خروج "مينوسما" من مالي: دلالات الخطوة وارتباطها بأوروبا وروسيا
كيف يمكن قراءة انسحاب قوات "مينوسما" من مالي في ظل تدهور العلاقات المالية الأوروبية، واستمرار النظام المالي في فرض قيود تشغيلية على قوات حفظ السلام النشطة في البلاد؟
وافق مجلس الأمن بالإجماع في يوم 30 حزيران/يونيو 2023 على انسحاب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي (United Nations Multidimensional Integrated Stabilization Mission in Mali) أو "مينوسما" باختصار، حيث شهدت مالي منذ عام 2022 عدة تظاهرات للتعبير عن عدم الرضا من هذه القوات.
ومن بين هذه التظاهرات ما وقع في أيار/مايو الماضي والتي نظّمتها "حركة 5 يونيو-تجمّع القوى الوطنية"، التي ينتمي إليها رئيس الوزراء الانتقالي الحالي، شوغويل مايغا، ومنظمات المجتمع المدني الداعمة للحكومة العسكرية الانتقالية، مطالبين فيها بإنهاء مهمة البعثة الأممية، ليتبع ذلك طلب الحكومة رسمياً بالمغادرة الفورية للبعثة من مالي.
فما هي مينوسما؟ وكيف يمكن قراءة انسحابها من مالي في ظل التطورات الأخرى المرتبطة بقوات "فاغنر" الروسية، وتدهور العلاقات المالية الأوروبية، واستمرار النظام المالي في فرض قيود تشغيلية على قوات حفظ السلام النشطة في البلاد؟
بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في مالي
في عام 2012 شهدت مالي أزمة متمرّدي الطوارق الذين يسعون إلى انفصال المنطقة الشمالية من البلاد، وتأسيس ما أطلقوا عليها اسم "أزواد"؛ فتأسست بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) في 25 نيسان/أبريل 2013 بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (قرار رقم 2100)، وذلك بهدف تحقيق الاستقرار عبر دعم القوات الأجنبية والمحلية التي كانت تقاتل المتمردين، إضافة إلى حماية المدنيين وتشجيع الحوار الوطني والمصالحة الوطنية.
وفي 1 تموز/يوليو 2013 نُشِرت مينوسما رسمياً، حيث تولّى 6 آلاف من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مسؤولية تسيير دوريات في شمال البلاد من فرنسا وبعثة الدعم الدولية بقيادة أفريقيا إلى مالي (African-led International Support Mission to Mali) – وهي بعثة تابعة للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) والتي كانت مالي ضمن أعضائها.
اتخذت مينوسما باماكو-عاصمة مالي-مقراً رئيساً لها، وكانت الدول الثلاث الأكثر مساهمة في البعثة هي تشاد وبنغلاديش ومصر. كما تكوّنت البعثة من مجموعة متنوّعة من الأفراد العسكريين والشرطيين والمدنيين من الدول المساهمة. وفي أيار/مايو 2023 كانت البعثة تضمّ نحو 15200 جنديّ في مالي، مما يجعلها واحدة من أكبر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة النشطة في العالم. وقُدّرت أيضاً كثاني أخطر مهمة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في تاريخ المنظّمة-بعد لبنان-لبلوغ قتلى البعثة 304 أشخاص.
وتنبع أهمية مينوسما عند نشرها في مالي أنّ بدء عملياتها تزامن مع فترة أزمات معقّدة نتيجة التوترات الإثنية، وضبابية الوضع السياسي، وتصاعد أنشطة المسلحين ضد الحكومة المركزية في باماكو. ولكن مستوى هذه الأهمية اختفى في السنوات الأخيرة للشعور العام بعدم فاعلية البعثة.
ولعل ما يعضد هذا أنه في عام 2013 رحّب الكثير من الماليين بقدوم مينوسما، ولكنهم في الآونة الأخيرة يرون أن جنودها صاروا عنصراً في أسباب تفاقم الأزمة الأمنية – بدلاً من أن يكونوا عنصراً للحلّ، حيث يتهمونها بالفشل في أهدافها الرئيسة المعلنة عند تأسيسها والمتمثّلة في حماية السكان، هذا إلى جانب الاتهام بتجاهل البعثة وقوع أعمال القتل بالقرب من منشآت الأمم المتحدة في البلاد.
