عوائق جديّة في دروب مبادرة "الحزام والطريق" الصينية
منذ أن انطلق بلغ مشروع "الحزام والطريق" شأناً عظيماً، ولكن نُشرت مؤخراً سلسلة من التقارير والتحليلات الغربية التي تتحدث عن بداية أفوله على خلفية أزمة أوكرانيا، واصطفاف الصين مع روسيا، والعقوبات الغربية على الأخيرة.
ليست حدثاً مستجداً أو خبراً عاجلاً، إنما مصنعٌ للأحداث المستجدة. إنها مبادرة "حزام واحد وطريق واحد" الصينية التي انطلقت على لسان الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال زيارة رسمية إلى كازاخستان، ذلك البلد الأوراسي، عام 2013، لتصبح رسمياً المحور المركزي للسياسة الخارجية الصينية.
بلغ مشروع "الحزام والطريق" شأناً عظيماً منذ أن انطلق، ولكن نُشرت مؤخراً سلسلة من التقارير والتحليلات الغربية التي تتحدث عن بداية أفوله على خلفية أزمة أوكرانيا، واصطفاف الصين مع روسيا، والعقوبات الغربية على الأخيرة، فيما يعدّ خط سكك الحديد الذي يمرّ عبر روسيا وبيلاروسيا الشريان الأهم الذي كانت تمر عبره 90% من الصادرات الصينية إلى أوروبا قبل العقوبات على روسيا.
كما أنَّ بولندا كان يفترض أن تصبح بؤرة مركزيةً لمشروع "الحزام والطريق"، وأوروبا على مسار تصادمي فيما يتعلق بتايوان التي يعزز الأوروبيون علاقاتهم معها. وفي الآونة الأخيرة، قطعت العلاقات التجارية بين ليتوانيا والصين بعد افتتاح سفارة غير رسمية لتايوان في ليتوانيا. وقد دعم الاتحاد الأوروبي ليتوانيا في هذا الصراع. ولا يبدو أنَّ التصعيد سيتوقف عند هذا الحد، لأنَّ الدول الأوروبية راحت تعزز علاقاتها مع تايوان.
يُشار إلى أنَّ أوروبا ذاتها تثبت، من خلال فرض عقوبات على الصين بذريعة الإيغور، وتجميد إقرار اتفاقها الاستثماري الشامل مع الصين، الذي جرى التوصل إليه بعد 7 سنوات من التفاوض في كانون الأول/ديسمبر عام 2020، والذي قدمت فيه الصين تنازلات كبيرة لخطب ود أوروبا، أنها تضع استراتيجية أمنها القومي فوق أولوية رفاهيتها الاقتصادية، على النقيض من خطابها الليبرالي المعولم الذي دأب على تقديم التجارة والاستثمار غير المقيدين بساطاً سحرياً لنشر "السلام العالمي"، وهي نقطة نوردها لعناية المروجين للتطبيع مع العدو الصهيوني في بلادنا كمدخلٍ مزعومٍ للرفاهية الاقتصادية ثبت سقوطه المريع في تجربة عقود من المعاهدات والتطبيع بعد سقوطه مبدئياً.
حول أهمية أوروبا كسوقٍ للصادرات الصينية
تحولت الصين خلال عامي 2020 و2021 إلى المصدر الرئيس للواردات الأوروبية، لتحل محل الولايات المتحدة، فأوروبا هي الجائزة الكبرى لشبكة "الحزام والطريق" ومصب تاريخ الحرير القديم الذي يبدأ من شرق الصين. وقد زودت الصينُ الاتحادَ الأوروبي بأكثر من 557 مليار دولار من الواردات، تمثل 23% من مجموع وارداته عام 2021، تليها الولايات المتحدة بنسبة 11%.
إن الدول الأوروبية غير المنضوية في الاتحاد الأوروبي أيضاً لا تخرج كثيراً عن ذلك النمط، بل تضيف إليه، فالصين كانت المصدر الرئيس للواردات البريطانية عام 2021، بقيمة تزيد على 91 مليار دولار أميركي، تمثل أكثر من 13% من مجموع الواردات البريطانية، تليها ألمانيا، ثم الولايات المتحدة.
