باخموت: السد الذي سيغرق الخاسر
شهدت الأيام الأخيرة سيلاً من المواقف الهامة والخطرة بما يخص الأزمة الأوكرانية، إضافة إلى أحداث وتطوّرات فعلية في الميدان وبخصوص التسلّح، وزيادة في النشاط السياسي والدبلوماسي.
لا تزال معارك مدينة أرتيومفسك-باخموت وجهة أنظار جميع المتابعين لمسار الأزمة الأوكرانية حول العالم. المدينة التي طال القتال فيها وتوحّش، تمثّل أهميةً كبرى للطرفين، خصوصاً إذا ما أضفنا إلى معادلة حساب قيمتها عامل الوقت. التوقيت الحالي من الحرب دقيقٌ جداً، يمكن لخسارة أي مدينة مهمة أن تؤدي إلى انهيارات دراماتيكية على المستويين العسكري والمعنوي، وتالياً على المستوى السياسي الذي يتغذى على نتائج الميدان من ناحية، وعلى تموضع القوى الخارجية ومواقفها من كل حدث كبير.
وعلى النقيض من تصريحاته السابقة، والتي خرجت مثلها في أميركا، من أنّ باخموت لا تمثل أهميةً استراتيجيةً كبيرة، عاد الرئيس الأوكراني فولودومير زيلنسكي ليقول إن خسارة هذه المدينة سوف تحدث ارتدادات قد تؤدي إلى تدني الروح المعنوية في بلاده، وإلى تزايد الضغوط عليه لقبول تنازلات لا يريد أن يقبل بها.
وفي مشهدٍ مفيد على المستوى الدعائي، أتمّ الرئيس الأوكراني زيارةً خاطفة إلى باخموت في ظل سريةٍ تامة، وفي الطريق أجرى مقابلاتٍ صحافية قال فيها إن سقوط باخموت في أيدي القوات الروسية سيمكّن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "من الترويج لهذا النصر أمام الغرب والداخل الروسي والصين وإيران"، ولم ينسَ دعوة الرئيس الصيني شي جين بينغ لزيارة كييف، ولهذه الدعوة المتعذرة أبعادٌ مهمة يمكن تفصيلها في سياقٍ آخر.
بموازاة ذلك، كان تدفّق الأسلحة والمساعدات الغربية إلى كييف يأخذ منحاً متصاعداً بصورةٍ لافتة. إنها هبّة غربية جديدة تعبّر عن استماتةٍ لمنع انهيار الجيش الأوكراني، فالمعارك في باخموت أحدثت ضرراً شديداً فيه، وتحضيراته لهجومٍ مضاد تبدو غير مباغتة بالنسبة للروس، ما يفقدها أحد أبرز معطيات نجاحها، خصوصاً مع تفوّق القوات الروسية من ناحية الوسائل المتاحة للقتال.
حرب تصريحات ومواقف خطرة
يظهر زيلنسكي في رحلته بالقطار إلى خطوط المواجهة بصورةٍ مرسومةٍ بعناية، يحتسي الشاي ويجلس على سريرٍ عادي في قطار نقل عام، لكن تصريحاته لم تكن أقل عناية، لقد وجّه نداءاتٍ في غير اتجاه. طلب زيارةً من الرئيس الصيني ليختبر مدى حياد بكين في المعادلة، وعلى الأغلب لإحراجها، وفي سيناريو متفائل، يريد أن يحاول إقناع شي بمساعدته للضغط على الروس.
هذا الاحتمال الأخير لا يبدو واقعياً، حيث أن مواقف الدول لا تتخذ من خلال التمنيات المتبادلة، أو بالاستعطاف، إنما ترسم على أسس المصالح أولاً، ثم تزاد عليها المكوّنات الأخرى، كمنظومة القيم، والسلم العالمي، وغير ذلك...
