في ذكرى "نفق الحرية" نكتب من جديد.. فجرنا سيبزغ عمّا قريب!
جاءت عملية التحرر من سجن جلبوع لتكشف أمام الجميع أن هذا الوحش، كما وصفه قائد عملية "نفق الحرية " محمود العارضة، وحش من ورق، وليس نمراً من فولاذ، كما كان يتصوّر الكثيرون.
كان يبدو صباحاً عادياً، ككل صباحات فلسطين، اصطف فيه العمّال الفلسطينيون الساعون لجمع قُوت عيالهم قرب حاجز بيت حانون، "إيرز"، شمالي قطاع غزة، في انتظار وسيلة النقل التي ستوصلهم إلى اماكن عملهم، لم يكونوا يعلمون في ذلك الوقت بأن حقداً أسود سيكون قادماً إليهم ليسفك دمهم، ويخطف أرواحهم البريئة، التي لم تكن تحمل للعالم إلّا كل خير.
في ذلك الصباح الدامي من شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 1987، قام جندي إسرائيلي مجرم يقود شاحنة بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد خمسة منهم، وإصابة آخرين.
بعد أيام على استشهاد العمّال الخمسة، كتب الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي قصيدة رثاء، عبّر فيها عن حجم الألم الذي أصاب نفوس الفلسطينيين، الذين عمّ الحزن كل حاراتهم وشوارعهم، وأصبح الشهداء المظلومون أبناءً لكل الشعب، وليس فقط لعوائلهم المكلومة والحزينة.
كتب الشقاقي حينها: "كانوا خمسة.. في يد كل منهم منجل.. في يسرى كل منهم قفّة.. كانوا يا أصحابي خمسة.. وقفوا في صفٍّ مكسور.. في أعينهم نامت مدن وبحور.. كانوا خمسة.. في يمنى كل منهم منجل.. في يسرى كل منهم قفّة.. تركوا الدرّاق الأخضر.. قالوا يوماً أو يومين ولا أكثر.. يا عمال بلادي هرمت غابات الزعتر.. وانسكب الزيت وغصن الزيتون تكسّر.. يا قلب الأرض تحجّر.. لا تُزهر أبداً لا تُزهر.. إلا غضباً إلا بركاناً يتفجّر".
أيام قليلة وانفجر البركان الذي بشّر به الشقاقي الشهيد، إذ اندلعت، على إثر هذه الجريمة النكراء، ما اصطلح على تسميته لاحقاً بـ "انتفاضة الحجارة"، والتي عُدَّت محطة مهمة ومفصلية في تاريخ العلاقة بين الشعب الفلسطيني من جهة، والمحتل الإسرائيلي من جهة أخرى، وشكّلت فاصلاً بين مرحلة كان فيها المستوطن الصهيوني يتجوّل في شوارع غزة كأنه في وسط "تل أبيب"، ومرحلة لاحقة أدت، فيما بعد، نتيجة تفاعلات جيوسياسية فارقة، إلى خروج المحتل مندحراً من أراضي القطاع، في سابقة تاريخية أسست حقبة جديدة من تاريخ نضال هذا الشعب البطل.
بعد 34 عاماً تقريباً على مجزرة العمّال، وما نتج منها من انتفاضة شعبية عارمة، أسّست، كما أسلفنا، مرحلة من الصراع المفتوح بين الشعب الفلسطيني، في كل شرائحه، و"دولة" الاحتلال المسلّح بكل ادوات القتل والإجرام، من أخمص قدميه حتى أعلى رأسه، وأسفرت فيما بعد عن هروب المحتل من قطاع غزة، وهو يجر أذيال الخيبة والهزيمة؛ بعد هذه الأعوام الطوال، كان الشعب الفلسطيني على موعد مع إنجاز جديد، حطّم فيه ستة من الأسرى الأبطال أسطورة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ووجّهوا إليها ضربة قاتلة لم تستطع التعافي منها حتى اليوم، وكتبوا أسماءهم بحروف من نور في لوحة الشرف التي لن يطمسها تخاذل البعض، ولن تشوّهها خيانة البعض الآخر.
