المنظمات غير الحكومية في لبنان: منهجية التدمير منذ قرنين
لم يعد هناك مجال للشك: تلك المنظمات "الحكوميّة" بامتياز، لا تتحرّك بناءً على الحس الإنساني، كما تزعم، بل حركتها مرتبطة بإيعاز سياسي.
المنظمات غير الحكوميّة، هو اسم يُطلَق على جمعيات، أو مجموعة من فعاليّات مجتمعيّة، تهدف إلى تقديم المساعدة في عدة مجالات، إلى البلاد التي تحتاج إلى تلك المساعدات. وهي تعدّ نفسها رقيباً على الحكومات التي توجد في أراضيها، وتقدّم المساعدات التي يجب أن تتوافر للناس، على أنواعها. فالإغاثة والدعم الحقوقي والتطوير التجاري والاعتناء بالحيوانات والبيئة وتوفير المؤهلات العلميّة، وغيرها من الأهداف الرئيسة، كانت منعدمة أو شبه منعدمة في دول العالم الثالث، وخصوصاً تلك التي كانت تخضع لـ "انتداب" لأعوام طويلة.
لم تكن منظمات المجتمع المدني، التي دخلت لبنان مطلع القرن التاسع عشر، غير حكوميّة فعليّاً، فهي كانت إرساليّات دخلت البلاد في الفترة التي كان يرزح لبنان تحت احتلال الدولة العثمانيّة، التي بدأت تضعف حينها، فوجدت الدول الغربيّة ضالّتها في ضعف الإمبراطوريّة آنذاك، وأوفدت قناصلها التجاريين إلى جبل لبنان من أجل إنشاء علاقات تجاريّة. وتحوّل هؤلاء، فيما بعدُ، إلى قناصل سياسيين دخلوا في أتون التركيبة الطائفيّة للبنان، وبدأت حملاتهم التبشيريّة مطلع عام 1815.
تعريجاً على ما سلف، كان هدف تلك المنظمات، منذ دخولها لبنان، نشرَ ثقافة بلاد المنشأ التي أتت منها، كالمدارس البروتستانتيّة، التي أتت إلى لبنان لنشر الثقافة الدينيّة الأميركية عام 1832، بحيث افتتحت 3 مدارس في بيروت وصيدا وطرابلس. ومع حلول عام 1834، أصبح في لبنان 6 مدارس بروتستانتيّة. كما تأسست المدرسة الأولى للبنات لتعليم الحساب والكتاب المقدس، واستطاعت استقطاب 100 طالبة خلال 6 أشهر.
إن تسمية "غير حكوميّة"، لم تكن إلّا تأشيرة الدخول للمجتمعات المراد التغلغل في ثناياها، لأهداف سياسيّة في الدرجة الأولى.
الحرب الأهليّة اللبنانيّة
خلّفت الحرب الأهليّة اللبنانيّة، التي استمرت 15 عاماً، أضراراً جسيمة في جميع الأصعدة. لقد حصدت أرواح عشرات الآلاف، وخلّفت مئات آلاف الجرحى، وأصابت الجسم الاقتصادي اللبناني بشلل شبه كلّي، وأفضت إلى انعكاسات على النسيج الاجتماعي، بحيث أمعنت في التباين بين طبقات المجتمع اللبناني، التي كانت موجودة أصلاً. وساعد التقسيم الطائفي للمناطق على تسريع خطى تلك المنظمات نحو التمييز بين أفراد المجتمع اللبناني في تقديم المساعدات.
تدفّقت المساعدات العينيّة والماليّة إلى لبنان من مختلف أنحاء العالم، على مدى سنوات، من أجل انتشاله من الأزمة التي كانت تحيط به بعد الحرب الأهليّة.
قُدِّرت الخسائر في لبنان بعد الحرب بـ 25 مليار دولار، لكن أغلبية المشاريع التي طُرِحت على طاولات الحكومات المتعاقبة، منذ عام 1990 حتى يومنا هذا، لم تُنجَز بعدُ، وأوّلها مشروع الكهرباء ومشاريع السدود واستصلاح الطرقات وسكك الحديد، بالإضافة إلى عشرات المشاريع التي لا تزال مطويّة داخل الأدراج، ولم ولن تبصر النور ما دام لبنان سيبقى يخضع للتجزئة، مناطقيّاً وطائفيّاً.
بسبب ضعف النظام اللبناني، حلّت المنظمات غير الحكوميّة مكان أجهزة الدولة، وزعمت أنها تسعى لتحسين الوضع في لبنان، اقتصادياً واجتماعياً، في وقت تطلق الدولة وعوداً في الهواء، وتبقى مشاريعها حبراً على ورق.