وباتجاه الغرب، استمر زيلنسكي بمحاولةِ الحصول على أكبر قدرٍ ممكنٍ من الدعم، حيث قال إن "الولايات المتحدة تدرك يقيناً أنها إذا توقّفت عن مساعدتنا، فلن ننتصر". لكن الأكثر لفتاً للانتباه كانت إشارته إلى أن خسارة باخموت قد تغيّر المعادلة وتزيد الضغوط الداخلية عليه، وربما ترغمه على التراجع. هو يعلم أن هذا الكلام سيكون له صدى في الغرب، خصوصاً في واشنطن التي سيعني انتصار بوتين لها كارثةً كبرى لن تقف آثارها عند الإطاحة ببايدن وحزبه في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد عامٍ ونصف العام.
وفي مقابل تصريحات زيلنسكي، كان قائد منطقة دانييتسك دينيش بوشيلين يكشف أن جزءاً كبيراً من القوات الأوكرانية أُجبر على الانسحاب من مصنع آزوم للمعادن على الجانب الغربي من نهر باخموتكا. وهو ما يعتبر حصناً أساسياً تمركزت فيه القوات الأوكرانية للدفاع عن سيطرتها على المدينة قبل دخول القوات الروسية.
ومن الطرف الروسي أيضاً، تزامن تصريح رئيس مجموعة "فاغنر" التي تمثّل رأس الحربة الروسية في باخموت، مع تصريحات زيلنسكي. كلام يفغيني بريغوجين كان شديد الدلالة ويجيب على مسألة لم تكن حدودها معروفة حتى الآن، ما هو مستوى الضرر الذي أحدثته معارك باخموت على الطرفين المتحاربين؟ ووفق رئيس المجموعة الروسية ذائعة الصيت الآن، فإن قواته لحقت بها أضرار مؤثرة، بينما "دمّرت المعركة من أجل باخموت بالفعل عملياً الجيش الأوكراني".
الآن يدور حديث في الأوساط العسكرية المتابعة لمجريات الأمور مفاده أن جيشين من أصل ثلاثة جيوش أوكرانية قد تم تدمير قدراتهما بصورةٍ شبه كاملة. هذا يعيدنا إلى تصريحات زيلنسكي أعلاه، وقبلها إلى هبّة الغرب التسليحية الجديدة، والتي وصلت حد أن تكشف بريطانيا عن نوايا تسليم كييف قذائف تحتوي على اليورانيوم المنضب، والمخاطرة بآثاره طويلة الأمد من ناحية، وردود الفعل الروسية التي قد تحمل ما هو أشدّ من ذلك.
بموازاة ذلك، خرج تصريح من الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف كشف عن التوقعات الروسية من المواجهة. حيث قال: "إذا ما تحدثنا عن الحرب بالمعنى الواسع، وعن المواجهة مع دول غير صديقة ومناهضة، عن هذه الحرب الهجينة، فإن أمدها سيطول".
وكانت إشارة أخرى من بيسكوف إلى قناعة حتمية عند القيادة الروسية بضرورة تحقيق جميع أهداف العملية العسكرية الخاصة، لكنه في المقابل ضمّن كلامه معاني باتجاهٍ محدّد، حيث اعتبر أنّ من المستحيل تحقيق أهداف العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا عبر السياسة والدبلوماسية، وأن هدف العملية هو ضمان أمن روسيا بشكلٍ عام وسلامة مواطنيها، و"المناطق الروسية الجديدة" بشكلٍ خاص.
وتوالت التصريحات الروسية في ما يمكن وصفه بواحدٍ من أكثر الأسابيع التي شهدت نشاطاً إعلامياً بخصوص هذه المواجهة، حيث قال سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي بتروشيف إن ما سمّاه السلوك الاستفزازي للغرب في أزمة أوكرانيا يمكن أن يؤدي إلى "نتائج كارثية". إضافة إلى تأكيد أن موسكو ستحقّق هدفها رغم تزايد الدعم الغربي لكييف، وأنها مقتنعة بضرورة الحيلولة دون الاصطدام مع دول نووية.
