العدوان الإسرائيلي على غزة: مصر في قلب المعمعة
تبدو الإدارة المصرية كأنها متورطة في الصراع القائم رغماً عنها، وأنها كانت تريد النأي بنفسها عن كل ما يجري خارج الحدود، ثمّ التركيز على المشكلات الاقتصادية.
تطوّر موقف الدولة المصرية بصورة ملحوظة منذ اندلاع القتال بين الكيان الإسرائيلي وحركات المقاومة داخل قطاع غزة. ففي البداية شرعت القاهرة في إجراء اتصالات مكثفة بالجانبين للوصول إلى صيغة لوقف إطلاق النار، ودعت الجميع إلى ضبط النفس، ولاحقاً ربطت خروج الأجانب من قطاع غزة عبر معبر رفح بسماح الاحتلال الإسرائيلي بإدخال المساعدات للقطاع المحاصر. أما الموقف الأبرز فكان الرفض المتكرر لمخططات حكومة الاحتلال الرامية إلى تهجير أهالي غزة إلى شبه جزيرة سيناء، والإعلان أن "سيادة مصر ليست مستباحة، وأمنها القومي أولوية".
عند التدقيق في المشهد الإقليمي برمته تبدو الإدارة المصرية كأنها متورطة في الصراع القائم رغماً عنها، وأنها كانت تريد النأي بنفسها عن كل ما يجري خارج الحدود، ثمّ التركيز على المشكلات الاقتصادية والبحث عن السبل الممكنة إلى سد حاجات عدد السكان، والبالغ نحو 110 ملايين. محور الأزمة في هذا التصور الانعزالي، الذي يحكُم الرؤية المصرية منذ نهايات عهد أنور السادات، أنه غير ممكن عملياً، فالدول جميعها لا بد من أن تؤدي دوراً في محيطها، إقليمياً ودولياً، بل عليها أن توظّف كل المستجدات لمصلحتها.
مؤخراً، وجدت القاهرة نفسها مضطرة مجدداً إلى إعلان موقفها بشأن مسألة "إدارة قطاع غزة"، فالعدو الإسرائيلي الواهم بات يخطط من أجل المستقبل، متصوراً إمكان تصفية حركات المقاومة والقضاء على سلطتها. بحسب المصادر، أبلغت مصر الولايات المتحدة الأميركية رفضها الوجود الإسرائيلي في قطاع غزة، تحت أي مسمى، كما رفضت وجود قوات من الناتو أو قوات أجنبية، كذلك أكدت مصر رفضها عرض إدارتها لقطاع غزة.
الرأي العام داخل مصر بات هو الآخر عامل ضغط على السلطات من أجل اتخاذ مواقف أكثر قوة ضد العدوان الإسرائيلي المستمر لنحو شهر، والذي أدى إلى سقوط الآلاف بين قتيل وجريح، إذ ينادي سياسيون مصريون بضرورة إنهاء كل العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة و"تل أبيب" أو تجميدها، وتوجيه رسائل إلى الإدارة الأميركية، مفادها أن الموقف المصري من الوارد أن يتطور في مسار العداء لـ"إسرائيل"، إذا استمرت في ضرباتها الجوية ومساعيها لاجتياح القطاع براً. كما يطالب الشارع المصري بفتح معبر رفح بصورة كاملة لإمداد سكان القطاع بما يحتاجون إليه من مستلزمات العيش.
معبر رفح.. شريان الحياة لقطاع غزة
ينظر السكان المحاصَرون داخل قطاع غزة إلى معبر رفح المتاخم للحدود المصرية على أنه شريان الحياة بالنسبة إليهم، فهو المعبر الوحيد الذي يتيح لهم التواصل براً مع دولة أخرى غير "دولة" الاحتلال.
وفي خضم العدوان الإسرائيلي المستمر، يؤدي المعبر الدور الأهم في إجلاء الجرحى والمرضى لتلقي العلاج، بالإضافة إلى إدخال المساعدات الإنسانية والطبية، إلّا أن المعبر محكوم بأسلوب إدارة يُفضي إلى فرض القيود على تدفق الأشخاص والبضائع، وذلك منذ سيطرة حماس على القطاع عام 2007، وكان هذا الدافع وراء بناء عدد من الأنفاق غير الشرعية لتسهيل مرور السلع وحركة المواطنين.
