الرواية الأميركية في أوكرانيا.. كيف تصنع المخابرات المركزية الخبر؟
عَملُ وكالة المخابرات الأميركية في مجال صناعة الخبر المزيّف توسعت دائرته ليطال مراكز قرارٍ أخرى في الإدارات الأميركية. ظهر ذلك خلال العقدين الماضيين في عدة مسائل، حين كانت واشنطن تتحضر لغزوٍ عسكري أو إعلان حرب.
"عند تقاعدهم من المسؤولية في مجال الاستخبارات، يتحولون إلى العمل كمعلقين على الأخبار السياسية. لقد أصبح هذا الأمر مساراً وظيفياً راسخاً في الولايات المتحدة". ("لماذا يصبح هذا العدد الكبير من رؤساء المخابرات الأميركية معلقين إعلاميين؟"- صحيفة "جنوب الصين الصباحية").
المخابرات المركزية الأميركية وصناعة الخبر
في العام 1974، نشر الصحافي الأميركي سيمور هيرش مقالاً في الصفحة الأولى في صحيفة "نيويورك تايمز"، أكد فيه أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت تتجسس على النشطاء المناهضين للحرب على فيتنام لأكثر من عقد. حينها، دعا مسؤولون سابقون في وكالة المخابرات المركزية وبعض المشرّعين إلى إجراء تحقيق في الكونغرس لبحث الأمر.
بدأت لجنة من الكونغرس الأميركي، برئاسة السيناتور الديمقراطي فرانك تشرش، تحقيقاتها في "تجاوزات الاستخبارات الأميركيّة" في العام 1975، وكان اسمها الرسمي "لجنة تحقيق مجلس شيوخ الولايات المتّحدة لدراسة العمليّات الحكوميّة فيما يتعلّق بالأنشطة الاستخباراتيّة".
نُشرت نتائج تحقيقات "لجنة تشرش" في نيسان/أبريل 1976، في العديد من الصحف الأميركيّة، من بينها صحيفة "نيويورك تايمز". ويكشف التقرير الذي أعدته اللجنة، في بعض فصوله، عن النشاط الذي لجأت إليه وكالة المخابرات الأميركيّة داخل البلاد وخارجها في مجال توجيه الرأي العام العالمي.
في كتابه "لمصر لا لعبد الناصر"، يتحدث الكاتب المصري الراحل محمد حسنين هيكل عما ورد في تقرير اللجنة، رابطاً بعض التفاصيل بالدعاية التي كانت موجهة ضد الرئيس جمال عبد الناصر ودور المخابرات الأميركية فيها، إذ أنشأت وكالة المخابرات الأميركيّة دوراً صحافيّة في العديد من بلدان الشرق، وكان تمويلها يتمّ مباشرةً من الاستخبارات الأميركيّة أو من خلال مساعدة الأخيرة لها، على أن تكون مُتكيّفةً في أخبارها مع سياسة الوكالة الأميركيّة.
تجنيد صحافيين ووكالات
في أواخر أربعينيات القرن الماضي، بدأت وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة عمليّة "Mocking Bird" (الطائر المُقلّد-المُحاكي)، التي شملت تجنيد صحافيّين أميركيّين على نطاقٍ واسع، كُلّفوا مهمّة تضمين مقالاتهم وتقاريرهم دعايةً معاديةً للشيوعيّة ومؤيّدةً للولايات المتّحدة. وفي إطار العمليّة، جنّدت الوكالة 25 مؤسّسةً إعلاميّة على الأقلّ لكي تنشر الدعاية، وكان لديها أكثر من 400 صحافيٍّ في جدول رواتبها، وفقاً لشهادةٍ أدلى بها مدير "الاستخبارات الأميركيّة المركزيّة"، وليام كولبي، أمام "لجنة تشرش" في العام 1975.
كما أنشأت الاستخبارات الأميركيّة - أو ساعدت على إنشاء - وكالات أنباء لجمع الأخبار بطريقةٍ عاديّةٍ و"مهنيّة"، لكنّها كانت توجّه هذه الأخبار بما يتلاءم مع الانطباعات التي تريدها وكالة الاستخبارات الأميركيّة منها، كما أنشأت قسماً خاصًّا لتزييف الكتب. على سبيل المثال، إن الكتاب الذي روّجت له الدعاية الأميركيّة في الستينيات بعنوان "أوراق نبكوفسكي"، وادعت أنّه اعترافات "جاسوسٍ للاتّحاد السوفياتي" كشف فيه أسرار الحكم وخباياه في الاتّحاد السوفياتي، تبيّن في ما بعد أنّه من تأليف وكالة الاستخبارات الأميركيّة التي عمدت إلى الترويج له بعيداً عن الأضواء.
