تقارب باشينيان مع واشنطن... هل يؤدي إلى ضياع ناغورنو كاراباخ أم أرمينيا كلها؟

على الرغم من الجهود الروسية، فإنَّ يريفان في ظل باشينيان باتت تتجه أكثر فأكثر نحو الصدام مع موسكو.

  • علاقات روسيا وأرمينيا في عهد باشينيان 
    علاقات روسيا وأرمينيا في عهد باشينيان 

في خطوة أثارت حفيظة القادة الروس، أعلنت أرمينيا بدء مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة من الاثنين 11 أيلول/سبتمبر حتى العشرين منه.

وجاء في بيان لوزارة الدفاع الأرمينية أن المناورات التي حملت عنوان "إيغل بارتنر 2023" تأتي في إطار الاستعدادات للمشاركة في بعثات حفظ السلام الدولية، وستتضمن عمليات تهدف إلى تحقيق الاستقرار في مناطق الصراع أثناء تنفيذ مهام بعثات "الخوذ الزرقاء" التابعة للأمم المتحدة. 

وقد ترافق ذلك مع إعلان رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في مقابلة صحافية مع صحيفة "لاريبوبليكا" الإيطالية أنَّ "على أرمينيا ألا تعتمد فقط على روسيا في بناء أمنها الاستراتيجي، إذ إن البلاد تذوّقت بالفعل الثمار المرة لهذا الخطأ"، في إلقاءٍ للوم على موسكو في هزيمة أرمينيا قبل عامين على يد أذربيجان في النزاع على إقليم ناغورنو كاراباخ. 

علاقات روسيا وأرمينيا في عهد باشينيان 

هذا الأمر يدل على أن العلاقات الأرمينية الروسية تتراجع، بما يسمح للولايات المتحدة بنسج علاقات مع يريفان تتيح لها توجيه الضغط إلى روسيا من منطقة عبر القوقاز التي كانت دائماً تعتبر عقب آخيل بالنسبة إلى موسكو؛ ففي عهد حكومة باشينيان، شهدت العلاقة بين روسيا وأرمينيا تدهوراً كبيراً، وخصوصاً أن باشينيان وصل إلى السلطة في أرمينيا عام 2018 بعد ثورة ملونة مدعومة من الولايات المتحدة عُرفت بالثورة المخملية، وجاءت على حساب الحكومة التي كانت مدعومة من موسكو.

وسارع باشينيان فور استلامه السلطة إلى توجيه انتقادات إلى موسكو، وخصوصاً لجهة إدارتها الصراع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورنو كاراباخ. وقد حاولت القيادة الروسية احتواء الأمر عبر مواصلة تعاونها العسكري والاقتصادي مع أرمينيا، وتقديم الدعم العسكري لها، بما في ذلك التدريب وإمدادات الأسلحة والتدريبات العسكرية المشتركة، علماً أن روسيا تمتلك قاعدة عسكرية كبيرة في غيومري في أرمينيا.

كذلك، أبقت روسيا على علاقاتها الاقتصادية القوية مع أرمينيا، وخصوصاً أن موسكو تعد أحد شركائها التجاريين الرئيسيين، ومصدراً مهماً للتحويلات المالية من المهاجرين الأرمن العاملين في روسيا. وساعد وجود قوات حفظ السلام الروسية في ناغورنو كاراباخ بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين باكو ويريفان في تشرين الثاني/نوفمبر 2020 في استقرار المنطقة ومنع مواصلة الحرب بين الطرفين.

على الرغم من الجهود الروسية، فإن يريفان في ظل باشينيان باتت تتجه أكثر فأكثر نحو الصدام مع موسكو، ووصل الأمر إلى حد وقوفها مع أوكرانيا ضد روسيا في الحرب الدائرة هناك. وقد ذهبت زوجة باشينيان، آنا أكوبيان، إلى كييف لحضور "قمة" تضامن مع القيادة الأوكرانية، إضافةً إلى جهودها في جمع المساعدات للقوميين الأوكرانيين المتطرفين. ترافق ذلك مع حملة كراهية ضد الروس في أرمينيا، بدأت بتصنيف الروس على أنهم عدو الأرمن والسبب الرئيسي لخسارتهم إقليم ناغورنو كاراباخ في الحرب الأخيرة.