رسموا بأظفارهم الدامية خريطة فلسطين في باطن الأرض، وعلى فوّهة النفق، وعلى امتداد سهول بيسان، وفي شوارع الناصرة والناعورة، وصولاً إلى جنين الحبيبة، حيث مهوى الفؤاد وطمأنينة القلب.
اليوم، ونحن نعيش الذكرى الثانية للتحرر الكبير من سجن جلبوع، عبر نفق الحرية والانعتاق من الأسر، وفي ظل ما تعيشه الحركة الأسيرة من أوضاع قاسية بفعل سياسات الاحتلال الظالم، ولا سيما في ظل القرارات المجحفة التي أصدرها وزير الأمن القومي المتطرّف، إيتمار بن غفير، والتي تُنذر بانتفاضة شاملة داخل السجون والمعتقلات، يمكن أن يمتد أوارها إلى كل المدن والمخيمات الفلسطينية، وفي ظل التوتّر الذي يحيط بالمشهد الفلسطيني، ولا سيما مع تهديدات قادة الاحتلال باغتيال قادة المقاومة وتصفيتهم؛ في ظل كل ذلك نجد أنفسنا مضّطرين، اضطرارَ المحب والعاشق، لا اضطرارَ المُكره والحاقد، إلى أن نكتب من جديد عن أبطال معركة الحرية الستة، الذين اجترحوا المستحيل، وحققوا الإعجاز، وهدموا، بإصرارهم ومعاولهم البسيطة، جدار السجن والعزل والحرمان.
نكتب من جديد عن محمود، ومحمد، وزكريا، ويعقوب، وأيهم، ونضال، علّنا نوفيهم جزءاً من حقهم، الذي يحاول البعض طمسه، ونسيانه، وتحويله إلى مجرد ذكرى مرّت وانتهت من دون أي مفاعيل، أو نتائج.
وبعيداً عن العاطفة الجيّاشة التي تملأ قلوبنا تجاه الأبطال الستة، وبغض النظر عن الأيام الجميلة التي عشناها، فترةَ انعتاقهم من السجن، وخروجهم إلى الحرية، فإن النظرة المحايدة إلى هذا الفعل المعجِز تضعنا أمام معطيات مهمة، ونتائج مفصلية، يمكن لنا، من دون أيّ تحيّز لهذا الطرف أو ذاك، ان نضعها في خانة الأحداث التاريخية، التي أسست مرحلة جديدة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني، والتي يمكن لها أن تسفر في فترات مقبلة، وبعد البناء عليها، عن نتائج جيواستراتيجية تشبه كثيراً تلك التي نتجت من انتفاضة الحجارة، وما تلاها من أحداث، وصولاً إلى الاندحار الصهيوني من قطاع غزة.
إن عملية الهروب المبدعة من سجن جلبوع، والتي جاءت في فترة زمنية عمّ فيها الهدوء القاتل جغرافيا الضفة المحتلة، في مدنها ومخيماتها وقراها، بفعل القبضة الأمنية المزدوجة، التي فرضت نفسها بشدة على حركة العمل المقاوم هناك، بالإضافة إلى انصراف معظم المواطنين إلى أشغالهم وأعمالهم، التي تم استخدامها في كثير من الأحيان أداةً لابتزازهم والضغط عليهم، أدّت إلى تغيير كثير من المفاهيم، وأفضت إلى تطورات باتت تلقي ظلالها على كل المشهد الفلسطيني، ولا سيما على صعيد المواجهة مع المحتل، والخروج من حالة اليأس والانكسار، اللذين كانا سائدين آنذاك، في اتجاه فعل مقاوم يكاد يشعل الأرض تحت أقدام الغزاة، ويفرض معادلات حقيقية على الأرض وفي الميدان، بعيداً عن النظريات العقيمة، والخطابات الجوفاء.
ويمكن لنا أن نشير في هذا الخصوص بالذات إلى عدة معطيات مرتبطة، بطريقة أو بأخرى، بنتائج عملية "نفق الحرية "، وتُعَد أحد إفرازاتها الطبيعية، سواء عن طريق الإلهام، أو عن طريق التأثير المباشر.
