التهديدات التركية... براغماتية أم انتهازية سياسية؟

تتردد تركيا كثيراً في الإقدام على عملية "المخلب – السيف" التي أعلنت عنها في شمال سوريا، مقارنة بغيرها من العمليات العسكرية التي نفذها الجيش التركي خارج أراضيها.

  • التهديدات التركية... براغماتية أم انتهازية سياسية؟
    التهديدات التركية... براغماتية أم انتهازية سياسية؟

برعت السياسة التركية في ظل حكم حزب "العدالة والتنمية" في التغير والتلون، فلم يعد وصفها بـ البراغماتية كافياً، حيث وصلت درجة من "الانتهازية السياسية" وتغيير المواقف، والقفز على التحالفات، فشكلت تكريساً حقيقياً لنظرية الحرباء في تلونها ومكرها.  

شهور مرت على التهديدات التركية باجتياح الأراضي السورية لتنفيذ عملية "المخلب – السيف" التي تهدف إلى توجيه ضربة لـ "قوات سوريا الديمقراطية"، وتنفيذ المشروع التركي الهادف إلى إقامة منطقة عازلة بعمق 30 كم داخل الأراضي السورية، لحماية الأمن القومي لتركيا، وتأمين منطقة آمن لنقل اللاجئين السوريين إليها حسب الادعاءات التركية.

اللافت هذه المرة، هو تردد تركيا كثيراً في الإقدام على هذه العملية مقارنة بغيرها من العمليات العسكرية التي نفذها الجيش التركي خارج أراضيها. فقد نفذت تركيا 12 عملية عسكرية خارج أراضيها منذ العام 1974، وكان أكثر هذه العمليات داخل الأراضي السورية والعراقية، وهذه العمليات هي:

‏1- عملية السلام في قبرص: في العام 1974، والتي نتج عنها تشكيل جمهورية شمال قبرص التركية في العام 1983. والتي لم يعترف بها أحد حتى اليوم سوى تركيا.

2- عملية الفولاذ شمال العراق: ‏ (20 آذار – 4 أيار 1995): بقوات قوامها نحو 35 ألف فرد، مستهدفة حزب العمال الكردستاني.

3- عملية المطرقة (12 أيار – 2 تموز 1997): حيث أرسلت تركيا 30 ألف جندي إلى شمال العراق لقتال وحدات حزب العمال الكردستاني، ودعم الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني.

4- عملية الفجر في العراق (25 أيلول- 15 تشرين الأول 1997): ضد معسكرات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.

‏5- عملية أضنه على الحدود السورية (أكتوبر 1998): حيث حشدت تركيا قواتها على الحدود السورية ‏ جرت وساطات إقليمية لاحتواء الأزمة شاركت فيها جامعة الدول العربية ومصر وإيران، وكان من نتائجها توقيع الدولتين اتفاقا أمنيا بمدينة أضنة التركية يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 1998، وشكل ذلك الاتفاق "نقطة تحول" رئيسية في مسار العلاقات بين الدولتين.

6- عملية الشمس شمال العراق (21-29 شباط 2028): حيث عبر نحو 8 آلاف عسكري تركي الحدود إلى شمال العراق لمهاجمة المقاتلين الأكراد الذين يستخدمون المنطقة العراقية قاعدة للتخطيط لهجمات ضد تركيا. 

7- عملية شاه الفرات (21-22 شباط 2015): وهي عملية نفذها الجيش التركي في شمال سوريا، لنقل ضريح سليمان شاه (وهو جد مؤسس الدولة العثمانية) إلى منطقة خاضعة لسيطرة تركيا بالقرب من الحدود، وإجلاء 38 من الحراس يواجهون تهديدات من تنظيم "داعش".

8- عملية درع الفرات (24 آب 2016 – 31 آذار 2017): حيث أخرجت القوات التركية و1500 من ميليشيات ما يسمى بـ "الجيش السوري الحر" المعارض المدعوم من تركيا مقاتلي تنظيم داعش والوحدات الكردية من المنطقة الحدودية. وسيطرت القوات التركية على المنطقة بين عفرين ومنبج وأبعدت وحدات حماية الشعب الكردية إلى شرقي نهر الفرات، وأخرجت مقاتلي داعش من جرابلس ودابق والباب في محافظة حلب بشمال غرب سوريا.

9- عملية غصن الزيتون (20 كانون الثاني – 24 آذار 2018): انضم نحو 25 ألفا من ميليشيات الجيش السوري الحر للقوات التركية للسيطرة على بلدات وقرى عربية خاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب الكردية. وأيضاً على منطقة عفرين بمحافظة حلب في شمال غرب سوريا.