يمتدّ معبر رفح على مسافة تقدر بـ 12 كيلومتراً، ويتميز بكونه المعبر الوحيد الذي لا تديره "إسرائيل"، على رغم أنها تراقب جميع الأنشطة في محيط المعبر وعموم جنوبي غزة عبر قاعدة "كريم شالوم" العسكرية. وبالإضافة إلى معبر رفح، هناك عدد من المعابر، مثل معبر بيت حانون ("إيريز") في شمالي القطاع، ومعبر كرم أبو سالم للحركة التجارية بين القطاع و"إسرائيل". كما توجد معابر أخرى معطّلة عن العمل، مثل المنطار والعودة والشجاعية. وهناك أيضاً معبر القرارة ("كيسوفيم") شرقي خان يونس ودير البلح، وهو معبر مخصص للتحرك العسكري الإسرائيلي، بحيث تحاول الدبابات والقطع العسكرية الدخول منه كلما قرر "جيش" الاحتلال اجتياح القطاع.
تكمن الأزمات المتعلقة بمعبر رفح عموماً، منذ اندلاع الحرب، في 8 نقاط:
1- إنه نظرياً تحت تصرف السلطات الفلسطينية والمصرية، لكن الاحتلال الإسرائيلي لديه كلمته دوماً فيما يتعلق بمسألة العبور من القطاع وإليه.
2- إن استخدام المعبر يتميز بنوع من الانتقائية وعدم الانتظام، إذ يمكن أن فتحه أو إغلاقه في أي لحظة.
3- إن عبور المعبر في حد ذاته أمر مُعقّد، إذ يحتاج كل شخص إلى تصاريح، ويتطلب ذلك التسجيل لدى سلطات حماس قبل فترة طويلة من السفر. أمّا الذين يستطيعون دفع تكاليف التصريح، ففي إمكانهم طلبه إلى السلطات المصرية.
ووفق مكتب الأمم المتحدة، فإن هذه الإجراءات تفتقد الشفافية، الأمر الذي يُضطر المسافرين إلى الانتظار عدةَ أيام، أو شهراً كاملاً، أو شهرين، قبل العبور.
4- مع أحداث "الربيع العربي" وحدوث حالة واسعة من الانفلات الأمني في عموم مصر، وخصوصاً في شمالي شرقي شبه جزيرة سيناء، قامت السلطات بفرض رقابة صارمة على كل الذين يريدون السفر في اتجاه المدن والبلدات القريبة من معبر رفح، وتم إغلاق كل المنطقة الحدودية، وخصوصاً أن تلك المنطقة معروفة بكونها مركزاً للتهريب بسبب الأنفاق.
5- خلال عام 2015، غمرت السلطات المصرية المنطقة الحدودية بالمياه بهدف تدمير جميع الأنفاق السرية، كما قامت، خلال الأعوام العشرة الماضية، بنقل عدد من سكان سيناء المصريين بعيداً عن الحدود، من أجل السيطرة بصورة كاملة على مخارج الأنفاق وسدّها، الأمر الذي جعل المعبر الشرعي هو الطريق المتاح أمام أهالي غزة.
6- قبل اشتعال الأوضاع في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كانت كل المساعدات تدخل غزة عبر معبر "كرم أبو سالم"، الذي يديره الاحتلال. ولاحقاً، أصبح معبر رفح الممر الوحيد المتاح. في الأيام الأولى للحرب، أعلنت مصر أن الحدود مفتوحة، لكن لا يمكن استخدام المعبر بسبب القصف الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، في 10 تشرين الأول/أكتوبر، قصفت "إسرائيل" معبر رفح 3 مرات خلال يوم واحد، الأمر الذي أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة من المعبر. في نهاية المطاف، تمكنت شاحنات المساعدات من العبور إلى غزة في 21 تشرين الأول/أكتوبر.
7- تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 500 شاحنة كانت تدخل كل يوم من معبر رفح لغزة، لكن منذ 21 تشرين الأول/أكتوبر الماضي لم تعبر سوى نحو 400 شاحنة إغاثة فقط!
8- بفضل وساطات إقليمية ودولية، تم السماح باستخدام معبر رفح لعمليات إجلاء محدودة لنحو 100 جريح من غزة، كما غادر نحو 600 شخص ممن يحملون جنسيات أجنبية، وبعض موظفي المنظمات الإنسانية منذ مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر.
ولا يزال الغموض يلف مصير فلسطينيي غزة، ولا سيما بعد أن أعلنت حكومة الاحتلال أنها عازمة على مواصلة العدوان وتشديد الحصار على القطاع حتى القضاء على حركة المقاومة، فيما يُعَدّ ضرباً من الجنون.
محاولة "إسرائيل" تهجير أهالي غزة إلى سيناء
مخططات كيان الاحتلال لتفريغ قطاع غزة من أهله ودفعهم نحو سيناء المصرية، ليست جديدة، فثمة وثائق تشير إلى مساعٍ إسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية عبر دفع الفلسطينيين مرة أخرى إلى خارج أراضيهم، في تكرار لمأساة عام 1948.
وتكشف الوثائق أن الاحتلال الإسرائيلي وضع خطة سرية قبل أكثر من خمسين عاماً لترحيل الآلاف من فلسطينيي غزة إلى شمالي سيناء، وكان ذلك بُعيد احتلال غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان السورية، في حرب عام 1967. حينها أصبح القطاع مصدر إزعاج أمني للاحتلال، وباتت مخيمات اللاجئين المكتظة بؤراً للمقاومة.
وفي أوائل أيلول/سبتمبر 1971، أسرّت حكومة الاحتلال إلى البريطانيين بوجود خطة سرية لترحيل الفلسطينيين من غزة إلى مناطق أخرى، على رأسها العريش المصرية، لكن هذه المخططات عُرقلت بسبب الموقف الدولي، ثم لاحقاً حرب أكتوبر عام 1973.
وتكررت تلك المساعي الصهيونية برعاية أميركية في الأعوام الأولى لتولي حسني مبارك للسلطة. وبحسب ما تكشف وثائق سرية بريطانية، فإن رئيس مصر الأسبق مبارك كشف طلب الرئيس رونالد ريغان توطين فلسطينيين من لبنان في مصر، وذلك خلال مباحثاته مع رئيسة الوزراء البريطانية يومها مارغريت ثاتشر، في أثناء زيارته لندن في طريق عودته من واشنطن في شباط/فبراير 1983.
ويسعى الاحتلال لفرض مخططات التهجير كونها "أمراً واقعاً"، مع استمرار عمليات القصف الهمجية واعتماد سياسة الأرض المحروقة، على النحو الذي أجبر مئات الآلاف من السكان على النزوح من شمالي القطاع إلى جنوبيه، علماً بأن 1.7 مليون غزيّ هم لاجئون بالفعل داخل القطاع، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حذّر من خطورة تهجير سكان قطاع غزة إلى صحراء سيناء المصرية في أول تصريحاته بهذا الشأن في الثامن عشر من الشهر الماضي، مشيراً إلى أن مخطط تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر قد يؤدي إلى تهجير مماثل من الضفة الغربية إلى الأردن، وهذان الأمران يمنعان إقامة دولة فلسطينية.
لكن الأمر الذي أثار الجدل لدى بعض أطياف المعارضة حينها، هو اقتراح الرئيس المصري "نقل سكان قطاع غزة إلى صحراء النقب، حتى تتمكن إسرائيل من تصفية المقاومة في غزة".
وبحسب التسريبات الصحافية المتلاحقة على مدار الأسابيع الماضية، فإن "تل أبيب" مستمرة في حشد دعم دولي لنقل مئات الآلاف من المدنيين من غزة إلى مصر، وأن هذا المخطط يتم تسويقه كونه "مباراة إنسانية ستسمح للمدنيين بالهروب موقتا من المخاطر". وتصر القاهرة على موقفها الرافض لعملية التهجير على رغم المحاولات الإسرائيلية والضغوط الغربية.