كانت المنظمات المدنيّة الأجنبيّة صاحبة مشروع سياسي بامتياز، بحيث أعادت بناء المنازل والبيوت، والأديرة والمدارس والجامعات، وفتحت باب الهجرة التعليميّة لمن تبنّى مشروعها، الذي يقضي بالتخلّي عن أي شعار مقاوم، على عكس ما قوبلت به الأطراف التي وقفت إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة في لبنان. وبناءً عليه، تمايزت المناطق في حجم المساعدات، وأصبحت الفئة المحرومة منها مرتَهَنة في موقفها السياسي: فإمّا البقاء على موقفها لتستمر رحلة المعاناة التي يعيشونها، وإمّا التخلي عن تلك المبادئ لتطالهم "الأيادي الخيّرة" من أجل تحسين أوضاعهم المعيشيّة.
حرب تموز/يوليو 2006
بعد حرب الأيام الـ 33 بين لبنان والعدو الإسرائيلي، والتي أودت بحياة ما يقارب 1200 شخص، وخلّفت أكثر من 4000 جريح، وما يزيد على 15000 وحدة سكنيّة بين متضررة ومهدَّمة. ومن الطبيعي أن الحكومة اللبنانيّة، برئاسة فؤاد السنيورة آنذاك، لم تكن قادرة على تحمّل مسؤوليّة إعادة إعمار ما تهدَّم، وسعت لاستقدام المساعدات من الخارج، والتي لم تُصرَف في مكانها الصحيح، بحسب ما أُعلن فيما بعدُ.
اضطر حزب الله إلى تحمّل مسؤولية شبه كاملة عن إعادة الإعمار. أخذت الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران على عاتقها إعادة إعمار مخلّفات الحرب، من خلال جمعية "جهاد البناء". أمّا دور الجمعيات الأجنبيّة، التي تدّعي في كل مناسبة لها أنها يد العالم الممدودة من أجل المساعدة، فبصماتها تكاد لا تُرى في مناطق البقاع والضاحية والجنوب. وتكون تلك الدول الداعمة، على نحو غير مباشر، لتلك المنظمات، تقف مكتوفة الأيدي أمام دمار يشبه ذلك الذي لحق بالمناطق التي كانت خطوط تماسٍ في إبّان الحرب العالميّة، فحجم الدمار المتروك بعد حرب تموز/يوليو كان مهولاً، وكانت المساعدات التي قدّمتها المنظمات الأجنبيّة تقتصر على المساعدات العينيّة، علماً بأنّ جيفري فيلتمان قال، في حزيران/يونيو 2010، إنّ الولايات المتحدة تقدم المساعدة والدعم إلى لبنان من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية ومبادرة الشراكة الشرق أوسطية (ميبي)، وأضاف "ساهمنا بأكثر من 500 مليون دولار في هذا الجهد، منذ عام 2006".
انفجار مرفأ بيروت
لم يكن ينقص لبنان سوى ثالث أكبر انفجار في التاريخ، بحسب تصنيفه عالميّاً، بحيث انفجر مرفأ بيروت نتيجة أسباب لم تُحسَم بعدُ. ومع تمدُّد فترة التحقيق والتجاذبات السياسيّة، التي لا بد منها في الواقع اللبناني، امتدت معاناة الناس التي وُجدت في محيط الانفجار آنذاك، أو كانت تقطن في محاذاة المرفأ على الأقل. فبعد أن سبب الانفجار ما يزيد على ٢٠٠ شهيد، وخلّف العصف الانفجاري المهول 6500 جريح على الأقل، تركت الحادثة آثارها في العاصمة بيروت، حيث تضررت عشرات الآلاف من الوحدات السكنيّة والمحالّ التجاريّة والمؤسسات العامة، ناهيك بالآثار النفسيّة، التي لا تزال تحفر عميقاً في صدور اللبنانيين.
هبّت الدول والمنظمات لنجدة لبنان، وتدفّقت المساعدات إليه من كل الدول، منها ماليّة وأخرى عينيّة. لكن المشكلة، التي اصطدم بها المجتمع اللبناني آنذاك، كانت امتناع أغلبية الدول المانحة عن تسليم الحكومة اللبنانيّة قرشاً واحداً، وفضّلت تسليم المنظمات غير الحكوميّة تلك المساعدات، بحيث وجد الغرب، من أجل الضغط على المقاومة وشعبها، طريقاً جديداً أكثر إيلاماً من أي نوع من العقوبات. فلبنان، الذي شهد ثالث أكبر انفجار في التاريخ، لا يمكن أن يتحمّل شروطاً للحصول على مساعدات مرتبطة بحسابات سياسيّة على حساب دماء المدنيين. وطبعاً، الهدف دائماً رأس المقاومة.
وهكذا، لم تَنَلْ بيروت سوى عمليّات التجريف، ورفع الأنقاض، وتوزيع المساعدات العينيّة، والتي كانت كلها مبادرات فرديّة من الشعب اللبناني الذي تحرّك من أجل نجدة ضحايا الواقعة المفجعة.
وإلى يومنا هذا، لا نعرف أين هي تلك الأموال التي جمعها المؤتمر الدولي للمانحين، والذي كان برعاية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي فاقت 280 مليون دولار أميركي. وأكد ماكرون، وقتذاك، أن هذه المساعدات ستُحجَب عن الحكومة اللبنانيّة لتمرّ عبر المنظمات غير الحكوميّة.