وفي إطار تحديد الجهة المسؤولة عن الترويج للخبر، زودت الاستخبارات الأميركيّة بعض السياسيّين والإعلاميّين في العالم بمعلوماتٍ وحكاياتٍ ووثائق تخدم أغراضها وتوجّهاتها، من دون أن يعرفوا مصدرها، لكنّ عمليّة تسلّمهم تلك المعلومات المزيّفة كانت تتمّ بأجواء "مسرحيّة"، تقنعهم بأنّ ما حصلوا عليه هو "أسرار بعيدة المنال على غيرهم". ويُراعى أن يكون ما يتسلّمه هؤلاء السياسيّون مُتّفقًا مع أهوائهم ومشاريعهم، بحيث تكون شهوة إذاعة هذه الأسرار، حتى قبل التحقّق منها، ملحّة وغير قابلةٍ للانتظار.
وكالة الاستخبارات الأميركيّة أنشأت أيضاً قسماً خاصاً "للتشويه الإخباري"، يقوم بتأليف أخبارٍ ملفّقةٍ يكون الهدف من نشرها تشويه حقائق معيّنة، أو تشويه سمعة أشخاصٍ ومنظّماتٍ يتصدّون للسياسات الأميركيّة ويعارضونها.
ويستعرض تقرير "لجنة تشرش" مثالاً حول ذلك، يقول فيه إن "الاستخبارات الأميركيّة تنجح في أن تدسّ خبراً صغيراً ملغوماً في جريدةٍ غير مشهورةٍ في بانكوك (عاصمة تايلاند)، ثم تلفت إليه بطريقةٍ غير مباشرة جريدة أخرى أكثر شهرةً منها في هونكونغ. وفي هونكونغ، يعثر مندوبٌ لإحدى وكالات الأنباء على الخبر، فيضعه على أسلاك وكالته، ويكتسب من اسمها قوّة تصديقٍ، فينسى الناس بدايته المتواضعة من بانكوك. وهكذا يلفّ العالم ليصبح منسوباً إلى وكالة أنباءٍ عالميّة!" (أخبار كوريا الشمالية المزيفة التي تتناقلها الصحف والوكالات الغربية هي جزء من هذه العملية حتى الآن).
مراكز القرار ودورها في التضليل
عَملُ وكالة المخابرات الأميركية في مجال صناعة الخبر المزيّف توسعت دائرته ليطال مراكز قرارٍ أخرى في الإدارات الأميركية. ظهر ذلك خلال العقدين الماضيين في عدة مسائل، حين كانت واشنطن تتحضر لغزوٍ عسكري أو إعلان حرب.
ادعاء وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول وجود أسلحة دمار شامل في العراق خلال مداخلته الشهيرة في مجلس الأمن، هو ما ظهر إلى العلن في الساحة الدولية، لكن في الكواليس، كان هناك مسار إعلامي مكثف يبث الإشاعات والأخبار الملفقة المتعلقة بالموضوع.
غوديث ميلر، وهي صحافية في "نيويورك تايمز"، نشرت خلال مرحلة التهيئة للحرب على العراق بين العامين 2002 و2003، تقارير عديدة حول برنامج العراق المزعوم لـ"صنع أسلحة دمارٍ شامل"، ليتبيّن في ما بعد أنّها استندت إلى معلوماتٍ زائفة قدّمتها مصادر حكوميّة أميركيّة، وهو ما دفعها إلى تقديم استقالتها من الصحيفة في العام 2005 بعد نشر الفضائح المتعلقة بهذا الأمر.
وبدءاً من العام 2005، أطلقت وزارة الدفاع الأميركيّة برنامجاً سرياً شمل استغلال ضبّاط عسكريّين متقاعدين، من أجل عرض وجهات نظرٍ مؤيّدةٍ للحرب على إيران والحضور العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان عبر وسائل الإعلام خلال برامج إخباريّةٍ ومقابلات، وتقديمهم بصفة محلّلين مستقلّين، ليتبيّن في مرحلةٍ لاحقة أنّهم يُلقّنون ما يجب أن يقولوه من "البنتاغون" مباشرةً، مستندين إلى معلوماتٍ استخباراتيّة غير دقيقة.
وشمل هذا البرنامج مناطق أخرى، من ضمنها شرق أوروبا. وتم التعامل مع الضباط المتقاعدين كـ"بدائل" يمكن الاعتماد عليها لتقديم "مواضيع ورسائل" الإدارة الأميركية إلى ملايين الأميركيين "في شكل آراء خاصة".