وكانت الصين المصدر الرئيس للواردات النرويجية عام 2021، بقيمة تزيد على 13 مليار دولار، تمثل 13% من الواردات النرويجية، تليها السويد، ثم ألمانيا، ثم الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك نحو 20 مليار دولار من الواردات الصينية إلى سويسرا، غير المنضوية في الاتحاد الأوروبي أيضاً، ولو أن الصين جاءت في المرتبة الخامسة بين قائمة الدول التي تستورد سويسرا منها عام 2021.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية هي أكبر مستورد في العالم، فإن الصين هي أكبر مصدِّر في العالم. بلغت صادرات الصين السلعية أكثر من 3 تريليون دولار عام 2021، وبلغت أكثر من 1.73 تريليون في الأشهر الستة الأولى من عام 2022، ما يعني أنها ما برحت تتصاعد بشكل رهيب، إذا استمر معدل نمو الصادرات الصينية بالمعدل ذاته، وضربنا الرقم باثنين، لنحصل على تقدير متحفظ جداً لصادرات الصين عام 2022، يقارب 3.5 تريليون دولار.
ربما تكون الولايات المتحدة التي استوردت أكثر من 577 مليار دولار من البضائع من الصين عام 2021 هي بحيرة المصب الأكبر للصادرات الصينية، لكن هذا ليس دقيقاً، فإذا جمعنا الصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبي مع الصادرات الصينية إلى كلٍ من بريطانيا والنرويج وسويسرا، نجد أنها تعادل 681 مليار دولار عام 2021، وهو ما يفوق الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأميركية بأكثر من 100 مليار دولار.
لكنْ على الرغم من أهمية السوق الأوروبية بالنسبة إلى الصين، فإنها تأتي في المقام الثاني بعد السوق الآسيوية ككل، التي أرسلت إليها الصين نحو 46% من صادراتها عام 2021، وهو الاتجاه الذي لا بد من أن يتعزز مع تزايد القيود على الصادرات الصينية إلى كلٍ من أوروبا وأميركا الشمالية، إنما ليس بعد، لأن الصادرات الصينية إليهما ازدادت في النصف الأول من العام الجاري، ولو أن الزيادة في التصدير إلى الدول الآسيوية كانت أكبر.
يُذكر أن تقارير أميركية توقعت انخفاض الصادرات الصينية إلى أوروبا بنسبة 35%، ومنها مثلاً "مركز التحاليل البحرية" (CNA)، التابع رسمياً لقسم البحرية في البنتاغون، في تقريرٍ له في 9/5/2022، كما يُذكر أن أهمية أوروبا للصين لا تقتصر على العلاقات التجارية، لأن أوروبا هي بديل الولايات المتحدة في التكنولوجيا المتقدمة، مع تزايد القيود الأميركية على تصديرها إلى الصين.
مبادرة "الحزام والطريق"
المعلومات المتوفرة بالعربية عن مبادرة "الحزام والطريق" ليست وافية للأسف، فهي إما مبتسرة، وإما موسعة أكثر من اللزوم، وإما معروضة من منظور غير صيني، فيما يتسرب الكثير من المواد المعادية للمبادرة وللصين عبر الإعلام الناطق بالعربية.
ومن البديهي أن تكون الرؤية الغربية للمبادرة الصينية معادية بشدة وتحريضية، وأن تحاول تقديمها لشعوب جنوب الكرة الأرضية وشرقها كـ"مشروع إمبريالي صيني"، أو كـ"استعمار جديد" بأدوات ناعمة.
وانظروا من المتحدث، وكيف يهذر عن الإمبريالية والاستعمار، وكيف يزعم تبني قضايا الشعوب في مواجهتهما: إنه ليس سوى الغرب، بسجله الدموي ذاته وتاريخه الاستعماري المعروف، من أميركا الجنوبية إلى شبه الجزيرة الكورية إلى فيتنام، ومن أستراليا، التي أبيد فيها السكان الأصليون، إلى الجزائر وفلسطين والعراق وغيرها من الأقطار العربية، ومن جنوب أفريقيا إلى روسيا، التي حاول نابليون احتلالها في القرن الـ19، وهتلر في القرن الـ20، والتي ما برح الناتو في القرن الـ21 يحاول تطويقها ومحاصرتها وتفكيكها.
يمكن بسهولة إيجاد مادة في شبكة الإنترنت بعنوان "حزام وطريق واحد: مبادرة صينية لقلب ميزان القوى العالمي"، نشرتها قبل 4 أعوام، تتضمّن ملخصاً قصيراً نسبياً لماهية المبادرة الصينية وأبعادها الاقتصادية والجغرافية - السياسية، لمن يرغب.