ومنذ عدة أيام، صرح وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بأن أي وثيقة تخص وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، وتقترح تهجير ملايين الفلسطينيين إلى سيناء، هي "اقتراح مثير للسخرية"، وذلك فى مقابلة مع شبكة "سي أن أن" الأميركية.
وبحسب خبراء، فإن الإدارة المصرية تتحسس من المخطط الإسرائيلي الرامي إلى تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، نتيجة عدة أسباب، منها ما يتعلق بالخشية من تصفية القضية الفلسطينية ذاتها، ومنها ما يدور حول تخوف الأجهزة المصرية من تحوّل مخيمات اللاجئين إلى بؤر توتر وانفلات، قد تُجهد المؤسسات الأمنية في الداخل، كما قد تجعل سيناء قاعدة للعمليات ضد "إسرائيل"، الأمر الذي يجرّ مصر إلى الدخول في صراعات أوسع. من جهة أخرى، لا ترغب الدولة المصرية في تحمل أيّ أعباء اقتصادية إضافية، وخصوصاً في ظل تقاعس الدول الثرية في المنطقة، والمجتمع الدولي أيضاً، عن مدّ يد العون إلى البلاد في أزمتها الأخيرة.
عودة الروح إلى الشارع المصري.. وفلسطين كلمة السر
تعالت أصوات المصريين الرافضة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وعادت المظاهرات إلى الشارع بعد انقطاع دام أعواماً. ودوماً كانت القضية الفلسطينية مُحرّكاً للشارع السياسي المصري، في مختلف أطيافه وتوجهاته، إذ يشعر المصريون بعمق الرابط بفلسطين، قومياً ودينياً وإنسانياً. ويتبيّن ذلك بدرجة أكبر في الأوقات التي تتعرض أراضي الأشقاء للعدوان.
ويشدّد المجتمع السياسي المصري على ضرورة اتخاذ الدولة خطوات أقوى من أجل التعبير عن التضامن مع أبناء غزة، الذين تسحقهم الآلة العسكرية الإسرائيلية. وتتنامى المطالبات بضرورة مراجعة اتفاقية السلام التي تم إبرامها مع العدو الإسرائيلي في سبعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى طرد السفير الإسرائيلي من القاهرة، وسحب السفير المصري من الأراضي المحتلة، كخطوة أولية في مسار التصعيد.
وكان ناشطون مصريون أجمعوا على الذهاب إلى ساحات المحاكم لرفع دعوى بشأن بُطلان اتفاقية كامب ديفيد، واتخذوا خطوات بالفعل في هذا السياق، كما طالب آخرون بضرورة مراجعة نشاط الدبلوماسيين الإسرائيليين داخل العاصمة المصرية، بالإضافة إلى التشديد على إبقاء معبر رفح مفتوحاً، والمطالبة بإدخال مزيد من الشاحنات للقطاع المحاصَر.
وتتشابه الأجواء اليوم داخل مصر بأجواء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حين كانت الأعلام الفلسطينية منتشرة في كل الشوارع، والطلاب الجامعيون يهتفون للمقاومة ويرفعون صور الشهيد محمد الدرة، وأجهزة التلفاز مضبوطة على المحطات الإخبارية لمتابعة تغطية الأحداث الفلسطينية على مدار اليوم.
ويؤكد المصريون في مواقع التواصل أن الأحداث الأخيرة أعادت الروح من جديد إلى الشارع السياسي بعد فترة كبيرة من الخمول بسبب الأوضاع الأمنية وارتدادات "الربيع العربي".
وتثير صور الجرحى والشهداء من قطاع غزة عواطف المصريين، كما تُعَدّ وقوداً بالنسبة إلى السياسيين الذين يحملون همّ القضية الفلسطينية. ويمثل هذا بالمجمل عامل ضغط كبيراً على الإدارة المصرية، التي وجدت نفسها، في قلب الحدث، مدفوعةً إلى التعامل مع العدوان الإسرائيلي بصورة أكثر حسماً لإيقاف نزف الدم الفلسطيني.