إلى جانب التضليل الإعلامي غير المباشر من خلال استخدام صحافيين ووكالات إعلامية وكتّاب، فإن التضليل الرسمي للمعلومات والأحداث كان السمة الأبرز التي رافقت مسار عمل الإدارات الأميركية المتعاقبة.
أزمة الصواريخ الأميركية في تركيا
إبّان أزمة الصواريخ بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة مطلع سيتينيات القرن الماضي، ركزت إدارة الرئيس الأميركي جون كيندي خلال الترويج لأسباب الأزمة وما يمكن أن ينتج منها على أن السبب هو نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ نووية متوسطة المدى في كوبا على مقربة من الولايات المتحدة.
نشأت في الإعلام الغربي سردية قوامها أن الاتحاد السوفياتي يهدد السلم والأمن الدوليين بنشره تلك الصواريخ، وأنه يستعد لضرب الولايات المتحدة، لإظهار الأخيرة في موقع الدفاع عن النفس، وأنها مهددة من النظام الكوبي أيضاً، بصفتها الحليف الذي سمح للاتحاد السوفياتي بذلك.
لكن الدعاية الغربية والبروباغندا الصادرة عن البيت الأبيض تجاوزت مسألة مهمة جداً حول تحديد المعتدي والمعتدى عليه والبادئ بالاستفزاز العسكري، ولا سيما أن نشر تلك الصواريخ لم يأتِ رداً على محاولات واشنطن المتكررة لإسقاط النظام في كوبا، بل هو رد مباشر على قيام الولايات المتحدة في العام 1961 بنشر صواريخ "جوبيتر" متوسطة المدى في مدينة أزمير التركية، يصل مداها إلى أكثر من 2400 كلم، ما يعني أنها قادرة على استهداف المناطق الغربية في الاتحاد السوفياتي، بما فيها مدينة موسكو، وهو ما يعني أن ما قام به الاتحاد السوفياتي هو رد فعل طبيعي ضمن سياسة الردع بالتعاون مع حليف مهدَّد، وخصوصاً أنها كانت المرة الأولى التي يتم فيها نشر هذا النوع من الصواريخ السوفياتية خارج جغرافيا الاتحاد.
لم تكتفِ الدعاية الأميركية بهذا المقدار من التضليل قبل الأزمة وخلالها، بل استمرت بها بعدها أيضاً. الدعاية الأميركية عملت حينها على تصوير الحل بأنه مبني على سحب السوفيات صواريخهم من كوبا، مقابل تعهد أميركي بعدم غزوها. وهنا أيضاً محاولة للتغطية على أصل أسباب الأزمة التي بدأتها واشنطن، باعتبار أن الاتفاق نصّ بشكل حرفي، وفق العرض السوفياتي، على إزالة موسكو جميع منصات الصواريخ الموجودة في كوبا، "شرط" إزالة جميع قواعد الصواريخ الأميركية الموجودة على الحدود التركية السوفياتية.
حتى يومنا هذا، لا يزال الإعلام الغربي يقول إن الأزمة نشبت بسبب نشر الاتحاد السوفياتي صواريخه في كوبا، وإن الولايات المتحدة استنفرت تحت وقع التهديد. وينتهي النقاش في النتائج بأن واشنطن أكدت عدم نيتها إسقاط النظام في كوبا عسكرياً، ما دفع موسكو إلى سحب منصات صواريخها، الأمر الذي يتنافى مع مسار الأحداث، فالأزمة بدأت في العام 1961، عندما نشرت الولايات المتحدة صواريخها الباليستية على حدود الاتحاد السوفياتي. لذلك، يصح القول عنها إنها أزمة الصواريخ الأميركية في تركيا، لا أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا، والأمر ذاته من حيث الشكل ينطبق على الأحداث الحالية في شرق أوروبا والأزمة في أوكرانيا.
الأزمة في أوكرانيا.. أصل النقاش
ما ذكر آنفاً من تفاصيل، إضافة إلى "أزمة العام 1961" و"لجنة تشرش" واستخدام متقاعدين عسكريين للتعليق على الأحداث في العراق وأفغانستان والدعاية ضد إيران، يمكن وضعه في إطار الأساليب التي لا تزال الولايات المتحدة تتبعها حتى الآن، والتي تبدو واضحة في المسار الإعلامي الذي ينتهجه البيت الأبيض، ومعه الإعلام الغربي، في تحليل خلفيات الأزمة في أوكرانيا وأسبابها وما سيترتب عليها من نتائج.