إن جوهر مبادرة "الحزام والطريق" باختصار أكبر هو تأسيس بنية تحتية عملاقة تتألف من شبكات سكك حديد وطرقات واتصالات ومحطات توليد طاقة وأنابيب وموانئ ومطارات وسدود وأنفاق وجسور وناطحات سحاب وغيرها من الإنشاءات التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ حجماً واتساعاً، من أجل ربط البلدان المشاركة في المبادرة بشبكة مركزية من سكك الحديد، أو بشبكة مركزية بحرية، أو بكليهما.
ويؤدّي إنشاء مثل هاتين الشبكتين إلى زيادة وتيرة التواصل، ولا سيما تجارياً، إلى مستويات متأجّجة تخلق مجالاً حيوياً أوراسياً متماسكاً، وجسوراً رحبةً باتجاه أفريقيا وأميركا اللاتينية، ونقلةً نوعيةً في ميزان القوى الاقتصادي والسياسي العالمي لمصلحة الشرق على حساب الغرب.
الخاسر الأكبر طبعاً هو منظومة الهيمنة الغربية، مع أنَّ المبادرة لا تستثني أوروبا ذاتها على العكس تماماً، فالخاسر الأكبر حقاً هو منظومة الهيمنة الأميركية، ولو أن أوروبا ستفقد شيئاً من نفوذها العالمي في ظل المبادرة التي يفترض في الآن عينه أن تحسن وضعها اقتصادياً.
من هنا، يرى تيار كامل في الإدارة الأميركية، كانت تمثله إدارة ترامب، أن المشروع الصيني أكثر خطراً على الهيمنة الأميركية من المشروع الروسي.
نقاط التقاطع عربياً مع مبادرة "الحزام والطريق"
لا بدّ إذاً من بسط نقاط التقاطع عربياً مع مبادرة "الحزام والطريق"، ومنها:
1 - فوائدها التنموية الطويلة المدى لجنوب الكرة الأرضية وشرقها.
2 – دورها في مركزة النشاط الاقتصادي العالمي في أوراسيا.
3 – إسهامها في إنشاء بنية تحتية لنظام اقتصادي عالمي بديل.
4 – أهميتها في إنتاج عالم متعدد الأقطاب، ما يخلق بيئةً أفضل لحركات التحرر القومي، وللحفاظ على سيادة الدول غير العظمى واستقلالها.
5 – ترجيحها وزن الأقطار العربية الجغرافي - السياسي، لا سيما العراق وسوريا ومصر، خصوصاً بعد تشديد العقوبات الغربية على روسيا وبيلاروسيا.
ولا يخرج اهتمام الصين المتزايد مؤخراً بإيران والأقطار العربية، وسوريا تحديداً، عن سياق تعزيز المسار الجنوبي للحزام البري الصيني المتوجه غرباً نحو أوروبا، برياً عبر سوريا، وبحرياً عبر قناة السويس، وجنوباً نحو أفريقيا براً وبحراً.
وتزداد أهمية الوطن العربي في المبادرة الصينية من المنظور الجغرافي - السياسي بمقدار ما تجنح أوروبا إلى تغليب نزوعها الأيديولوجي على مصالحها الاقتصادية الآنية، على الرغم من كل محاولات الصين لاستدراجها خارج الإطار الأميركي، لأن رهانها على استمالة أوروبا اقتصادياً اصطدم بواقع جغرافي - سياسي وأيديولوجي يكذّب ما تزعمه أوروبا عن نفسها، فلا يبقى للصين (وروسيا) خيار فعلياً إذاً إلا التفكير جدياً في التوجه جنوباً وشرقاً، وإسقاط رهانهما الاستراتيجي على الغرب كله، وذلك هو المبتدأ الحقيقي لخبر النظام الاقتصادي العالمي البديل.
هذه، بالمناسبة، ليست نقطة أيديولوجية، بل ملاحظة جغرافية - سياسية، فخط آسيا الوسطى - بحر قزوين – إيران - تركيا هو الخط الصيني البديل من خط روسيا وبيلاروسيا وأوروبا الشرقية إلى أوروبا، لكنَّ ذلك الخط الثاني غير قادر أو غير متطور بما فيه الكفاية كي يحمل عبء التجارة الصينية مع أوروبا. لذلك، فإن الخط الصيني البديل إلى أوروبا يصبح الخط البحري، من ميناء غوادر (البعض يكتبها جوادر أو قوادار) في باكستان، إلى بحر العرب، ثم البحر الأحمر، ثم قناة السويس، فالمتوسط.
وما لم تقيّد أوروبا تجارتها مع الصين، سيكتسب المسار الصيني البري والبحري الجنوبي إلى أوروبا، عبر تركيا، أهمية جغرافية - سياسية أكبر. وفي حال قيّدت تجارتها معها، تقل أهمية تركيا، وينتقل ثقل الجغرافيا السياسية جنوباً نحو الوطن العربي، كمعبر بري وبحري إلى أفريقيا والبحر المتوسط والمحيط الأطلسي.
يُذكر أنّ "طريق الحرير"، الذي يستند مشروع "الحزام والطريق" الصيني إلى إرثه التاريخي، استمر من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن الخامس عشر ميلادي، عبر الطاعون الأسود وغزوات المغول والتتر، ولم ينقطع حتى بروز داء أشد بلاءً من الطاعون والتتر والمغول، هو الاحتلال العثماني، الحد الفاصل بين العرب وأوروبا حضارياً، وهو درسٌ تاريخيٌ لا بد من أن الصينيين يعرفونه جيداً، فمتى نتعلّمه نحن؟
الهند: العدو اللدود الآخر لمبادرة "الحزام والطريق"
يمثل مرفأ غوادر الباكستاني، المشيَّد والمدار صينياً، مشكلة هندية وإماراتية في آنٍ واحد، لأنه يحول باكستان إلى محور مركزي للتجارة الدولية. من هنا، اندفعت الهند منذ عام 2016 لتطوير مرفأ شابَهار في إيران كمنافس لمرفأ غوادر. وقد تلقى مرفأ شابهار إعفاءً من العقوبات الأميركية من طرف إدارة ترامب، بذريعة فائدته بالنسبة إلى أفغانستان، لكن القصة الحقيقية هي تقويض مشروع "الحزام والطريق" الصيني طبعاً.
يبعد المرفآن عن بعضهما بعضاً 70 كيلومتراً، وثمة منافسة ضارية منذ سنوات بين الهند والصين على استمالة إيران، وهي تتدلل على كليهما طبعاً، وصفقة الـ400 مليار دولار بين الصين وإيران على مدى 25 عاماً لا تخرج عن ذلك السياق.
كذلك، لا يغيب عن أيّ محلل جغرافي - سياسي حصيف أن سعي الإمارات للسيطرة على ميناء عدن، واليمن الجنوبي إجمالاً، هو جزء من السياق ذاته، لأن مصلحتها تكمن في السيطرة على الطريق إلى البحر الأحمر، لا سيما أن ميناء دبي ستقل أهميته بالضرورة في الخطوط البحرية الجديدة، فيما ستزداد الأهمية الاستراتيجية لميناء عدن الذي يقع عند مدخل البحر الأحمر، وجزيرة سقطرى اليمنية التي تقع عند فم خليج عدن، كما يستطيع أن يلاحظ من ينظر إلى الخريطة. من هنا، كان وضع الإمارات يدها عليها وإقامة قاعدة مراقبة صهيونية فيها.
يقع ميناء غوادر جنوبي إقليم بلوشستان في باكستان، وهو البوابة البحرية للممر الباكستاني لمشروع "الحزام والطريق" الصيني على أفريقيا، وعلى الخليج العربي وقناة السويس، وهذا مهم، لأن أكثر من 80% من التجارة الدولية في كوكب الأرض ما برح يجري عن طريق البحر، أي أن الطريق البحري هو البديل المنطقي للحزام البري إذا تعطل، لكنْ ثمة جهود كبيرة تُبذل لتعطيل الطريق البحري أيضاً.
باكستان، التي استثمرت الصين أكثر من 60 مليار دولار في مشاريع بنيتها التحتية، يفترض أنها درة مشروع "الحزام والطريق" ونموذجه المثالي الذي أرادت الصين تصديره إلى شرق الكرة الأرضية وجنوبها، غير أن في بلوشستان حركة انفصالية قوية استهدفت الاستثمارات الصينية في سلسلة تظاهرات احتجاجية متكررة وواسعة النطاق بدأت عام 2016، وتصاعدت منذ صيف عام 2021. ويزعم الخطاب الربيعي المألوف أن ذلك لا علاقة له بأي أبعاد استراتيجية ودولية، إنما بمطالب محقة للمتظاهرين طبعاً.
اغتال الانفصاليون 3 أكاديميين صينيين في كراتشي، جنوب باكستان، في تفجير انتحاري في نيسان/أبريل الفائت، وكان ذلك الحلقة الأخيرة في سلسلة استهدافات إرهابية للصينيين في باكستان من طرف الحركة الانفصالية، وعلى رأسها "جيش تحرير البلوش" الذي يزعم أنه ماركسي التوجه، ومن طرف الجماعات الإرهابية التي تزعم أنها إسلامية، في آنٍ واحد. ومن الواضح أن مثل هذا الاستهداف المزدوج للصين واستثماراتها في باكستان يدفع إلى التساؤل: من هو صاحب المصلحة؟
على الهامش، نذكر أنَّ الصينيين الثلاثة الذين اغتيلوا قبل أسابيع في كراتشي كانوا مرتبطين بمعهد كونفوشيوس. هذا المعهد قصة بحد ذاته، فهو عبارة عن مئات المراكز الثقافية الصينية المنتشرة في العالم لتعليم اللغة والحضارة الصينية. وقد أنفقت الصين عليه 10 مليارات من الدولارات عام 2019 وحده (ما قبل كوفيد 19).
استهدف المشرعون الأميركيون معاهد كونفوشيوس بسلسلة من القيود (أما المراكز الثقافية الأميركية والأوروبية، فحلالٌ زلال طبعاً، ومن يقيدها في بلده مجرمٌ بحق "حقوق الإنسان والديمقراطية"...). هذه المعاهد انطلقت عام 2004، وهي تمثل فعلياً الظهير الثقافي لمبادرة "الحزام والطريق" التي انطلقت عام 2013. لذلك، إنَّ استهداف الأكاديميين الصينيين الثلاثة المرتبطين بمعهد كونفوشيوس في كراتشي، في الجهة المقابلة لميناء غوادر، يمكن أن يكون أي شيء سوى أنه "عشوائي".
تتهم باكستان الهندَ بدعم الانفصاليين البلوش، على الرغم من أن "جيش تحرير البلوش" مدرج في قائمة الإرهاب الأميركية، لكن من الذي يحرك الإرهابيين ذوي التوجه الإسلامي ضد الصينيين في باكستان يا ترى؟ ولا داعي للتساؤل عمن يدعم الحركة الانفصالية والإرهابيين في منطقة جينجيانغ الصينية المتصلة مباشرة بباكستان!
الدافع إلى كتابة هذا المقال هو وقوعي على فيديو لصحافي هندي معروف، في قناة "Crux" في يوتيوب، يزعم قرب نهاية مشروع "الحزام والطريق" الصيني بسبب الصراع في أوكرانيا، ولا سيما أن الشحن من الصين إلى أوروبا يعتمد في جزءٍ منه على "الجسر البري الأوراسي الجديد" الروسي، الذي يمر من كازاخستان إلى روسيا وبيلاروسيا، والخاضع للعقوبات الغربية.
في الحقيقة، إن الهند تخوض حرباً عالمية ضد مشروع "الحزام والطريق"، على الرغم من انتماء الهند والصين إلى منظومة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، لكن في الجغرافيا السياسية، وفي الوعاء الآسيوي، إذا ازداد وزن الصين، فإن ذلك سيقلل الوزن النسبي للهند، وهو ما لا يمكن أن تسمح به الأخيرة عندما تشاهد صعود الصين الصاروخي. لذلك، توازن الهند علاقاتها بروسيا والولايات المتحدة، في مسعى لاحتواء الصين استراتيجياً.
تؤدّي الهند دوراً عالمياً في تقويض مشروعية مبادرة "الحزام والطريق" إعلامياً، كما في الفيديو المذكور أعلاه، في قناة "Crux"، ولا سيما أن اللغة الإنكليزية لسانٌ شبه أصيل بالنسبة إلى الهنود. ثقافياً، تروج لمصطلح "دبلوماسية فخ الدين" (Debt-trap diplomacy)، الذي أطلقه المنظر الاستراتيجي الهندي براهما تشيلاني عام 2017، لوصف القروض الضخمة التي تقدمها الصين للدول المنضوية في مبادرة "الحزام والطريق" لتشييد بنيتها التحتية، زاعماً أن تلك القروض هي مدخل لفقدان السيادة الوطنية للاستعمار الصيني الجديد، وهي عملية "نسخ ولصق" تامة من أدبيات حركة عدم الانحياز وحركات التحرر في خمسينيات القرن العشرين وستينياته.
