المآزق الاستراتيجية والتكتيكية لـ "الجيش" الإسرائيلي في غزة
شكَّل نمط القتال المبدع لعناصر المقاومة الفلسطينية ضد "الجيش" الإسرائيلي صدمة ومفاجأة حقيقية، كان لها تأثير ضار ليس على أفراد هذا "الجيش" فحسب، وإنما على العقل العسكري الميداني الذي يدير ويقود.
منذ أن بدأت عملية طوفان الأقصى في صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وما أعقبها من ردّ فعل انتقامي إسرائيلي في اليوم التالي، بدا بوضوح لكلّ خبراء الشؤون العسكرية أنّ أداء هذا "الجيش" المدفوع بالرغبة في الانتقام والقتل ـــــ وليس القتال ــــــ يعاني من مشكلات كبرى في نمط الإدارة الميدانية من ناحية، وطبيعة تحديد الأهداف السياسية والاستراتيجية للحرب من ناحية أخرى.
وهذا الاندفاع الوحشي والمجنون للانتقام ولردّ هيبة ما يسمّى "الردع الإسرائيلي" قد ورّط هذه القيادة العسكرية والسياسية في عدة أخطاء كبرى، سواء على المستوى الاستراتيجي، أو على المستوى التكتيكي والعملياتي.
ولأنّ الحرب هي السياسة بوسائل أخرى كما يقول المفكّرون الاستراتيجيون العالميون، فإنّ كلّ حرب تستلزم مجموعة من العناصر الأساسية حتى قبل إطلاق الرصاصة الأولى فيها، من قبيل:
أوّلاً: تحديد الأهداف السياسية للحرب أو القتال.
ثانياً: تحديد الوسائل والأدوات العسكرية المناسبة للمهمة والتي تتفق مع الأهداف السياسية.
ثالثاً: الحفاظ على القبول الأخلاقي والسياسي والإعلامي للحرب والقتال لدى دوائر واسعة من: الرأي العام المحلي، والرأي العام العالمي، ووسائل الإعلام المختلفة، وقادة الرأي والفكر، ومنظّمات المجتمع المدني في معظم دول العالم، مثل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية والمنظّمات غير الحكومية.
ولأنّ هذا "الجيش" كان مدفوعاً بالانتقام من ناحية، ومغموماً بالرؤى السياسية المضطربة والمتناقضة لتحالف سياسي يميني متطرّف لم يسبق لهذا الكيان أن عاصره أو عايشه من ناحية أخرى؛ فقد تورّط هذا "الجيش" وسقط في ورطات وجرائم حرب لم يشهد لها تاريخ الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945) مثيلاً ولا نظيراً.
المآزق الاستراتيجية لـ "الجيش" الإسرائيلي في غزة
تتمثّل المآزق الاستراتيجية لهذا "الجيش" المسلّح بأحدث وسائل القتل والقتال في الآتي:
المأزق الأول: ضبابية الأهداف السياسية والاستراتيجية الموضوعة من المستوى السياسي لـ "الجيش" من هذه الحرب ما بين أهداف أولية معلنة تمثّلت في: تدمير وسحق وإبادة حركة حماس وبقية فصائل المقاومة المسلحة، وإنهاء سيطرتها وقياداتها لقطاع غزة من ناحية، واستعادة الأسرى والرهائن الإسرائيليين المختطفين في غزة، وعددهم المعلن يتجاوز مئتين وأربعين أسيراً ومختطفاً.
ثم أعلنت القيادات السياسية ومن بعدها القيادات العسكرية عن هدف استراتيجي كان مضمراً في العقل السياسي والعسكري الصهيوني لسنوات طويلة سابقة من دون أن يجري الإفصاح عنه، ألا وهو "تحويل غزة إلى مقبرة جماعية بحيث تصبح غير مؤهّلة للحياة الإنسانية، وتهجير سكانها إلى سيناء". وهنا سقط هذا "الجيش" في أول مآزقه الاستراتيجية والتي سوف تدرّس في المعاهد والكليات العسكرية في العقود المقبلة.