بعد مرور عام على الانفجار، أظهر تقرير لليونسف أن 68% من العائلات لم تحصل على الرعاية الصحيّة أو الأدوية منذ وقوع الانفجار. وبحسب التقرير، فإن نصف العائلات، التي يصل عددها إلى 1178 عائلة، لا تزال أوضاع بيوتها على ما هي عليه بعد الانفجار. كما أن أنابيب مياه الخدمة كانت تضرَّرت بصورة كبيرة، وتسبّب ذلك بانقطاع المياه عن جزء كبير من العاصمة بيروت، الأمر الذي استدعى تدخل منظمة اليونيسف، التي جمعت بدورها ما يقارب 1900 شخص من أجل المساعدة على إعادة ربط المنازل بشبكة المياه التابعة للبلديّات والشركات الخاصة.
وفي سياق استغلال واشنطن للمنظمات غير الحكوميّة، كان مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بالوكالة، جون بارسا، قال في الـ9 من آب/أغسطس 2020: "سألتقي شركاء الوكالة الذين يستلمون المساعدات الإنسانية والصحية في بيروت. الوكالة قدّمت حتى الآن أكثر من 15 مليون دولار كمساعدات إنسانية من أجل دعم جهود الردّ على هذه الكارثة، الأمر الذي يرفع حجم المساعدات الإنسانية الأميركية المقدَّمة من الشعب الأميركي إلى لبنان إلى 594 مليون دولار، منذ أيلول/سبتمبر 2019. المساعدات الأميركية لن تصل حتماً إلى الحكومة اللبنانية، لكنها ستذهب إلى الشعب اللبناني، عبر الجامعة الأميركية في بيروت والجامعة اللبنانية الأميركية ومراكز الدراسات، الموكل إليها جمع المعلومات، والمنظمات المسؤولة عن مهمات التشبيك المجتمعي. مساعداتنا الإنسانية ستصل إلى سكان بيروت والشعب اللبناني، الذين هم في حاجة إليها، ولن تكون خاضعة لسيطرة الحكومة اللبنانية".
مع أهميّة الأرقام، التي تثبت بصورة دقيقة حجمَ أي هبة أو مساعدة، لكن السير على الأقدام، والاستناد إلى ما تراه العين، يبقيان خير وأوفى دليل. كميّة الأموال، التي تحدثت التقارير عنها في الصحف في العامين الماضيين، تجاوزت 800 مليون دولار أميركي، ويتّهم المجتمع الدولي (صاحب هذه الهبات والمساعدات) حكّام لبنان بنهبها وسرقتها. لكن سؤالاً مهماً يطرح نفسه منذ انفجرت الأزمة الاقتصاديّة: أليست هذه الدول، التي ساعدت لبنان بالمليارات، على مدى عقود، كانت على علم بأن هذه المساعدات لا تجد سبيلاً إلى حياة اللبنانيين؟ أليست العلاقات الحميمية، التي كانت تجمع المسؤولين اللبنانيين ورؤساءَ دول العالم، كانت هي الطاغية على أجواء أي اجتماع؟ لم تُذكَر كلمة فساد أو نهب أو سرقة طوال الفترة التي كانت تدفع فيها الدول المانحة.
ومن هنا، أسأل أيضاً: أليست هذه الدول أيضاً هي التي انقلبت على أصدقائها اللبنانيين، ومنعت وصول أي مساعدات جديدة إلاّ عبر منظمات غير حكوميّة تابعة لها؟ إذاً، أين هي تلك الإصلاحات؟ لا أرى سوى تعاظم للفجوة المجتمعيّة بين طبقات النسيج اللبناني. هناك ما يزيد على 8000 منظمة غير حكوميّة مرخّصة فاعلة في لبنان. وبمقارنة بسيطة بين مساحة لبنان وعدد سكّانه من جهة، وعدد تلك المنظمات، نستنتج أن طاقاتها تتجاوز كثيراً ما يحتاج إليه لبنان. وعلى الرغم من ذلك، فإن الوضع من سيئ إلى أسوأ.
بعد كل ما تقدَّمَ، لم يعد هنالك مجال للشك: تلك المنظمات "الحكوميّة" بامتياز، لا تتحرّك بناءً على الحس الإنساني، كما تزعم، بل حركتها مرتبطة بإيعاز سياسي بحت، تتحقق في إثره الإصلاحات، وتتوزع المساعدات، بحسب المصلحة السياسيّة الأميركية، التي تبطش بيمينها حيث يجب، لتعدّل المسار على نحو يتلاءم مع سياستها. فاذا كانت حكومات تلك المنظمات تابعة لواشنطن، فكيف ستكون صاحبة استقلالية في القرار؟ ولو أن منظمة تمرّدت يوماً، لأُدرجت سريعاً في لائحة دعم الإرهاب، ولا داعي لانتظار الدليل، فهو سيكون جاهزاً، وملفَّقاً، وحاضراً للخروج إلى العلن.