هذا الأمر جعل الكاتب الروسي يوري بودولايكا يعتبر أن أرمينيا باتت حصان طروادة داخل منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تتزعمها روسيا، فيما أصبحت تركيا حصان طروادة داخل منظمة حلف شمال الأطلسي.

العلاقات مع واشنطن

الجدير ذكره أنَّ الولايات المتحدة دعمت الثورة المخملية التي أوصلت باشينيان إلى السلطة عام 2018. وقد سعت حكومة باشينيان إلى توثيق العلاقات مع الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة، وسعت إلى تعميق تكامل أرمينيا مع المؤسسات الأوروبية.

في أيلول/سبتمبر 2018، زار باشينيان الولايات المتحدة للمرة الأولى كرئيس للوزراء، وأجرى محادثات مع مختلف المسؤولين الأميركيين، بما في ذلك نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو. واعتبرت الزيارة علامة على تحسن العلاقات بين البلدين.

وتعهّدت الولايات المتحدة بدعم التنمية الاقتصادية في أرمينيا، وقدمت مساعدة مالية إضافية للبلاد في السنوات الأخيرة. في أيلول/سبتمبر 2020، أعلنت الولايات المتحدة عن منحة بقيمة 1.4 مليون دولار لدعم استجابة أرمينيا لكوفيد-19 وجهود التعافي الاقتصادي المستمرة.

الجدير ذكره أن علاقات باشينيان بالولايات المتحدة تعود إلى عقود سبقت وصوله إلى السلطة؛ ففي أواخر التسعينيات، عمل مراسلاً أرمينياً لصحيفة "ويسترن يو إس إيه" الناطقة باللغة الأرمنية، ومقرها لوس أنجلوس، ما يدل على علاقاته بالمجتمع الأرميني الأميركي. وقد كان معروفاً بعلاقته ببعض دوائر القرار الأميركية. 

موقف طهران

منذ زمن طويل، جمعت طهران بيريفان علاقات قوية مستندة إلى تاريخ طويل من الروابط الثقافية والتاريخية والعرقية العميقة بين الشعبين الإيراني والأرميني اللذين يعودان إلى جذر واحد، هو الشعوب الهندوأوروبية. 

وتعود العلاقة إلى قرون مضت، حين كان الأرمن يقيمون في الأراضي الإيرانية حتى قبل تشكيل الدولة الإيرانية الحديثة. وأدى التعاون الاقتصادي دوراً مهماً في العلاقات الإيرانية الأرمينية؛ فقد أدرك كلا البلدين إمكانات التجارة والاستثمار، ما أدى إلى إنشاء العديد من المشاريع المشتركة.

وتميزت العلاقات السياسية بين البلدين بالمتانة، إضافة إلى متانة العلاقات الثقافية، إلا أن وصول نيكول باشينيان إلى السلطة في أرمينيا بدعم من الولايات المتحدة أثار ريبة القيادة الإيرانية التي خشيت أن يشكل مدخلاً للنفوذ الأميركي إلى منطقة عبر القوقاز قرب الحدود مع إيران، ما جعل طهران تتحفظ عن دعم أرمينيا في النزاع الأخير مع أذربيجان عام 2020. 

باشينيان يدفع موسكو وطهران باتجاه باكو

ساهم تقارب باشينيان مع الولايات المتحدة إلى دفع روسيا وإيران إلى التقارب مع أذربيجان. وقد بدأ القادة الأذريون بالتقارب أكثر مع موسكو والتجاوب مع سياستها، وخصوصاً لجهة الاستقرار الإقليمي في منطقة القوقاز، والتعاون في مجال الطاقة، وحل الصراع حول ناغورنو كاراباخ. وقد شاركت روسيا، باعتبارها الرئيس المشارك في مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بنشاط في التوسط في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا.

وعلى الصعيد الاقتصادي، تتمتع أذربيجان بأهمية بالنسبة إلى روسيا بسبب احتياطاتها الهائلة من النفط والغاز. وقد تعاونت الدولتان على نطاق واسع في قطاع الطاقة، إذ أدت روسيا دوراً مهماً في نقل النفط الأذري إلى الأسواق العالمية. واستثمرت شركات روسية، مثل لوك أويل، في مشاريع التنقيب عن النفط وإنتاجه في أذربيجان.

