنان تمكنت من:
أ – تعطيل سيرورة الحياة المدنية والاقتصادية بصورةٍ شبه كاملة شمالي فلسطين المحتلة.
ب – جذب 100 ألف أو أكثر من نخبة قوات العدو بعيداً من غزة، مع ترك خطر توسع الجبهة الشمالية مفتوحاً.
ج – إجبار نحو 100 ألف من المستعمرين المستوطنين على النزوح من الشمال، بحسب "وول ستريت جورنال" في 12/3/2024.
الحرب المقبلة في لبنان إما داخلية أو خارجية
الأهم أن ما تختزنه الجبهة الشمالية من طاقات قتالية وعسكرية وصاروخية يظل أكبر بكثير مما تختزنه غزة، وإذا كان على حزب الله أن يلعب أوراقه عسكرياً بطريقة لا تحمله مسؤولية تدحرج المواجهات إلى حرب كبرى في الداخل اللبناني حرصاً على وحدة الجبهة الداخلية، لا لأنه يخاف مثل تلك الحرب كما يوحي الإعلام المعادي، فإن العلامة الفارقة في المواجهات الأخيرة على الحدود اللبنانية تكمن في أن العدو اتخذ فيها موقفاً دفاعياً تريق ماء وجهه، وأنه أظهر تردداً كبيراً في اجتياح لبنان عسكرياً رداً على استهدافه من جنوبه، على الرغم من كل عنتريات غالانت وهاليفي، وأن ذلك بحد ذاته زاد من أزمة الثقة في قدرة القوات المسلحة للاحتلال على اجتثاث التهديدات الاستراتيجية للكيان الصهيوني، وهي الثقة التي تلقت طعنةً نجلاء في 7 تشرين الأول / أكتوبر، مع العلم أنها أساس "العقد الاجتماعي" الذي بنيت "إسرائيل" عليه.
يمثل التردد الصهيوني هنا اعترافاً بوصول ميزان القوى مع حزب الله إلى مرحلة التوازن الاستراتيجي، ولا بد من التنبه هنا إلى الآتي:
أ – أن المواجهات مع حزب الله في جنوب لبنان وتصاعدها لم تبدأ بعد عملية "طوفان الأقصى"، بل بدأت قبلها بسنة تقريباً، وتذكروا المسيرات والتفجير عند مفترق مجيدو والخيمتين وشمالي قرية الغجر إلخ...
ب – أن جنوب لبنان، على عكس اليمن أو العراق مثلاً، يقع بمحاذاة فلسطين المحتلة مباشرةً، وأن قدرة حزب الله على تنفيذ اختراق أعمق من "طوفان الأقصى" تجعل أعين القيادة العسكرية الصهيونية لا تنام.
ج – أن حزب الله ربط أي تهدئة في جنوب لبنان بوقف إطلاق النار في غزة، واضعاً الملف فعلياً في أيدي قيادة المقاومة في غزة، ومهمشاً جهود هوكشتين والمبادرة الفرنسية، ومؤجلاً ترسيم الحدود البرية مع فلسطين المحتلة.
وإذا كان بقاء القوة العسكرية للمقاومة في غزة لا يتسق مع بقاء "إسرائيل"، فإن بقاء القوة العسكرية الأكبر لحزب الله في لبنان لا يتسق مع بقائها بدرجة أكبر، ولهذا نجد أن أحد أهم مراكز الأبحاث الأميركية، وهو "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" CSIS، وقد نشر ملفاً كبيراً في 21/3/2024 بعنوان "النزاع القادم مع حزب الله" يحذر فيه من وجود إمكانية عالية لاندلاع حربٍ كبرى في لبنان تجعل حرب غزة تبدو كعملية "مسح غبار ثانوية"، ويدعو الإدارة الأميركية إلى ممارسة "الدبلوماسية القسرية" لإجبار حزب الله سياسياً على الانسحاب خلف نهر الليطاني.
ويُذكر أن "معهد دراسات الأمن القومي" في الكيان الصهيوني INSS نشر ملفاً كبيراً أيضاً في 7/3/2021 بعنوان "الحرب المقبلة في الشمال: سيناريوهات، خيارات استراتيجية، وتوصيات لإسرائيل"، لا تبتعد كثيراً عن الاستنتاجات ذاتها.
باختصار، الكيان الصهيوني يواجه استحقاقاً كبيراً على الجبهة الشمالية: إما أن يقضي على المقاومة في لبنان سياسياً، أو عسكرياً، أو بمزيجٍ من الإثنين، وهو لن يستطيع النوم بهدوء، وأن يؤدي دور قوة إقليمية "عظمى" بوجود قوة غير نظامية في لبنان تقزّمه بهذه الصورة المهينة.