خلفيات التوجه الإسرائيلي نحو تسليح أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية
خريطة توزيع العقود التسليحية التي أبرمتها "تل أبيب" العام الماضي، تلقي مزيداً من الضوء على الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية، في ما يتعلق بـصناعاتها العسكرية.
تحث "إسرائيل" الخطى بشكل واضح نحو أسواق جديدة لسلاحها، في محاولة لاستغلال بعض المستجدات الإقليمية والدولية، بحيث تكون هذه المستجدات بمنزلة نقطة ارتكاز يمكن من خلالها تسويق المنتجات العسكرية الإسرائيلية، خاصة على مستوى القدرات الجوية والتقنيات الرادارية والإلكترونية.
الخطوات الإسرائيلية في هذا الإطار باتت تركز بشكل لافت على منطقة جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية، بجانب بعض دول الشرق الأوسط، والقارة الأوروبية بشكل عام، وخاصة أوروبا الشرقية، التي دخلت معظم دولها في إطار "سباق تسلح" متصاعد على خلفية الوضع الحالي في أوكرانيا.
هذا ربما اتضح بشكل أكبر من خلال الأرقام التي أعلنتها "تل أبيب" منتصف حزيران/يونيو الماضي لصادراتها من الأسلحة والمنظومات القتالية المتنوعة، إذ بلغت القيمة الإجمالية للعقود التسليحية التي أبرمتها "تل أبيب" خلال العام الماضي، قرابة 12.5 مليار دولار، وهي قيمة أعلى من قيمة العقود التي تم توقيعها عام 2021، والبالغة قيمتها الإجمالية 11.4 مليار دولار.
خريطة توزيع العقود التسليحية التي أبرمتها "تل أبيب" العام الماضي، تلقي مزيداً من الضوء على الاستراتيجية الإسرائيلية الحالية في ما يتعلق بـصناعاتها العسكرية.
تطورات لافتة في خريطة الصادرات العسكرية الإسرائيلية ومستواها
وقعت "تل أبيب" مع الدول الشرق أوسطية - المنضوية تحت ما يسمى بـ "الاتفاقات الإبراهيمية" – وهي: المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، على عقود تبلغ قيمتها الإجمالية 2.962 مليار دولار، تمثل ما نسبته 24% من إجمالي العقود التسليحية الإسرائيلية خلال العام المنصرم، مقابل نسبة 7% فقط حازتها العقود المبرمة بين "تل أبيب" وهذه الدول خلال عام 2021، وبلغت قيمتها في ذلك التوقيت قرابة 853 مليون دولار.
الزيادة اللافتة في قيمة العقود العسكرية بين "تل أبيب" وهذه الدول، صاحبتها زيادة مماثلة في قيمة العقود الإسرائيلية المبرمة مع دول أميركا اللاتينية وأوروبا وأفريقيا، مقابل انخفاض طفيف في العقود الموقعة مع دول آسيا وأميركا الشمالية. فقد بلغت قيمة العقود الموقعة بين الشركات العسكرية الإسرائيلية والدول الأوروبية خلال العام المنصرم، نحو 3 مليار و670 مليون دولار، لتشكل نحو 71% من إجمالي العقود العسكرية الإسرائيلية، مقابل 2 مليار و955 مليون دولار، قيمة العقود العسكرية التي وقعها كلا الجانبين خلال عام 2021.
كذلك بلغت قيمة عقود الأسلحة الإسرائيلية مع دول أميركا اللاتينية خلال العام المنصرم، نحو 381 مليون دولار، بزيادة تقارب 40 مليون دولار عن عام 2021، في حين ارتفعت قيمة العقود الموقعة بين هذه الشركات والدول الأفريقية خلال العام المنصرم بنحو مليون دولار، لتصل إلى 344 مليون دولار.
في حين بلغت قيمة العقود العسكرية الموقعة بين "تل أبيب" والدول الآسيوية نحو 3 مليار و795 مليون دولار، بانخفاض طفيف قدره 15 مليون دولار عن أرقام عام 2021، وهو الوضع نفسه في ما يتعلق بالعقود الموجهة لدول أميركا الشمالية، التي بلغت قيمتها ملياراً و405 مليون دولار، مقارنة بنحو مليار و412 مليون دولار خلال عام 2021.
النقطة الثانية الأكثر لفتاً للانتباه في ما يتعلق بالصادرات العسكرية الإسرائيلية، ترتبط بأنواع الأنظمة العسكرية الأكثر تصديراً ضمن هذه الصادرات، إذ تصدرت الوسائط الجوية المسيرة هذه الأنظمة، بما تصل نسبته إلى 25% من إجمالي الصادرات العسكرية الإسرائيلية، في حين حلت أنظمة الدفاع الجوي في المرتبة الثانية، بنسبة 19% من إجمالي الصادرات، علماً أن هذه النسبة يمكن أن تصل إلى 32% إذا ما أضفنا إلى هذا الرقم العقود الخاصة بأنظمة الرادار والحرب الإلكترونية، والتي بلغت نسبتها من إجمالي الصادرات 13%.
تأتي محطات الأسلحة المتحكم بها عن بعد وعربات القتال المدرعة، وأنظمة الاتصالات والحرب السيبرانية، والمركبات المدرعة والطائرات المقاتلة وأنظمة الاستطلاع والملاحة، والذخائر والقذائف الصاروخية، في المراتب التالية لهذه الأنظمة ضمن إجمالي الصادرات الإسرائيلية، ومن هنا يمكن القول إن الأنظمة المسيرة وأنظمة الدفاع الجوي، تعدّ عملياً جوهر الصادرات العسكرية الإسرائيلية بشكل عام.
الدفاعات الجوية بند رئيسي في صادرات "تل أبيب"
يتضح مما سبق مدى تأثير مجريات المعارك في أوكرانيا في استراتيجية الدول الأوروبية لتحديث تسليحها، وهو ما استفادت منه "تل أبيب"، بشكل أو بآخر، إذ كثفت من جهودها التسويقية في مجال الدفاعات الجوية والصاروخية، وهو ما أثمر عن توقيعها عقدين أساسيين مع كل من ألمانيا وفنلندا التي انضمت مؤخراً إلى حلف شمالي الأطلسي.
وأعلنت وزارة دفاع فنلندا مؤخراً عن إتمام كل التفاصيل الفنية المتعلقة بحيازتها لمنظومة الدفاع الصاروخي بعيدة المدى "مقلاع داوود"، وعلى رأسها الحصول على الموافقة الأميركية على هذه الحيازة، نظراً لأن واشنطن تشارك في إنتاج هذه المنظومة، التي تعد من أحدث المنظومات الدفاعية الإسرائيلية، وكان أعلن عنها عام 2017، نتيجة لتعاون مشترك بين شركة "رافائيل" الإسرائيلية، وشركة "رايثيون" الأميركية، أسفر عن تطوير هذه المنظومة المخصصة للتعامل مع الأهداف الجوية على المديين المتوسط والبعيد. تتميز هذه المنظومة بتزودها بصواريخ اعتراضية تعمل على مرحلتين، ما يتيح لها هامشاً أكبر من المناورة والعمل على ارتفاعات كبيرة.
يتوقع أن تبلغ قيمة هذه الصفقة نحو 350 مليون دولار، وهي تعدّ عملياً العقد التصديري الأول لهذه المنظومة، التي دخلت الخدمة في "الجيش" الإسرائيلي في نيسان/أبريل 2017، وهي مصممة لاعتراض طائرات الجناح الثابت بمختلف أنواعها، والطائرات المسيرة، والصواريخ الباليستية التكتيكية والصواريخ متوسطة وطويلة المدى، والصواريخ الجوالة، بمدى يتراوح بين 40 و300 كيلو متر.
أهمية هذه الصفقة تكمن أيضاً في أنها تتزامن مع صفقة أخرى ينتظر أن توافق عليها الولايات المتحدة الأميركية، وتقضي بتزويد الجيش الألماني بمنظومة "حيتس-3"، وهي المنظومة الثالثة ضمن سلسلة منظومات "حيتس" للدفاع الصاروخي، التي كانت بدايتها منظومة "حيتس-1" بين عامي 1992 و1994، ثم "حيتس-2" بين عامي 1995 و2008، ثم منظومة "حيتس-3"، التي تم الإعلان عنها عام 2008، وأجري عليها في الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" العديد من التجارب منذ عام 2009، وصولاً إلى أحدث تجربة تمت على هذه المنظومة في مطلع العام الجاري، ثم الإعلان عن النسخة الأحدث من هذه المنظومة "حيتس-4"، في شباط/فبراير 2021.
تنتج هذه المنظومة بشكل مشترك شركة الصناعات الجو-الفضائية الإسرائيلية، وشركة "بوينغ" الأميركية، التي تتولى إنتاج الصواريخ الخاصة بها، ويحتوي كل قاذف من قواذف هذه المنظومة، على ستة صواريخ، تستطيع الاشتباك مع الأهداف الجوية على ارتفاعات تصل إلى 100 كيلو متر. وقد وافق البرلمان الألماني مؤخراً على عقد هذه الصفقة البالغة قيمتها الإجمالية نحو 4 مليارات يورو، لتصبح هذه الصفقة عملياً - في حال إتمامها - الأكبر في تاريخ "إسرائيل"، ويفترض أن يتم توقيع العقد النهائي الخاص بها أواخر العام الجاري.
ونبقى مع الدفاعات الجوية، حيث بدأت المملكة المغربية خلال الأسابيع الأخيرة استلام التجهيزات الفنية الخاصة بنظام الدفاع الجوي الإسرائيلي "باراك - إم أكس"، وهو إحدى نسخ منظومات الدفاع الجوي "بارك-8" التي تنتجها شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية بالشراكة مع الهند، وقد تم توقيع العقد الخاص بشراء المملكة المغربية لهذه المنظومة في شباط/فبراير 2022، وبلغت قيمته نحو نصف مليار دولار. تختص هذه المنظومة بالتصدي للتهديدات الجوية كافة، بما في ذلك الصواريخ البحرية، ويصل مداها الأقصى إلى 150 كيلو متراً.
الطائرات من دون طيار، استثمار إسرائيلي طويل الأمد
الطائرات من دون طيار على مختلف أنواعها باتت تعدّ من أهم الصادرات العسكرية الإسرائيلية خلال الأعوام الأخيرة، إذ تصدر الشركات الإسرائيلية الطائرات من دون طيار إلى دول عدة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، مثل طائرات "هيرون" التي تم تصديرها إلى الهند، ناهيك باستيراد أذربيجان ما قيمته 1.6 مليار دولار من الطائرات من دون طيار الإسرائيلية. خلال الأسابيع الماضية، كشفت إستونيا بشكل مفاجئ عن خطة طموحة للتحديث العسكري خلال العامين المقبلين، تتضمن شراء ذخائر مدفعية موجهة وأنظمة مدفعية صاروخية، وأنظمة أخرى للمدفعية ذاتية الحركة، وكان اللافت في هذه الخطة أنها تتضمن شراء عدة أنواع من الذخائر الجوالة، أو ما يُعرف إعلامياً بـ "الطائرات الانتحارية من دون طيار".
رغبة إستونيا في هذا الصدد تتعلق بنوعين من أنجح أنواع الطائرات الإسرائيلية من دون طيار، والتي كان لها أداء ميداني جيد خلال نزاعات عسكرية سابقة مثل المواجهات بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ، وهما الذخائر الجوالة "هاروب" و"هاربي"، وتنتجهما شركة الصناعات الجو-الفضائية الإسرائيلية، ويتوقع أن تصل قيمة هذه الصفقة في حال توقيعها إلى نحو 100 مليون يورو.
تعدّ ذخائر "هاربي" الجوالة من أبرز أنواع الطائرات من دون طيار في الترسانة الإسرائيلية، والتي تم تصميمها بصفة أساسية لمشاغلة ومهاجمة رادارات الدفاع الجوي، ويبلغ مداها الأقصى 500 كيلو متر، وسرعتها القصوى 185 كيلو متراً في الساعة، وزنة رأسها الحربي تبلغ 32 كيلو غراماً. يتم إطلاق هذه الذخائر من شاحنة تحمل ثماني عشرة منصة إطلاق، ويتم إدخال بيانات مسار التحليق والأهداف إليها قبل الانطلاق، ومن ثم تبحث عن أهداف لتدميرها أو يتم تدميرها ذاتياً إن لم تعثر على أهدافها، وقد صدرتها "إسرائيل" إلى عدة دول من بينها الهند والصين وكوريا الجنوبية وتشيلي وتركيا.
تعدّ الذخيرة الجوالة "هاروب" تطويراً لذخائر "هاربي"، وتتميز بمقاومتها للرصد الراداري ولعمليات التشويش، وإمكانية إعادتها مرة أخرى إلى موقع الإطلاق في حال عدم استهدافها لأي أهداف. يتم توجيهها عن طريق التحكم عن بعد أو بتتبع الأشعة المنبعثة من محطات الرادار المعادية، ويبلغ مداها الأقصى 1000 كيلومتر، وتحمل رأساً متفجراً تبلغ زنته 23 كيلو غراماً، ويمكن إطلاقها من الوسائط البحرية كافة أو البرية أو الجوية، وتمتلك هذه الذخيرة كل من تركيا والهند وألمانيا وأذربيجان والمغرب وسنغافورة.
سويسرا، من جانبها، بدأت مؤخراً استلام أول طائرتين من دون طيار من نوع "هيرميس-900"، من أصل ست طائرات تعاقدت على شرائها مع شركة "إلبيت" للأنظمة العسكرية الإسرائيلية، وهو عقد تأخر الجانبين في تنفيذه لأسباب لوجيستية، إذ تم توقيع العقد الخاص بهذه الصفقة عام 2015، ويتوقع أن تدخل الطائرة الثالثة من هذا النوع في الخدمة لدى الجيش السويسري في وقت لاحق من العام الجاري.
تعدّ هذه الطائرة تطويراً لأحدى أهم الطائرات الاستطلاعية من دون طيار في التسليح الإسرائيلي، وهي الطائرة "هيرميس-450"، وتندرج هذه الطائرة تحت قائمة الطائرة متوسطة المدى عالية التحمل، إذ تستطيع التحليق لأكثر من 30 ساعة متواصلة، على ارتفاعات تصل إلى 10 كيلو متر، وتستطيع التزود بمعدات للتصوير والرصد تصل زنتها إلى 300 كيلو غرام، تشمل أجهزة الاستشعار الكهروضوئي والكاميرات الحرارية، ووسائط الحرب الإلكترونية.
هذه الأمثلة من العقود التسليحية، مضافاً إليها أمثلة أوروبية وآسيوية أخرى، مثل العقد الخاص بشراء الفلبين الدبابة الإسرائيلية الخفيفة "سابرا"، الموقع مطلع العام الماضي، والعقدين الهامين اللذين وقعتهما شركة "إلبيت" الإسرائيلية مع وزارة الدفاع الدنماركية في آذار/مارس الماضي، بقيمة إجمالية تصل إلى 252 مليون دولار، لتزويد الجيش الدنماركي بما قوامه كتيبتان من المدافع ذاتية الحركة "أتموس"، وراجمات الصواريخ "بولاس"، يمكن من خلالها ملاحظة تصاعد المساعي الإسرائيلية لفتح الأسواق الآسيوية والأوروبية أمام التسليح الإسرائيلي، انتهازاً للموقف الميداني والاستراتيجي المتوتر في محيط بحر الصين الجنوبي وفي الميدان الأوكراني.