علاوة على ذلك، كانت أذربيجان بمنزلة طريق عبور لصادرات الغاز الطبيعي الروسي إلى تركيا وأوروبا.

وقد تعزز التعاون بين البلدين مؤخراً في مجال النقل، وخصوصاً أن طريق النقل بين الشمال والجنوب الذي يربط روسيا بإيران يمر عبر أذربيجان، ما يسمح بتعزيز التجارة والاتصال بين هذه البلدان. كما قامت روسيا باستثمارات في البنية التحتية للنقل في أذربيجان، ما ساهم في التواصل الإقليمي والنمو الاقتصادي.

كذلك، أدت سياسات باشينيان إلى تقارب إيران مع أذربيجان. ويشترك البلدان بروابط تاريخية قديمة، علماً أن الأسرة التي حولت إيران إلى المذهب الشيعي في القرن السادس عشر كانت الأسرة الصّفوية، وهي أأأسرة أذرية تركمانية كانت تتزعّم طريقة صوفية، وحكمت إيران حتى منتصف القرن الثامن عشر. 

والجدير ذكره أن 16% من الشعب الإيراني هم من الأذريين، ومن ضمنهم قائد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي. وتعمل الأقلية الأذربيجانية الكبيرة التي تعيش في إيران على تعزيز العلاقات الثقافية بين البلدين، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وتسهيل العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.

وقد ازدهرت العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وأدت موارد الطاقة وخطوط الأنابيب دوراً مهماً في تعزيز التعاون الاقتصادي، فكلا البلدين غني بالنفط، كما أن موقعهما الجغرافي يوفر فرصة لشراكات استراتيجية في مجال الطاقة.

وقد باتت العلاقات الإيرانية الأذربيجانية حاسمة للحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين في جنوب القوقاز والشرق الأوسط الأوسع. كذلك، أدت مشاريع النقل والبنية التحتية دوراً مهماً في تعزيز العلاقات الثنائية، إذ توفر إيران وأذربيجان طرق عبور استراتيجية تربط أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. إن استكمال ممر النقل بين الشمال والجنوب يسهل بشكل كبير التجارة بين الدول ويعزز النمو الاقتصادي في المنطقة.

وفي ظل التحول في السياسة الأرمينية، فإن إيران تسعى للتقارب مع أذربيجان لاحتواء النفوذ الإسرائيلي المتنامي فيها، والذي يعتبر تهديداً للأمن القومي الإيراني.

الأثر في إقليم ناغورنو كاراباخ

هذا الأمر سيؤثر في مصير إقليم ناغورنو كاراباخ وفرص أرمينيا في استعادته بعدما فقدته قبل 3 أعوام بعد هزيمتها في الحرب التي دارت بينها وبين باكو. ويعتبر يوري بودولايكا أن لدى أذربيجان، في ضوء العداء المجاني الذي تبرعت به حكومة باشينيان تجاه موسكو، فرصة تاريخية لحسم ضمها الإقليم نهائياً، خصوصاً أن باشينيان قرر الاعتماد على الولايات المتحدة بدلاً من روسيا. 

إضافة إلى ذلك، فإن مثل هذا الموقف في المنطقة ليس جديداً على الإطلاق، فقد أصبحت أرمينيا "حصان طروادة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي"، تماماً كما كانت تركيا "حصان طروادة لحلف شمال الأطلسي" لسنوات عديدة، لكن إذا كانت تركيا قد فعلت ذلك لحل مشكلاتها، إلا أن الخيار الذي اتخذته أرمينيا قد يؤدي بها إلى مضاعفة مشكلاتها.

وبدا جلياً تمركز الجيش الأذربيجاني على الحدود مع أرمينيا وناغورنو كاراباخ، والذي يجري بوتيرة متسارعة بشكل متزايد. وقد تم بالفعل وضع العلامات التكتيكية على جوانب المركبات، فيما يظهر جلياً استعدادات باكو لجولة جديدة من النزاع المسلح مع يريفان.

ويرى الكاتب أنه قبل أن يبدأ الأرمن في أرمينيا بالبكاء ومطالبة روسيا بالتدخل، كما جرت العادة، فإن عليهم أن يعملوا لإنقاذ أنفسهم من خيارات رئيس وزرائهم، معتبراً أن الولايات المتحدة تريد تسعير الصراع في القوقاز على الحدود الجنوبية لروسيا، في الوقت الذي يستعر الصراع المسلح في أوكرانيا، ويترافق مع نشر واشنطن أسطولها في بحر البلطيق قبالة مدينة سانت بطرسبورغ الروسية.

ويؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة، عندما سيندلع النزاع، ستتنحى جانباً، وستترك أرمينيا لمصيرها وحيدة في مواجهة الهزيمة الحتمية، وخصوصاً في ظل عدم إمكانية تدخل موسكو لمصلحة يريفان في ظل الظروف الحالية. 

آفاق الصراع

والجدير ذكره أن للصراع بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ جذوراً تاريخية عميقة؛ فقد كان كل من أرمينيا وأذربيجان جزءاً من الاتحاد السوفياتي حتى انهياره عام 1991. ووُضعت ناغورنو كاراباخ، التي تسكنها أغلبية من الأرمن العرقيين، تحت الإدارة الأذربيجانية خلال عهد الزعيم السوفياتي جوزف ستالين، على الرغم من أهميتها التاريخية والثقافية لأرمينيا. 

ويؤكد الأرمن ارتباطهم التاريخي بالمنطقة، والذي يعود إلى قرون مضت، فيما تدعي أذربيجان أنها مبنية على الحدود الإدارية التي تعود إلى الحقبة السوفياتية. وقد سعى الأرمن في ناغورنو كاراباخ إلى الحكم الذاتي والاستقلال عن أذربيجان، مدفوعين بالرغبة في حماية هويتهم الثقافية والهروب من التمييز ضدهم. وقد أدت المشاعر القومية والمناورات السياسية لدى الجانبين دوراً مهماً في استمرار الصراع.

واستغل السياسيون الروايات التاريخية والمطالبات الإقليمية لحشد الدعم وتعزيز الانقسامات العرقية وإدامة العداء بين الشعبين. ومن شأن السيطرة على ناغورنو كاراباخ أن تمنح من يسيطر عليه ميزة استراتيجية، ما يؤدي إلى مكاسب اقتصادية ونفوذ جيوسياسي.

وقد أدى اشتداد الأعمال العدائية في نيسان/أبريل 2016 إلى تجدد موجة العنف، ما أدى إلى سقوط ضحايا من الجانبين. وقد أظهر هذا الصراع هشاشة وقف إطلاق النار وإمكانية التصعيد. وتلا ذلك حرب في تموز/يوليو 2020 أدت إلى فقدان أرمينيا سيطرتها على الإقليم.

ومنذ ذلك الوقت، قادت هيئات دولية مختلفة، بما في ذلك مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا (التي تشارك في رئاستها روسيا وفرنسا والولايات المتحدة)، جهود المفاوضات.

ومن شأن ابتعاد يريفان عن موسكو أن يجعلها تواجه وحدها، ليس أذربيجان فحسب، لكن أيضاً تركيا؛ فخلال القرن ونصف القرن الماضيين، شكلت روسيا السند الرئيسي للأرمن الذين واجهوا خطراً وجودياً على يد تركيا، فأرمينيا الحالية التي تبلغ مساحتها نحو 30 ألف كيلومتر مع سكانها، ولأنها كانت تحت الحكم لروسي، نجت من المصير الذي تعرض له أرمن أرمينيا الغربية من تهجير وإبادة على يد تركيا خلال الحرب العلمية الأولى.

والآن، في ظل توجه باشينيان إلى التخلي عن علاقات يريفان التاريخية مع موسكو، وفي ظل وجود الولايات المتحدة على بعد آلاف الكيلومترات، وفي ظل التجارب التي تثبت عدم استعداد الأميركيين لنجدة حلفائهم، فإن أرمينيا ستجد نفسها مع سكانها الذين لا يتجاوزون 3 ملايين في مواجهة نحو 10 ملايين تركي أذري إلى الشرق و85 مليون تركي إلى الغرب، مع ما يشكله ذلك من تهديد لما تبقى من أرمينيا في أي نزاع مسلح بينها وأذربيجان في المستقبل، لن تقف فيه تركيا على الحياد، في حين ستكون موسكو وطهران غير مستعدتين لنجدة حليف تخلّى عنهما لمصلحة الولايات المتحدة، علماً أن "المتغطي بأميركا عريان"، كما قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات.