الصين بين سياسة "صفر كوفيد" وتفشّي الوباء
تفتخر الصين بأن سياسة "صفر كوفيد" التي اتبعتها حافظت على أرواح السكان وقللت تداعيات الفيروس على الاقتصاد الصيني، في وقت فشلت الدول الأخرى في حماية مواطنيها من الوباء.
شهدت مناطق صينية تظاهرات عدة احتجاجاً على قيود الإغلاق الصارمة وسياسة "صفر كوفيد" التي تنتهجها الحكومة الصينية وطرق تنفيذها. انطلقت شرارة هذه التظاهرات بعدما اندلع حريق في مبنى سكني في مدينة أورومتشي عاصمة إقليم شينغيانغ، وأودى بحياة 10 أشخاص، وحمّل البعض القيود الصحية القاسية مسؤولية عرقلة عمل فرق الإطفاء.
وإزاء هذه الاحتجاجات، أعلنت السلطات الصينية تخفيف إجراءات مكافحة "كوفيد 19" في مناطق عديدة مثل بكين وأورومتشي، اللتين أعلنت السلطات المحلية فيهما تقديم مساعدات مالية للأشخاص ذوي الدخل المنخفض أو الذين ليس لديهم دخل، وتوفير عدد من وظائف الخدمة العامة للفئات ذات الدخل المنخفض التي تواجه صعوبات في الحصول على عمل. وتأتي الاحتجاجات في الوقت الذي تشهد البلاد أكبر زيادة في أعداد المصابين منذ بدء الجائحة، إذ وصل عدد المصابين إلى 40 ألف حالة.
تفرض الصين منذ ما يقارب 3 سنوات قيوداً صارمة لمكافحة انتشار وباء كورونا المستجدّ، وتنتهج سياسة "صفر كوفيد"، وهي تهدف من خلال ذلك إلى إبقاء الإصابات بالفيروس قريبة إلى الصفر تقريباً، وذلك عبر السيطرة السريعة على انتشار الوباء في المنطقة التي يظهر فيها. ولهذه الغاية، تنفذ السلطات المحلية اختبارات جماعية، وتعزل المرضى في مرافق حكومية، وتنفذ إغلاقات جزئية، وأحياناً تفرضها على مدن أو مقاطعات بأكملها.
أثارت قيود مكافحة فيروس كورونا استياء الكثير من الصينيين الذين توقعوا أن تُخفف الإجراءات بعد المؤتمر الوطني العشرين للحزب الشيوعي الذي جرى في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
وبعد أسابيع من انعقاد المؤتمر الذي أعاد انتخاب الرئيس شي جين بينغ أميناً عاماً للحزب للمرة الثالثة، أعلنت السلطات الصينية إدخال 20 تدبيراً لتخفيف تدابير مواجهات الفيروس، منها تخفيف فترة الحجر الصحي للوافدين من الخارج، ولكن مع ارتفاع الإصابات بفيروس "كوفيد 19"، أعادت السلطات الصينية فرض الإغلاق مجدداً لمنع انتشار الفيروس.
ومن ناحية أخرى، أثرت عملية الإغلاقات المتكررة سلباً في الاقتصاد الصيني الذي يشهد في الفترة الأخيرة تباطؤاً ونقصاً في الطلب، إلى جانب تراجع الصادرات وأسعار المساكن والعقارات. وكانت الحكومة الصينية قد حدَّدت هدف النمو الاقتصادي لعام 2022 عند نحو 5.5%، إلا أن صندوق البنك الدولي خفّض توقعاته لنمو الصين إلى 3.2% هذا العام. ومع اندلاع الاحتجاجات، أعلن البنك الدولي أنه قد يضطر إلى خفض توقعات النمو بسبب سياسة "صفر كوفيد" والاحتجاجات الحاصلة.
كما أنَّ أرباح الشركات الصناعية في الصين سجلت انخفاضاً، إذ ذكرت الهيئة الوطنية للإحصاء أنَّ الأرباح الصناعية هبطت بنسبة 3% على أساس سنوي خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الجاري، فمن أصل 41 قطاعاً صناعياً تراجعت أرباح 22 قطاعاً بسبب سياسة "صفر كوفيد".