كذلك أشار إلى أن روسيا "ستتمكّن من نزع السلاح في أوكرانيا وضمان حيادية كييف"، وأوضح أن حوالي 50 دولة مما أسماه "تحالف رامشتاين" (القاعدة العسكرية الألمانية التي اجتمع فيها الحلفاء الغربيون لاتخاذ القرارات بإرسال دبابات ثقيلة وأسلحة ومساعدات أخرى إلى أوكرانيا) تشارك في الصراع المسلح إلى جانب أوكرانيا.
هواجس الدمار الشامل
ثم ما لبثت أن ارتفعت حدة التصريحات إلى مستوى أعلى، حين قال نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي ريابكوف إن موسكو توقفت عن إخطار الولايات المتحدة بشأن أنشطتها النووية، بما يشمل التجارب، وذلك بعد انسحاب موسكو من معاهدة "نيو ستارت" للحد من الأسلحة النووية. الموقف هذا يأتي بعد تخلّف واشنطن عن تسليم بيانات شهرية لروسيا بموجب الاتفاقيات المعمول بها.
وبحسب الموقف الذي أعلنه ريابكوف فإن "كل الإشعارات وكل أشكال الإخطار، وعمليات تبادل البيانات، وأنشطة التفتيش، وكل أشكال العمل بموجب الاتفاقية بصفة عامة، معلّقة ولن يجري تنفيذها". كاشفاً عن أن خطط موسكو لنشر أسلحةٍ نوويةٍ تكتيكية في بيلاروسيا ستجبر حلف شمال الأطلسي على تقييم مدى خطورة الموقف.
هذه المخاطر النووية لم تقتصر على التنبيهات التي حملتها المواقف السياسية من موسكو، ففي زاباروجيا حيث المحطة النووية الكبرى، يتصاعد القتال ويزيد من المخاطر الأمنية التي يفكّر فيها المراقبون للحرب منذ اندلاعها. مسؤولو المقاطعة يقولون إن القوات الأوكرانية تحضّر عدة سيناريوهات لشنّ هجوم مضاد في المنطقة، وهم يضعون زيارة زيلنسكي إلى الجزء الذي تسيطر عليه قواته من المنطقة، في إطار التحضير لهجومٍ معاكس هناك.
في الأثناء، حذّر مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي من زاباروجيا، من خطورة استمرار الاشتباكات في محيط المحطة النووية، حيث لا يتحسّن الوضع، بل تتكثّف العمليات العسكرية، ودعا إلى اتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية المحطة من أي هجمات. ويبحث غروسي مع موسكو وكييف عن مفهومٍ جديد لحماية المحطة، ويريد إبعاد الأسلحة الثقيلة عنها.
لكن المخاطر النووية في هذه المواجهة لم تعد تقتصر على حدثٍ يمكن أن يصيب منشأةً عن طريق الخطأ، أو استفزاز من قبل أحد الطرفين من خلال استهداف المحطة. الأزمة برمّتها صارت مساحةً للمخاطر النووية التي فعلياً ارتفعت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق.
مفهوم جديد للسياسة الخارجية الروسية
بعد هذه الأحداث والمواقف، أعلنت روسيا عن تغييرٍ مهم في مفهوم السياسة الخارجية، عقيدةٌ محدثة تناسب السياق المتفجّر من علاقاتها مع الغرب. حيث اعتبرت الولايات المتحدة والغرب مصادر الخطر الرئيسة على البلاد، وأن الغرب يمثل خطراً وجودياً على روسيا. هذا يعني وفق عقيدة الأمن القومي الروسي تحقّق إحدى الحالات التي يمكن فيها استخدام القوات النووية الروسية بصورةٍ استباقية.