أولاً: إعادة الاعتبار إلى قضية الأسرى:
إن حالة التهميش والنسيان، التي عانتها قضية أكثر من 6000 أسير فلسطيني، يعيشون في ظروف اعتقال غير إنسانية، ويعانون من خلالها ظروفاً صحية ومعيشية غاية في السوء، بالإضافة إلى التعذيب الممنهج الذي يتعرّضون له، سواء في بداية فترة الاعتقال "في أثناء التحقيق"، أو بعد صدور الأحكام "القضائية" المجحفة بحقهم، بحيث إن تلك الفترة كانت تشكّل كابوساً يقض مضاجع كل الأسرى، ويجعل أعوام اعتقالهم مأساة حقيقية بفعل سياسات القمع والإرهاب الصهيونية، وبفعل سياسات القتل البطيء، التي كانت تستهدف حياة كثيرين منهم، ولا سيما أن التضامن معهم حينها كان في أسوأ مراحله، واقتصر في أفضل الأحيان على وقفات وفعاليات تضامنية غير مؤثرة، وربما تحوّلت في بعض الأحيان إلى مناسبة لإلقاء الخطابات ليس أكثر.
هذه الحال تغيّرت بصورة ملحوظة بعد عملية الهروب من جلبوع، إذ عادت الروح من جديد إلى هذه القضية الجامعة، والتي تُعَدّ من المسائل القليلة للأسف الشديد التي يُجمع عليها الفلسطينيون في ظل الانقسام البغيض، الذي ضرب بأطنابه كل مناحي الحياة لديهم.
ليس هذا فحسب، بل سلطت العملية الضوء من جديد على معاناة الأسرى على المستوى العالمي، الذي كان على الدوام يقف إلى جانب وجهة النظر الإسرائيلية، بسبب الدعاية المضادة التي يقوم بها، ومحاولته إظهار الأسرى في صورة "الإرهابيين" و"القتلة". بالإضافة إلى هذا، شهدت قضية الأسرى نقلة نوعية لناحية تعريف العالم بمظلوميتهم، وبحقهم في أن يعامَلوا كأسرى حرب على أقل تقدير، وأن يحصلوا على حقوقهم الكاملة التي نصّت عليها القوانين الدولية ذات الصلة.
ثانياً: إظهار الاحتلال "نمراً من ورق":
لطالما سعت "الدولة" العبرية لإظهار نفسها على أنها تملك من القوة، عسكرياً وأمنياً، ما لم يستطع أحد أن يجابهه أو يتصدى له، وكانت على الدوام ترفع شعار "الجيش الذي لا يُقهَر"، و"الدولة" التي لا تُهزَم.
وعمدت، في كل الأوقات، للإشادة بصورة مبالغ فيها بأجهزتها الأمنية على اختلاف تخصصاتها، ورددت دائماً أن هذه الأجهزة تستطيع، من خلال ما تملكه من إمكانات تكنولوجية، وخبرات عملياتية، التفوّق على كل خصومها، وإيقاع الهزائم بهم في كل الميادين، وفي مختلف الساحات. وساعدت هذه البروباغندا و"أسطرة" اجهزة الدولة وجيشها على تشكيل حالة من الردع لدى أعداء "إسرائيل" في المنطقة، على نحو جعلهم يتحاشون مواجهتها، بل عمدوا إلى تقديم كل ما تطلّب خوفاً من بطشها، وقوة بأسها.
جاءت عملية الهروب من سجن جلبوع، بالإضافة إلى كثير من الأحداث الأخرى، التي كُسرت فيها هيبة "إسرائيل"، وهُزمت فيها جحافل جيشها، لتكشف أمام الجميع أن هذا الوحش، كما وصفه قائد عملية "نفق الحرية " محمود العارضة، وحش من ورق، وليس نمراً من فولاذ، كما كان يتصوّر الكثيرون، وأنه قابل للكسر والهزيمة كلما واجه قوة تحمل عقيدة سليمة، وإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين.