تصرّ الصين على هذه السياسة، على الرغم من أنّ عدد الإصابات يعتبر منخفضاً طبقاً للمعايير العالمية، وعلى الرغم أيضاً من تأثير هذه السياسة سلباً في الاقتصاد الصيني، لأنها ترى فيها الطريقة المثلى للحفاظ على أرواح أكبر عدد من الناس، فالصين هي أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان (1.4 مليار نسمة)، فإذا تم رفع القيود، سيصاب عدد كبير جداً من الناس.
وبحسب دراسة أجراها باحثون في جامعة فودان في شنغهاي، فإنَّ تخلي الحكومة عن سياسة "صفر كوفيد" سيؤدي إلى وفاة 1.6 مليون شخص. وما دفع السلطات الصينية إلى تشديد سياسة "صفر كوفيد" أيضاً هو أن نسبة كبار السن في الصين عالية جداً، بسبب سياسة الطفل الواحد التي كانت متبعة، إذ يشكّل الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً أو أكثر نحو 14% من إجمالي السكان عام 2021، ما يجعل الصين بلداً "شائخاً". وتعد معدلات التطعيم بين كبار السن منخفضة، فنحو نصف الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 80 عاماً تلقوا الجرعة الأولى من اللقاحات الصينية، وهم أكثر عرضة للخطر.
تفتخر الصين بأن سياسة "صفر كوفيد" التي اتبعتها حافظت على أرواح السكان وقللت تداعيات الفيروس على الاقتصاد الصيني، في وقت فشلت الدول الأخرى في حماية مواطنيها من الوباء؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية، يموت حالياً نحو 500 شخص كل يوم بسبب الفيروس.
على الرغم من أن التظاهرات التي حصلت احتجاجاً على تدابير الإغلاق الصارمة كانت محدودة، فإنَّها نادراً ما كانت تحصل. لذلك، أثارت انتباه الحكومة الصينية التي عملت على تخفيف بعض الإجراءات، وستتبع ذلك بالمزيد من تخفيف القيود، مع أخذ المحافظة على أرواح السكان قدر الإمكان بعين الاعتبار. وقد بدأت السلطات الصينية بالعمل على التسريع في حملات تطعيم كبار السن، ما يعد استعداداً لتغيير سياسة "صفر كوفيد".
ومن المحتمل أن تفتح السلطات الصينية تحقيقات حول سوء تطبيق إجراءات مكافحة انتشار الفيروس، بما فيها نتائج اختبارات كورونا المستجدّ المزيفة، والفساد الذي انتشر في هذا المجال، والذي ساهم في ارتفاع الإصابات خلال الفترة الأخيرة ومعاقبة المسؤولين.
وفي إطار آخر، شكّلت الاحتجاجات مادة دسمة للإعلام الغربي الذي عمل على تصويرها كأنها واسعة النطاق، وتمتد إلى جميع أنحاء البلاد، وهي بمنزلة انقلاب على الرئيس شي جين بينغ. تريد واشنطن استغلال هذه الاحتجاجات للضغط على الصين وتشويه صورتها عالمياً، كما تفعل دائماً في قضية مسلمي الإيغور وإظهار الصين أنها تنتهك حقوق الأقلية المسلمة هناك أو بثّ الإشاعات عن سقوط صاروخ صيني تائه على الأرض.
وليس مستبعداً أن يكون للولايات المتحدة الأميركية دور في تغذية هذه الاحتجاجات، إذ أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي جو بايدن يراقب ما يحصل في الصين من كثب. ومن جهة أخرى، دعت الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات حازمة ضد أنشطة التسلل والتخريب التي تقوم بها "قوات معادية"، ولا يخفى الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة الأميركية في تايوان، والدعم الذي قدمته للمتظاهرين في أحداث هونغ كونغ عام 2020.