الرئيس الروسي يرى في التعديل الجديد استجابةً للاضطرابات على الساحة الدولية، وإجراء ضرورة لمواءمة وثائق التخطيط الاستراتيجي مع هذه التغيرات والاضطرابات. أما وزير الخارجية سيرغي لافروف فعبّر عن نظرة موسكو نحو إنشاء نظام عالمي جديد سيكون أساسا لجميع العلاقات الدولية. وفتح المجال للتعبير عن المعنى الجديد لمفهوم السياسة الخارجية الروسية بالقول إن استخدام القوات المسلحة ضد من ينفّذ هجمات على روسيا هو من ضمن هذه التعديلات.
وتشير العقيدة الجديدة إلى رغبة روسيا بتطوير العلاقات الاستراتيجية مع الصين والهند ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) والعالم الإسلامي وأميركا اللاتينية وأفريقيا، بينما ستنظر موسكو في إمكانية اتخاذ إجراءات متناسبة مع أعمال الدول غير الصديقة.
وفي مضامينها، تشمل الخطة الجديدة فهماً روسياً لحقيقة تنامي مخاطر الصدام بين الدول الكبرى، بما فيها الدول النووية، وتزايد احتمال الانتقال إلى حرب كبرى. لكنها في المقابل تقول إن روسيا ستسعى لعدم خلق ظروف تؤدي إلى استخدام أسلحة نووية أو أسلحة دمار شامل، وتتضمن أيضاً استخدام موسكو القوات المسلحة لصد ومنع هجوم مسلح عليها أو على حلفائها. وهي إذا تعبّر عن توصيف للمخاطر الناشئة والتي يمكن أن تنشأ لكنها أيضاً تتمسك بإمكانية البحث عن حلولٍ سياسية لهذا الصراع المفتوح الذي ينتج كل يوم مخاطر جديدة متعاظمة.
أما الحديث عن النظام العالمي، فهو مسارٌ لم يقتصر وجوده على نص العقيدة الجديدة، إنما تعبّر عنه مجمل الأحداث الدائرة، والنشاط الدبلوماسي والسياسي لموسكو منذ سنوات، وخصوصاً خلال السنة الماضية من عمر المواجهة في أوكرانيا. زيارة الرئيس الصيني تندرج في هذا السياق، كما تندرج مبادرة بكين بين طهران والرياض أيضاً فيه، ويمكن إضافة آلاف الأحداث خلال السنوات الماضية إليه.
وتريد موسكو في نص المفهوم الجديد لسياستها الخارجية توفير الأمن الموثوق والفرص المتساوية للجميع من خلال النظام العالمي الذي تسعى إليه. ومن دون أن تزيل رغبتها بالعودة مع الوقت إلى التنسيق مع الغرب على مبدأ المساواة واحترام المصالح، وتشير الخطة إلى أن إحدى الأولويات تتمثل في إزالة "بقايا الهيمنة الأميركية" وهيمنة الدول غير الصديقة على الشؤون الدولية. حيث أن الولايات المتحدة هي المصدر الرئيسي للسياسة المعادية لموسكو. أما أوراسيا فهي في النص الجديد "مشروع روسيا الرائد للقرن الحادي والعشرين" الذي تريد من خلاله تحويله إلى فضاء مشترك للسلام والاستقرار والازدهار.
في الخلاصة، شهدت الأيام الأخيرة سيلاً من المواقف الهامة والخطرة بما يخص الأزمة الأوكرانية، إضافة إلى أحداث وتطوّرات فعلية في الميدان وبخصوص التسلّح... وزيادة في النشاط السياسي والدبلوماسي. لكن هذه الزيادة الملحوظة لم تقرّب الأزمة من الحل، بل إنها تزيد من المخاطر، وتأخذ المواجهة إلى نقطةٍ قياسيةٍ جديدة على سلّم التصعيد الذي قد ينتج كابوساً للجميع. لكن قبل كل ذلك، تشبه باخموت الآن سداً ممتلئاً، بمجرد اختراقه سينطلق سيلٌ من الديناميات العسكرية والسياسية باتجاه الجهة الخاسرة. قد تكون هذه المعركة مفصليةً في مواجهةٍ أوسع من أوكرانيا.