فبين الاندفاع الجنوني للانتقام ورد هيبة الردع، وبين ضبابية الأهداف واستحالتها أمام شعب مقاوم؛ ذهب هذا "الجيش" إلى القتل العشوائي الجماعي غير المسبوق؛ فسقطت هيبته ومشروعية حربه أمام معظم الرأي العام العالمي، ومعظم دوائر صنع القرارات والسياسات في العالم شرقاً وغرباً، وتململت بعض دوائر اتخاذ القرارات في الغرب (مثل إسبانيا والنرويج والدنمارك والسويد وبعض دول أوروبا الشرقية)؛ فخرجت عشرات الملايين من الناس في معظم دول العالم شرقاً وغرباً في تظاهرات هائلة لأسابيع مستمرة تندّد بـ "إسرائيل" كـ "جيش"، وتطعن في مشروعيته الأخلاقية كـ "جيش" والسياسية كـ "دولة"، وتناصر قضية الشعب الفلسطيني ومقاومته البطولية، وتنظر إليها نظرة جديدة ومختلفة تماماً عمّا كان سائداً قبل الثامن من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023.
المأزق الاستراتيجي الثاني: تمثّل في عدم فهم الأثر العكسي لحرب من هذا النوع وهذا الحجم على ضفتي الصراع، فمن ناحية حرّكت حرب الإبادة الوحشية تلك تيارات الغضب للشعوب العربية ضدّ حكّامها المتآمرين والمتواطئين والمطبّعين والمهرولين والصامتين، حتى لو بدت أنها خافتة أو مكبوتة بفعل القهر البوليسي الوحشي الذي تتعرّض له بعض هذه الشعوب العربية.
بيد أن عوامل غضب تعتمل داخل الجسد والوعي العربي وسوف تنفجر في وقت ما ضدّ هذه الأنظمة، تماماً كما حدث في المنطقة العربية بعد هزيمة النكبة عام 1948، فانفجرت الثورات العربية في أكثر من بلد في صورة انقلابات عسكرية، وبعد العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008 وكانون الثاني/يناير 2009 انفجرت الثورات الشعبية في تونس ومصر واليمن والبحرين عام 2011، وأزاحت حكّاماً كانوا كنوزاً استراتيجية لـ "إسرائيل" والولايات المتحدة، حتى وإن كانت هذه الثورات لم تستمرّ وجرى احتواؤها وهزيمتها من الدولة السفلية هنا وهناك.
ومن ناحية أخرى فإن الأثر العكسي الثاني هو الحادث داخل الكيان النفسي والاجتماعي والسياسي لهذ الكيان العنصري الرابض على أرض فلسطين، فللحرب أشباح تظل تطارد فاعليها لسنوات طويلة سواء في الحاضر أو المستقبل، خاصة إذا كانت هذه الحرب هي حرب إبادة بكل ما للكلمة من معنى ووصف قانوني وإنساني.
المأزق الاستراتيجي الثالث: أنّ هذه الحرب قد أشعلت ونشّطت ما يسمّى " محور المقاومة" في المنطقة: سواء في جبهة الجنوب اللبناني، أو جبهة اليمن وباب المندب وأنصار الله بصورة رائعة وقوية، أو مناوشات عناصر وفصائل المقاومة العراقية للوجود العسكري الاستعماري الأميركي في العراق، والمهدّد يوماً بأن يطال القواعد الأميركية في الإمارات والبحرين والكويت والسعودية، إذا ما اتسعت الحرب وطال أمدها الزمني بأكثر مما هي عليه الآن.