10- عملية المخلب ‏(28 أيار 2019): وهي عملية عسكرية عبر الحدود قامت بها القوات التركية في شمال العراق ضد حزب العمال الكردستاني. 

11- عملية نبع السلام (9 تشرين الأول 2019): بدأت تركيا وميليشيات الجيش السوري الوطني المتحالف معها عملية عسكرية في شمال شرق سوريا بهدف طرد قوات سوريا الديمقراطية -التي يقودها الكرد- وإقامة منطقة آمنة على عمق 30 كيلومترا من الحدود تعتزم أنقرة إعادة توطين اللاجئين السوريين بها.

وتقول تركيا إن الوحدات الكردية -الفصيل الرئيس في قوات سوريا الديمقراطية- لا تختلف عن حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية.

12- عملية درع الربيع ‏(24 شباط/فبراير 2020): وهي عملية عسكرية تركية داخل الأراضي السورية شنّتها قوات الجيش التركي والفصائل الموالية لها ردًا على هجوم نفذه الجيش السوري على محافظة إدلب.

إن التردد التركي في تنفيذ (عملية المخلب – السيف)، والتي بدأت فعلاً عبر توجيه ضربات جوية، والتهديد بالبدء بالعملية البرية، ناجم عن اعتبارات داخلية وإقليمية ودولية، فعلى الصعيد الداخلي يعد التوقيت حرجاً جداً بالنسبة للرئيس أردوغان من الناحية الانتخابية، خاصة وأن أي فشل أو عدم القدرة على الحسم السريع ميدانياً سيكون له انعكاسات سلبية على مستقبله السياسي. 

كما أن الوضع الاقتصادي التركي، وتراجع قيمة الليرة خلال الأشهر الماضية جعل أنقرة تفكر في البحث عن حل سياسي لتلك المعضلة، عبر الاستماع للنصيحة الروسية بالحوار مع دمشق لإيجاد حل مشترك يضمن حماية الحدود التركية من خلال سيطرة الجيش السوري على كامل المناطق التي تحتلها الميليشيات الكردية الانفصالية.

الحوار مع دمشق لم يكن خفياً، بل صدرت تصريحات رسمية من الجانب التركي تتحدث عن إمكانية اللقاء بين الرئيسين التركي والسوري تتويجاً لمحادثات أمنية جرت بين الجانبين.

وكان الرئيس إردوغان قد تحدث عن إمكانية اللقاء بالرئيس الأسد مشيراً إلى أنه في السياسة لا يوجد خلافات دائمة ولا صداقات مستمرة، متناسياً في ميكافيليتيه الفرق بين سلوك الأشخاص وسلوك الدول. متجاهلاً البعد الشخصي والصداقة التي جمعته بالرئيس الأسد، وهو ما جعل الأسد حينها يشعر بالغدر وخيانة الصاحب التي لم ولن يفهمها أردوغان أو يعير لها وزناً في حياته على ما يبدو.

الأسد من جهته كان قد أجاب على هذا السؤال منذ سنوات، مبيناً أن لديه قطيعة نفسية في التعامل مع أردوغان، متمنياً ألا تضطره مصلحة بلاده للقاء به في يوم من الأيام. ومن هنا فقد رأت سوريا أنه لا مصلحة لها في التعاون مع أردوغان والدخول معه في حوار يكون هو الكاسب منه انتخابياً، فبحواره مع دمشق سينتزع ورقة عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم من يد المعارضة، وهي الورقة الأهم والأقوى بيد خصومه حتى الآن.

وحتى اليوم يبدو جلياً أن اللقاء بين الرئيسين فيما لو حصل فسيكون مطلباً روسياً وحاجة تركية، ولا مصلحة حقيقية لدمشق في ذلك، فما سيقوم به أردوغان تجاه دمشق ستفعله المعارضة، على أقل تقدير، في حال فوزها في الانتخابات المقبلة.

ومن هنا فإن دمشق تراهن على عامل الوقت حتى الآن، تجنباً للقاء قد يعني لشريحة كبيرة من الأتراك (العلويين) أن دمشق أضحت تنسق مع أردوغان أو ترغب في بقائه في السلطة.