حوّلت الولايات المتحدة النقاش من توسع "الناتو" شرقاً، في انتهاك للتفاهمات المبرمة، إلى رغبة روسية جامحة في "التوسع والغزو"، وكأن ما تقوم به روسيا هو فعل مبني على فراغ. هذا الأمر لا يأخذ بعين الاعتبار أن الأزمة بدأت من اللحظة التي طرحت فيها مسألة انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو"، بما يحمله هذا الحلف من بنية وهيكلية قائمة على مواجهة روسيا وتفكيكها، وقبلها الاتحاد السوفياتي، ومن مسألة أكثر أهمية، تتعلق برغبة الحلف في نشر صواريخ في دول شرق أوروبا وإمداد هذه الدول بالأسلحة والسعي المستمر لزعزعة استقرارها الداخلي وتنصيب سلطة معادية لروسيا.
هذه الأمور جميعها لا يمكن أن تراها موسكو إلا تهديداً لها، وأنها المعني الوحيد بها. الخطاب الروسي يصر على أن الأزمة في أوكرانيا يمكن أن تحل بعدم توسع "الناتو" شرقاً وعدم تزويده أي طرف بالأسلحة، وذلك استناداً إلى التفاهمات التي جرت بين روسيا والناتو.
في الإعلام الغربي، تجد السردية الأميركية مسيطرة، وتكثف معظم المقالات والتقارير معلوماتها ضمن سياق "الغزو الروسي لأوكرانيا" أو "الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا". يكاد لا يمر مقال أو تقرير في "نيويورك تايمز" حول روسيا مثلاً إلا وفي عنوانه عبارة "غزو أو اجتياح"، ويمكن التأكد من ذلك من محركات البحث. كذلك الأمر في "واشنطن بوست" وغيرها من الصحف الأميركية، والتي ذهبت أبعد من ذلك بتحديد يوم الهجوم وساعته، ما دفع المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا إلى القول إنها طلبت من وسائل الإعلام المضللة في الولايات المتحدة وبريطانيا، من مثل بلومبيرغ" و"نيويورك تايمز" وغيرهما، أن تعلن عن جدول "غزوات روسيا" للسنة القادمة، لأنها "تود التخطيط لإجازتها".
الأزمة في أوكرانيا.. فرض السرديات
خلال الأسابيع الماضية، كانت مئات المقالات والتقارير والمقابلات التلفزيونية والتعليقات الصحفية في الغرب تتجاوز هذه المسائل كلها، للإيحاء بأن الأزمة بدأت مع حشد روسيا قواتها. ارتبط تعبير "الغزو" بروسيا حتى بات ملازماً لها. في التقارير المكتوبة أو في التعليقات الصحافية لمراسلين ومسؤولين رسميين ومعلقين، استُخدم تعبير "غزو" في الحديث عن روسيا، بينما استخدمت تعابير مثل "جهود وساطة، جهود دبلوماسية، تخفيف التوتر" في الحديث عن التحركات الغربية الأوروبية والأميركية، فيما تستمر الأسلحة الغربية بالتدفق إلى أوكرانيا، وتستمر الأزمة بأسبابها الحقيقية، وهي محاولات "الناتو" التوسع شرقاً نحو الحدود الروسية.
الأمر ليس صدفة، بل هو سياسة ممنهجة، ولها وسائلها ومواردها المالية والبشرية. الهدف منها وضع روسيا في موقع المعتدي، لبناء استراتيجية طويلة الأمد من الحصار والعقوبات، ولتبرير التدخل الغربي الأمني والعسكري في شرق أوروبا على مقربة من الحدود الروسية. هذا ما تثبته قرائن عديدة متعلقة بالساحة الإعلامية الغربية وارتباطها الوثيق بمصادر القرار السياسية والأمنية.
على سبيل المثال، لا يتحدث الإعلام الغربي عن التطهير العرقي الذي يحصل في شرق أوكرانيا، فيما تجد آلاف المقالات والتقارير حول أخبار مزعومة تتعلق بـ"الإيغور" وتعرضهم للاضطهاد من قبل الحكومة الصينية. منذ تصاعد حدّة الأزمة في أوكرانيا، لم نشاهد حتى تقريراً غربياً يحاول تبيان ما تتحدث عنه موسكو في هذا الشأن حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لسكان دونباس أو ما يعانونه أو خلفيتهم الثقافية والاجتماعية أو مطالبهم السياسية.
أيضاً، هناك تغييب شبه تام في الإعلام الغربي لكمية الأسلحة التي يتم نقلها إلى أوكرانيا وإلى خطوط التماس مع جمهوريتي دونباس. آلاف الأطنان من الأسلحة تم نقلها من دول غربية عديدة، لا سيما بريطانيا والولايات المتحدة، لا تجد مساحة في التحليل والنقاش حول تأثيرها في تصعيد الأزمة بقدر ما تأخذه المناورات الروسية في هذا الإطار.