المأزق الاستراتيجي الرابع: بقدر ما كشفت الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا منذ الـ 24 من شباط/فبراير 2022 حقيقة الغرب الاستعماري ومعاييره المزدوجةال وجوهره العنصري، فإنّ سلوك "الجيش" الإسرائيلي وحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية قد أسقط آخر ما بقي من أوراق التوت عن حقيقة وعورة وعنصرية النخبة الحاكمة في الغرب الأطلسي كلّه من دون استثناء واحد، وكشفت استحالة التعايش مع هذه المنظومة الدولية التي يقودها هذا الغرب سواء في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات، وأصبحت مهمة خلق نظام دولي جديد، قائم على معايير الإنصاف والعدالة والقانون الدولي المتوازن بين الشعوب والدول، مهمّة ملحة وضرورية لبقاء الحياة الإنسانية على سطح كوكبنا.
المأزق الاستراتيجي الخامس: أنّ إطالة أمد الحرب البرية من دون تحصيل نتائج حاسمة مقارنة بالأهداف المعلنة (على الأقل في استعادة الرهائن، وتدمير حركات المقاومة وفي طليعتها حركة حماس، وتدمير الأنفاق الهائلة) سيكون له تأثير هائل ومدمّر للاقتصاد الإسرائيلي، حيث تعطّلت قوى الإنتاج والخدمات في الكثير من المواقع والوحدات الاقتصادية، وتحت رغبة اليمين العنصري الاستيطاني المتطرّف بإدامة الحرب وبين تدهور الاقتصاد تجد "إسرائيل" نفسها في مأزق استراتيجي خطير.
المأزق الاستراتيجي السادس: أضافت محكمة العدل الدولية ـــــ برغم عدم حسمها مسألة وقف إطلاق النار، ومن ثم وقف المقتلة والمذبحة الجارية أمام عيون العالم بالصوت والصورة.
كل لحظة أضافت عبئاً استراتيجياً جديداً على الكيان الإسرائيلي، فهذه هي المرة الأولى في تاريخ الكيان يقف متهماً أمام العالم وأمام أهم محفل قضائي أممي، متهماً بالأسانيد والأدلة السمعية والبصرية بتهمة "الإبادة الجماعية" Genocide، تلك التهمة التي طالما استخدمتها الحركة الصهيونية العالمية وحلفاؤها من أجل ابتزاز العالم أجمع وخصوصاً ألمانيا النازية، والتي كشفت حرب تدمير غزة أنها ما زالت عنصرية الطابع ونازية الطبيعة.
المآزق التكتيكية والعملياتية لـ "الجيش" الإسرائيلي
بيد ، نجملها على النحو الآتي:
1- أنّ الاقتحام البري الواسع النطاق الذي بدأ يوم الـ 17 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي بقوة قوامها أكثر من 250 ألفاً إلى 350 ألف رجل (عبارة عن 6 إلى 7 فرق عسكرية كاملة) معزّزة بألوية كوماندوز ومظلات مستقلة، ووحدات هندسية مدعومة بأكثر من 650 دبابة ومدرّعة وجرّافة ثقيلة على مساحة عمليات مسطّحة لا تزيد على 365 كلم2، وبدعم جوي متعدد الأنواع والمستويات، كان بقدر قوته النارية الكاسحة بقدر ما كان فرصة ذهبية لعناصر المقاومة الفلسطينية التي تقاتل بنظام حرب عصابات المدن أن تسبّب في وقوع خسائر كبيرة تفوق التقدير الإسرائيلي الأوّلي.
2- ولأن هذا الحشد من القوات يقاتل غالباً على مساحة أرض صغيرة ومسطّحة (ما يشكّل ازدحاماً ليس في صالح القدرة على المناورة والحركة السريعة للمدرعات والدبابات)، بينما يقاتل عناصر المقاومة من تحت شبكة الأنفاق الهائلة؛ فأصبحت هذه القوات صيداً ثميناً لعناصر وخلايا المقاومة.