وقد وجدت مينوسما نفسها وسط تطوّرات معقّدة منذ عام 2020؛ إذ وقعت حالات الصدام بينها وبين المجلس العسكري الحاكم في مالي نتيجة تدهور علاقات البلاد مع الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا التي تندّد بسيطرة الجيش على السلطة، وترفض طلب الجيش المالي المساعدة من مجموعة "فاغنر" الروسية لمعالجة الأزمات الأمنية المتفاقمة، والتي كانت من الأسباب الرئيسية للإطاحة بحكومة الرئيس الراحل إبراهيم بوبكر كيتا في آب/أغسطس 2020.
ويضاف إلى ما سبق أن بعض الماليين لم يخفوا فقدانهم الثقة في مينوسما، وخاصة بعدما تصاعدت المخاوف من أنها قد تخدم فرنسا، أو أهداف الدول الغربية الرافضة للمجلس العسكري المالي. ووصلت مينوسما إلى طريق مسدود عندما طالب وزير خارجية مالي عبد الله ديوب في 16 حزيران/يونيو 2023 أمام مجلس الأمن الدولي بالمغادرة الفورية للبعثة، بسبب ما أسماه "الفشل" في تحقيق استقرار الوضع الأمني في البلاد، والتصدّي بفعالية للتمرد المستمر من قبل المسلحين، مشيراً إلى أن وجود البعثة أدى إلى تفاقم الوضع.
وإذا كان السكان في الأجزاء الشمالية والوسطى من مالي يعتمدون على مينوسما للأمن بسبب ضعف الوجود الحكومي وخدماته؛ فإنه بموجب أحكام القرار الأخير لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (قرار رقم2690 ) والذي أُجمِع عليه يوم 30 حزيران/يونيو 2023 يعني أن البعثة بدأت تقليص حجمها بداية من يوم 1 تموز/يوليو 2023، وأنها ستنسحب بالكامل من مالي بحلول 1 كانون الثاني/يناير 2024.
مينوسما وتأزّم علاقات مالي مع أوروبا
تأتي مغادرة مينوسما من مالي بعد سحب فرنسا قواتها في عملية "برخان" (ونقلها إلى النيجر المجاورة) في عام 2022 نتيجة تدهور العلاقات بين الحكومتين المالية والفرنسية في أعقاب انقلابي عامي 2020 و2021. ولا تزال هناك مهمتان دوليتان أخريان في مالي، وهما "بعثة الاتحاد الأوروبي لبناء القدرات في مالي" (EUCAP Sahel Mali) التي بدأت في عام 2014 كمهمة بناء القدرات في إطار سياسة الأمن والدفاع المشتركة (CSDP) للاتحاد الأوروبي، و"بعثة الاتحاد الأوروبي التدريبية في مالي" (European Union Training Mission in Mali) التي لها صلات مع مينوسما وعملية برخان الفرنسية وبعثة الاتحاد الأوروبي لبناء القدرات في مالي. وكل هذه البعثات والمهمات العسكرية مشتركة في الهدف نفسه والذي هو "مساعدة" مالي على تحرير شمال أراضيها وتحقيق الاستقرار.
ويمكن فهم التطوّر الأخير في سياق تدهور علاقات مالي مع فرنسا في أن التوترات التي نشأت بين البعثة الأممية (مينوسما) والمجلس العسكري الحاكم في مالي، مرتبطة بميل مالي إلى الجانب الروسي ومجموعة "فاغنر"، وهو ما أدى إلى خلاف باماكو مع أوروبا بقيادة فرنسا -المستعمر السابق لمالي والتي تنتقد بشدة تعاون المجلس العسكري مع "فاغنر"، وتعزيز العلاقات مع روسيا لحل الأزمة الأمنية في البلاد.
وفي كانون الثاني/يناير من عام 2022 طردت سلطات مالي السفير الفرنسي، كما تزامن ذلك مع الطلب من الدنمارك سحب وحدتها التي وصلت حديثاً إلى البلاد ضمن قوة أوروبية. وفي العام نفسه طردت السلطات المالية المواطن الفرنسي أوليفييه سالغادو الذي كان متحدثاً باسم بعثة الأمم المتحدة (مينوسما)، وأمر باماكو بالتعليق المؤقت لمناوبات مجموعات البعثة بعد تصريحات "سالغادو" الداعمة لـ 49 جندياً من ساحل العاج المثير للجدل-الذين اتهمتهم مالي بأنهم "مرتزقة"، وأنهم هبطوا في مطار مالي من دون أوامر مهمة أو تصريح بدخول البلاد. بينما قال "سالغادو" وحكومة ساحل العاج إن الجنود أُرسِلوا لتقديم دور داعم لـ مينوسما في إطار تناوب روتيني.