الاستفزازات في إقليم دونباس وخرق اتفاقية "مينسك" أيضاً، أو أصل المشكلة المتعلقة بتوسع الناتو شرقاً... هذا كله يتم التعامل معه بشكل أقل بكثير من سردية الاستعداد الروسي لـ"غزو أوكرانيا" وتحديد الساعة والدقيقة لذلك، وكأن الحرب تقوم - إن جرت - من خلال طرف واحد.
الأمر يتعلق بفرض سردية من أجل تحويلها إلى واقع، وذلك من خلال ضخ كمية هائلة من الإشاعات والأخبار تطال طرفاً واحداً. الكمية الهائلة من هذا النوع من الأخبار ستصبح الشغل الشاغل للرأي العام، وسيكون لها تأثير في فهمه وإدراكه لمجرى الأمور. وبغض النظر عمن يصدقها، فإنها على أقل تقدير ستكون محور النقاش، لينتقل الحديث من تهديد "الناتو" لروسيا، وهو حقيقة، إلى التهديد الروسي لأوكرانيا.
خطورة تأثير السردية الإعلامية في مجريات الأزمة في أوكرانيا، يمكن ملاحظته في التشديد الروسي المستمر على أن ما تقدمه الإدارة الأميركية في هذا الأمر هو "هستيريا"، إضافة إلى الإيحاء المستمر في الإعلام الغربي، لا سيما الأميركي، بأن القوات الروسية بدأت بالتحرك نحو أوكرانيا من خلال تحديد وقت لذلك، والحديث المستمر عن قوات هجومية روسية.
لكن السؤال: هل المشكلة في وجود القوات الروسية ضمن حدودها لإجراء مناورات أو تدريبات أو في وجود القوات الأميركية والبريطانية وغيرها على مقربة من الحدود الروسية؟
عمل سياسي منظّم
معظم التصريحات التي انتشرت في الأسابيع الأخيرة كان مصدرها الإعلام الأميركي، نقلاً عن مصادر، بمعنى أنها لم تكن تصريحات رسمية، لكنها ذات طابع ودلالات رسمية، من أجل فرض سردية واحدة في الإعلام ومنصات التواصل. سردية واحدة لا غير، هي أن روسيا تريد "غزو" أوكرانيا، وأن المشكلة هي الحشد العسكري الروسي، وأن روسيا لديها أطماع في أوكرانيا.
لكن في حال أعادت روسيا قواتها إلى مراكزها السابقة الآن من دون مفاوضات، هل سيتخلى "الناتو" عن فكرة ضم أوكرانيا إليه أو ضم دول أخرى في شرق أوروبا؟ والسؤال الآخر، إذا تعهدت الدول الغربية بعدم طرح مسألة انضمام أوكرانيا إلى "الناتو" وعدم نشر صواريخها وأسلحتها على مقربة من الحدود الروسية، هل ستبقى القوات الروسية منتشرة بهذا الشكل؟ الجوابان يعطيان إيضاحاً عن أسباب الأزمة، وعن الخلفيات السياسية والأمنية للسردية التي يحاول الغرب فرضها، وعن المعتدي والمعتدى عليه.
هذه السرديات الإعلامية هي عمل سياسي منظم، له عدة أهداف، من ضمنها تشكيل رأي عام عالمي يعتبر روسيا "قوة هيمنة"، والإيحاء أيضاً بأن الغرب يدافع عن أوكرانيا، وأنه يؤدي دوراً في تخفيف التوتر. هذه السرديات وضخ المعلومات المغلوطة والتضليل والفبركة هي استراتيجية ضمن مسار طويل في مرحلة ما قبل الحرب وأثناءها - في حال حدوثها - وبعدها.
وفي الإطار العام، كشفت الأزمة في أوكرانيا أكثر التحالف الوثيق بين الإعلام في الغرب والسلطة بأجهزتها كافة. هوامش حرية الإعلام التي تتغنى بها السلطات هناك تنحصر في إطار ضيّق يرتبط بالخلافات السياسية الداخلية، فلكل طرف صحيفته وصحافييه. المقال والخبر والتصريح يمكن صياغتهم بأي طريقة، لكن السردية هي ملك الدولة العميقة والسلطة ووزارة الدفاع والمخابرات المركزية.
إقرأ أيضاً: من جوكوف إلى بوتين.. الطريقة الروسية في حماية الأمن القومي