ومن البديهي أنَّ وسائل الإعلام والدوائر الأكاديمية والاستخبارية الغربية سارعت إلى نشر ذلك المصطلح على أوسع نطاق ممكن، من أجل بناء جدار عداء أيديولوجي في جنوب الكرة الأرضية وشرقها إزاء مبادرة "الحزام والطريق".
خطوط بديلة عدوة وصديقة لمبادرة "الحزام والطريق"
لكنّ الغرب لم يقتصر على الأيديولوجيا والإعلام والتخريب والعقوبات في تقطيع أوصال مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، إذ أطلق مجموعة من المبادرات الموازية والبديلة لها. هناك مثلاً مبادرة "البوابة العالمية" (Global Gateway) التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في نهاية عام 2021، راصداً لها 300 مليار يورو، وهناك "شبكة النقطة الزرقاء" (Blue Dot Network) التي أطلقتها الولايات المتحدة واليابان وأستراليا في خريف عام 2019، بموازنة مقدارها 60 مليار دولار.
وفي اجتماع مجموعة السّبعة في صيف عام 2021، تم تطوير تلك المبادرة إلى مبادرة أوسع بعنوان "إعادة بناء عالم أفضل" (Build Back Better World)، تبنّتها المنظومة الغربية ككل. وهناك مبادرة "الاستثمار النوعي في البنية التحتية" التي أطلقتها اليابان، بالتعاون مع بنك التنمية الآسيوي، منذ عام 2015، بموازنة مقدارها 110 مليارات دولار.
وهناك أيضاً المشروع الحليف - المنافس، الأخطر والأقدم من كلّ المشاريع الغربية، ومن مبادرة "الحزام والطريق" ذاتها، وهو "ممر شمال-جنوب للنقل الدولي"، الذي يربط الهند بإيران وآسيا الوسطى وروسيا وأوروبا، والذي بدأ العمل على إنشائه قبل 10 أعوام من مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، وهو يهمّش الصين تماماً.
ويتضمّن المشروع الهندي الإيراني الروسي مسارين؛ أولهما بري، والآخر بحري. وتعد نقطة انطلاقهما مرفأ جواهر لال نهرو في مومباي في الهند على بحر العرب.
يحطّ المسار الأول في مرفأ شابهار الإيراني، الذي سبق الحديث عن أهميته بالنسبة إلى الهند، ليجري براً بعدها، عبر إيران، إلى آسيا الوسطى وروسيا. ولا شكّ في أن هذا المسار محكومٌ بالتراجع مع تزايد العقوبات على روسيا. أما المسار الآخر، فيذهب بحراً من مرفأ مومباي إلى خليج عدن، فالبحر الأحمر، فقناة السويس، فالبحر المتوسط، فإما إلى موانئ أوروبا الجنوبية وإما إلى مضيق جبل الطارق، ليلتفّ شمالاً بعدها باتجاه بريطانيا، ثم إلى سواحل أوروبا الشمالية عبر بحر الشمال، ثم إلى أقصى شرق بحر البلطيق، حيث ميناء سان بطرسبورغ الروسي، ومن ثم إلى روسيا براً، لتُغلَق بذلك دائرة "ممر شمال-جنوب للنقل الدولي". ومن البديهي أنَّ وضع اليد على كالينينغراد يغلق الطريق إلى سان بطرسبورغ.
وبمقدار ما تزداد أهمية المسار البحري، تزداد أهمية ميناء عدن وقناة السويس، وتتراجع أهمية ميناء دبي، سواءٌ في المسار البحري الصيني أو الهندي.
العبرة هي أن الصين لم يكن أمامها خيارٌ إلا أن تنطلق بمبادرة "الحزام والطريق". ولطالما كانت المبادرة الصينية هي الأكبر والأوسع والأشد تأثيراً عالمياً، في مقابل كل المشاريع المنافسة لها، العدوة والصديقة. وقد حاولت الصين التسلل من دون ضجيج عبر ثنايا شبكة العولمة وثغراتها، ونجحت في ذلك إلى حدٍ بعيد، لكن منظومة الهيمنة الغربية كانت لها بالمرصاد.
ضراوة الصراع اليوم تظهر أن حركة التسلل الصينية انكشفت، ولم تعد قابلة للاستمرار، وأن سعي الصين لتجنب المواجهات بالحكمة وصل إلى نهاياته الجغرافية-السياسية، وهو ما أشرت إليه قبل 3 أعوام في مادة بعنوان "الصراعات المؤجلة التي تنتظر الصين".