جدير بالذكر أيضاً أن القوات الألمانية بدأت في أيار/مايو من هذا العام 2023 الانسحاب من مالي بعدما تأزمت خلافات برلين مع باماكو لوصول القوات الروسية؛ إذ نشرت برلين نحو 1000 جندي في مالي ومعظمهم بالقرب من بلدة جاو الشمالية للتعاون مع مينوسما وجمع الاستطلاع لها. وبحسب البيانات والتقارير المختلفة يُتوقّع الانتهاء من مغادرة القوات الألمانية من مالي بشكل كامل بحلول أيار/مايو 2024.
ومن خلال ما سبق يمكن القول إن تأزّم علاقات مالي مع الدول الأوروبية يعني أن انتهاء مهمة مينوسما مقدّر ومسألة وقت، وذلك اعتماداً على حقيقة صعوبة استمرار مهمة البعثة الأممية من دون موافقة السلطات المالية، ولصعوبة التعاون مع الدول الأوروبية الداعمة لـ مينوسما في ظل انعدام الثقة فيها، وتصاعد مستوى الشكوك في نياتها.
ومع ذلك يحتاج النظام المالي – قبل تكملة عملية المغادرة النهائية للبعثة – إلى وضع خطة عملياتية لسدّ الفراغ اللوجستي والأمني في شمال مالي، وإيجاد وسائل الاستجابة للأزمات الأخرى التي قد تنتج عن هذا التطور، وخاصة فيما يتعلق باتفاق الجزائر للسلام الموقّع في عام 2015 بين الحكومة المالية والمتمردين الذين سيطروا في عام 2012 على شمال البلاد، حيث كانت مينوسما الجهة الرئيسية التي تراقب التقدّم المحرز في الاتفاق.
في سياق التطورات المرتبطة بـ "فاغنر"
بالرغم من إعلان وزارة الدفاع الروسية أنها ستدمج عدداً كبيراً من أفراد "فاغنر" في جيشها بعد التمرّد الأخير للمجموعة العسكرية؛ فقد أكّد سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا في 26 حزيران/يونيو 2023 أن "فاغنر" ستبقى في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، مشيراً إلى أن الوضع في موسكو نتيجة تمرّد "فاغنر" لن "يغيّر العلاقة الاستراتيجية بين روسيا وشركائها الأفارقة".
وهذا يؤكد قوة العلاقات الروسية مع البلاد، وحقيقة أنه رغم الاحتجاجات في السنوات الأخيرة ضد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية ومالي؛ إلا أن بعض هذه الاحتجاجات دعمت الوجود الروسي.
ويمكن القول إن طلب خبراء الأمم المتحدة التحقيق في تصرّفات "فاغنر"، والانتهاكات المزعومة التي ارتكبتها القوات المسلحة المالية، قد يكون عنصراً معززاً للتوترات بين سلطات مالي وبعثة الأمم المتحدة في البلاد (مينوسما)، حيث كشف بيان لخبراء الأمم المتحدة عن مخاوف بشأن احتمال حصول إعدام لمئات الأفراد في قرية بوسط مالي على مدار عدة أيام في أواخر آذار/مارس 2022، بمشاركة القوات المسلحة المالية، وبرفقة أفراد عسكريين يُعتقد أنهم ينتمون إلى "فاغنر".
وقد رفضت الحكومة في مالي وقوع أي انتهاكات لحقوق الإنسان في المنطقة المذكورة كما نفت ارتكاب أي مخالفات، متهمة التحقيق الأممي بالاستناد إلى "رواية وهمية".
أما الولايات المتحدة الأميركية، فقد فرضت في أيار/مايو 2023 عقوبات ضد إيفان ماسلوف الذي وُصف بأنه مسؤول كبير في مجموعة "فاغنر" بمالي، كما أصدرت عقوبات إضافية ضد أندريه إيفانوف الناشط في المجموعة أيضاً في مالي، وأربع شركات يُزعم أنها مرتبطة بالمجموعة (اثنتان من هذه الشركات موجودة في جمهورية أفريقيا الوسطى، وواحدة في كل من روسيا والإمارات العربية المتحدة).
وفيما يتعلّق بخروج مينوسما من مالي، فقد أبدت واشنطن قلقها إزاءه متأسفةً لقرار الحكومة الانتقالية في مالي بإلغاء موافقتها على بقاء البعثة لما يترتّب على ذلك من تداعيات "على الأزمات الأمنية والإنسانية التي تؤثّر على الشعب المالي".