كشفت عملية الهروب من جديد أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق الانتصار على أصحاب المبادئ، وأن البطش والإجرام، اللذين استخدمتهما "دولة" الاحتلال على مدى أكثر من 75 عاماً ضد الشعب الفلسطيني، لم يعودا يُجْدِيان نفعاً، وأن في إمكان أصحاب الحق أن يحققوا عدداً من الإنجازات على رغم ضعفهم، وقلة إمكاناتهم، وتجبّر عدوهم، إذا امتلكوا الإرادة والعزيمة والعنفوان.
ثالثاً: عودة خيار العمل المسلّح من جديد:
بعد عام 2007 تقريباً، انخفضت وتيرة العمل المسلح في الضفة الغربية، سواء عبر عمليات إطلاق النار أو العمليات الاستشهادية في قلب المدن المحتلة، إلى وتيرة منخفضة للغاية، وتراجعت إلى أدنى مستوياتها، ودخلت ساحة الضفة مرحلةً من السبات العميق نتيجة عوامل كثيرة، لا مجال لذكرها في هذه العجالة.
ويبدو أن اشتعال الضفة من جديد، كما نراه الآن، كان في حاجة إلى حدث ملهم، أو شخصيات ذات كاريزما خاصة، بحيث إنه، بعد عملية الهروب من جلبوع بأيام قليلة، أطلق الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، القائد زياد النخالة، لقب "كتيبة جنين" على أبطال الهروب الكبير، فيما يبدو أنه كان إشارة الانطلاق لعودة العمل المسلح المنظم والنوعي من جديد إلى ساحة الضفة، بحيث اُعلن، بعد أقل من شهرين من هذه التسمية، انطلاقَ "كتيبة جنين " التابعة لسرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد، والتي بدت وحيدة مدةً ليست بالقصيرة في ميدان القتال، تنافح عن مخيمها عبر إمكانات متواضعة وبسيطة، مقدمة مؤسِّسها الأول الشهيد جميل العمّوري شهيداً على مذبح الحرية والاستقلال، ولحق به العشرات من أبطال الكتيبة بين شهيد وجريح وأسير.
هذه الكتيبة، التي استلهمت تجربة محمود العارضة وإخوانه، تمدَّدت يوماً بعد يوم، وانضم إليها مقاتلون من كل الفصائل، ثم انتقلت من تلك البقعة الصغيرة في مخيم جنين لتصل إلى طوباس ونابلس وطولكرم وعقبة جبر وغيرها، وتبعها في ذلك كثير من الكتائب الأخرى، من فصائل العمل الوطني والعمل الإسلامي.
هذه التجربة، التي اخذت تنمو وتكبر حتى أصبحت تتحدى المحتل في معظم ساحات الضفة، وتخرج له من بين أزقة المخيمات لتفجّر آلياته، وتقتل جنود نخبته، كان الفضل فيها، بعد الله، لأبطال "كتيبة الحرية "، والذين تحوّلوا إلى مصدر إلهام لكل الشعب، في كل شرائحه وأطيافه وتوجهاته.
ختاماً، نقول إنه، بعد عامين من الانعتاق من قيد الأسر والسجّان في جلبوع، وعلى رغم التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني، في كل المستويات، فإن النور الذي سطع فجر السادس من أيلول/سبتمبر 2021 ما زال ساطعاً في الأفق، ينير للسائرين في قوافل نحو الحرية طريقَهم، ويهديهم إلى سواء السبيل على رغم كل المعوّقات والصعوبات.
ما زال الأمل، الذي أشعله في صدورنا أبطال جنين الثورة، وعمالقة الصبر والصمود في معتقلات العدو، يعطينا مزيداً من الثقة بالنفس وبالمستقبل المقبل، وبأن الأفضل لم يأتِ بعدُ، وأن هذا الليل البهيم سينجلي عما قريب، يُشرق بعده فجر الحرية، على الأسرى والمسرى وكل ربوع فلسطين.
موعدنا مع الحرية، التي دفع الشيخ خضر عدنان دمه ثمناً لها، وقدّم القائد طارق عز الدين جسده، رفقةَ أبنائه الصغار، على مذبحها. موعدنا مع النصر المؤكّد، والذي ننتظره بكل شغف، ونترقّبه بكل شوق.