موسكو من جهتها، كانت حازمة في موضوع حماية الأراضي السورية وعدم السماح لتركيا بتنفيذ أية عملية عسكرية داخل الأراضي السورية دون موافقتها، خاصة وأن موسكو تسيطر على الأجواء السورية في تلك المناطق، وأي عملية عسكرية تركية ستحتاج إلى غطاء جوي يوفر لأنقرة تفوقها وبشكل كبير، وهذا لن يتحقق دون موافقة موسكو.

خاصة وأن أزمة إسقاط الطائرة الروسية في سوريا من قبل الجيش التركي مازالت حاضرة في تداعياتها على العلاقات بين البلدين، رغم اعتذار تركيا حينها، وذهاب أردوغان إلى موسكو سعياً منه لتلطيف الأجواء مع الروس. لكن ذلك لم يمنع روسيا من المضي قدماً في افتتاح مكتب تمثيل لحزب العمال الكردستاني في موسكو رداً على تلك الحادثة.

وبعد قيام الحرب الأوكرانية وتداعياتها، فقد سعت كل من الولايات المتحدة وموسكو لاستمالة تركيا إلى طرفهما، بسبب أهمية أنقرة كعضو في حلف الناتو، حيث كان انضمام كل من فنلندا والسويد إلى الحلف متوقفاً على موافقة تركيا.

أما موسكو فلديها أهداف كثيرة من التعامل مع تركيا، أهمها العمل على تحييد أنقرة على الأقل في الحرب الأوكرانية، وخاصة بعد أن تسببت المسيرات التركية (بيرقدار) بخسائر كبيرة للجيش الروسي في أوكرانيا. وكذلك نقل وبيع النفط الروسي والقمح الأوكراني من خلال تركيا..إلخ.

لقد تغيرت موازين القوى لصالح أنقرة، فالوضع اليوم مواتي بالنسبة إليها لتنفيذ العملية العسكرية في الداخل السوري أكثر من ذي قبل، فوضعها الاقتصادي تحسن قليلاً، وهناك تأييد شعبي لتنفيذ العملية، وخاصة بعد وقوع التفجير في إسطنبول وتوجيه أصابع الاتهام فوراً إلى حزب العمال الكردستاني. رغم تشكيك الكثيرين في صحة الرواية التركية وتوقيتها.

أما عسكرياً، فالجيش التركي يبدو قادراً على الانتصار، فلا مجال للمقارنة بينه وبين قوات قسد المدعومة أمريكياً، خاصة وأن الجيش التركي هو ثاني أكبر جيش في حلف الناتو ولديه خبرات قتالية كبيرة، وتفوق تكنولوجي هائل.

ويبقى العائق الوحيد أمام تنفيذ العملية العسكرية التركية هو الغطاء السياسي، بمعنى الحصول على موافقة كل من الولايات المتحدة الأميركية وموسكو، خاصة وأن طهران باتت منشغلة بأوضاعها الداخلية نتيجة للاضطرابات الأخيرة التي حدثت فيها.

موسكو ما زالت تحاول إيجاد حل للأزمة عبر تقديم بعض التصورات التي تتضمن تراجع وانسحاب قوات سوريا الديمقراطية إلى العمق السوري لمسافة تزيد عن 30 كيلو متر، أو تسليم المناطق التي تسيطر عليها للجيش السوري عبر الحوار مع دمشق. لكن قوات قسد في المقابل تريد أن يكون لها دور كقوة عسكرية وأمنية، وهو ما لم توافق عليه الحكومة السورية حتى الآن.

أما الولايات المتحدة الأميركية فما زالت ترفض وبشدة العملية العسكرية التركية ضد قوات سوريا الديمقراطية، رغم تفهم الولايات المتحدة لوجهة نظر تركيا وحاجتها إلى حماية أمنها القومي. وكذلك بسبب الحاجة الأميركية لأنقرة كدولة في حلف الناتو، وذلك لأن قوات سوريا الديمقراطية تضغط على الجانب الأميركي عبر التهديد بوقف تعاونها مع القوات الأميركية في محاربة تنظيم داعش على حد زعمهم. وكذلك تهديدها بترك عناصر التنظيم الموجودين في سجن الصناعة في محافظة الحسكة والذي تتولى قسد مسؤولية حمايته.

وختاماً:

إن الاستعدادات التركية قد اكتملت اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، لكن الغطاء السياسي لهذه العملية لم يكتمل بعد، فهل ستغامر أنقرة بعملية عسكرية دون الحصول على موافقة الفاعلين الدوليين في الأزمة السورية؟ أم ستنجح في ابتزاز الجميع وهي التي أتقنت تلك السياسة...؟