3- حينما حاولت أن تتخفّف القيادة الإسرائيلية من هذا الحشد المرهق تحت زعم الانتقال إلى المرحلة الثالثة (أي توجيه الضربات الموضعية والتركيز على الأهداف الثمينة كما تفعل في الضفة الغربية) فإنها لم تدرك الفارق الهائل بين الساحتين، حيث إن الضفة تحكمها سلطة غير وطنية جنّدت أكثر من 40 ألف فرد في أجهزة أمن متعددة (الأمن الوقائي ـــــ المخابرات العامة ـــــ الشرطة)، ومارست قهراً وتجسّساً وتعاوناً أمنياً مع أجهزة الأمن والمخابرات الإسرائيلية طوال 25 عاماً؛ فكشفت جزءاً كبيراً من خرائط قياداتها ومكامنها، على العكس من ذلك في غزة حيث قوات وفصائل المقاومة كلّها (القسّام ـــــ سرايا القدس ـــــ قوات الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية ـــــ والمجاهدين ـــــ وقوات الناصر وغيرها)، ما زالت بعيدة عن أعين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والمتعاونين معها.
4- ومن هنا وقعت القوات الإسرائيلية في جرائم إضافية من خلال اتباع أسلوب الاعتقالات الواسعة والعشوائية بين سكان قطاع غزة كما في الضفة الغربية، وممارسة التعذيب والإعدامات الإجرامية خارج نطاق القانون والتي لا ينطبق عليها أبداً تعبير أو مصطلح (الإعدامات الميدانية) بالنظر إلى طريقة الاعتقالات بين المدنيين وليس بين المقاتلين في أثناء الاشتباك أو القتال.
5- وحينما احتار السياسيون والقادة العسكريون الإسرائيليون في كيفية إدارة الحرب، والهدف أو ما أطلق عليه "اليوم التالي للحرب" بين القائلين باحتلال عسكري كامل لقطاع غزة وعودة الاستيطان الصهيوني في القطاع، وبين القائلين بالسيطرة العسكرية والبحث عن إدارة مدنية، وبين القائلين بإيجاد شريط حدودي عازل بعرض كيلو متر أو كيلو مترين، وبقاء الركام والهدم قائماً على الحدود بين القطاع والغلاف.
هذا الارتباك كان يعني تضارباً في القرارات العسكرية، فمن شأن إخراج معظم الوحدات العسكرية والتخفّف منها أن يعني باختصار عودة فصائل المقاومة للظهور على سطح الأرض بكثافة أكبر، وممارسة الاصطياد المريح لأفراد القوات المتبقيّة داخل غزة، وتدمير معدات ومدرعات ودبابات أكثر، وعلى العكس فإن بقاء حشد كبير من القوات يعني كثرة الأهداف المتاحة لعناصر المقاومة في الاصطياد والقتل وبطء حركة المناورة لد القوات المحتلة.
6- بهذا الارتباك والافتقاد للإبداع الميداني غاص أفراد هذا "الجيش" في مزيد من الجرائم والقتل لمجرد القتل، ولا شك أن لهذا أثراً كبيراً على ما جرى من انهيار نفسي لدى عدد كبير من هذه القوات، حيث قدّرتهم بعض المصادر الإسرائيلية بأكثر من ثلاثة آلاف يعانون من اضطرابات نفسية يعالجون منها في الوقت الراهن.
7-شكَّل نمط القتال المبدع والمتفرّد لعناصر المقاومة الفلسطينية ضد هذا "الجيش" العرمرم صدمة ومفاجأة حقيقية، كان لها تأثير ضار ليس على أفراد هذا "الجيش" فحسب، وإنما على العقل العسكري الميداني الذي يدير ويقود عمليات هذا "الجيش"، والذي تحوّل ـــــ كما هي عادته، وإن كان بطريقة أبشع وأوسع ـــــ إلى مجرد أداة قتل وقصف وحشي وليس جيش قتال محترف؛ فسقط في وحل الجيوش البربرية التي عرفها التاريخ الإنساني، وإن كان بالصوت والصورة هذه المرة.