التبعات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية.. هل هناك بدائل للغاز الروسي؟
هل تستطيع دول التحالف الغربي أن تجد بديلاً سريعاً ومعقولاً ومستداماً لإمدادات الغاز الروسي من مصادر أخرى؟
تثير قضية الصراع الجاري في أوروبا حالياً بين روسيا من ناحية، وأوكرانيا التي يقف خلفها التحالف الغربي والولايات المتحدة من ناحية أخرى، أكثر من قضية ذات أبعاد وتبعات استراتيجية، مثل أوضاع وتوازنات القوى في أوروبا والعالم بعد هذه المعركة، ومنها أيضاً مستقبل الاقتصاد الروسي وطريقة مواجهته للحجم القاسي من العقوبات التي بدأت دول التحالف الغربي بتطبيقها ضد روسيا منذ اليوم التالي للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومنها كذلك تأثير هذه المقاطعة الغربية الصارمة على علاقات روسيا بدول العالم عموماً، والدول العربية على وجه الخصوص، وأخيراً وليس آخراً، ما هو مستقبل علاقات الطاقة بين روسيا والدول الأوروبية، وخصوصاً ألمانيا، وهل تستطيع دول التحالف الغربي أن تجد بديلاً سريعاً ومعقولاً ومستداماً لإمدادات الغاز الروسي، من مصادر أخرى؟
هل لدى أوروبا بديل للغاز الروسي؟
لعلّ من أخطر القضايا المعقّدة، هي تلك المتعلقة بإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، التي تمثل حوالى 38% من احتياجات هذه القارة العجوز حتى عام 2021، والتي من المقدّر أن تتزايد بعد تشغيل خط أنابيب (نوردم ستريم 2) بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق، ومنه سوف يتفرع إلى بقية دول غرب أوروبا ووسطها.
وقد بدأت برامج المقاطعة والإجراءات العقابية الأوروبية والأميركية بعد بدء معركة تحرير أوكرانيا من المجموعات الفاشية الحاكمة في الثالث والعشرين من شباط/ فبراير 2022، بوقف تشغيل خط الأنابيب هذا، كما تسعى الولايات المتحدة إل البحث عن بدائل لإمدادات الغاز الروسي من مصادر أخرى، كذلك ترى الدوائر الأميركية أنها فرصتها في تسويق الغاز الأميركي المسال الذي تمتلك فائضاً كبيراً منه إلى الأسواق الأوروبية. وهنا علينا أن نطرح التساؤل التالي: هل تستطيع الدول الأوروبية إيجاد بدائل سريعة ودائمة ومناسبة من مصادر أخرى؟
والحقيقة أن مسألة إيجاد بدائل للغاز الروسي ينبغي أن تتوافر فيها ثلاثة عناصر هي:
أولاً: أن تكون الكميات كافية ومتاحة.
ثانياً: أن تكون الوسائل والأساليب لتوصيله سهلة ومتوافرة.
ثالثاً: أن تكون الأسعار معقولة، ولا تشكل ضغوطاً تضخمية جديدة على الاقتصاد الأوروبي والمواطن الأوروبي.
وهنا علينا بدايةً أن نعرض لحجم القدرات المتاحة لروسيا من احتياطيات الغاز المؤكدة حتى الآن من ناحية، وحجم إمدادات الغاز إلى الدول الأوروبية المتعاقد معها من ناحية ثانية، ثم نقدّر حجم البدائل المتاحة ومن أين؟
أولاً: القدرات والاحتياطيات المتاحة لدى روسيا
وفقاً للبيانات المتاحة دولياً، فإن احتياطيات الغاز المتاحة لدى روسيا حتى عام 2020 قد بلغت 48.9 تريليون متر مكعب، بينما تأتي إيران في المرتبة الثانية باحتياطي قدره 34.0 تريليون متر مكعب، وبعدهما قطر باحتياطي قدره 23.8 تريليون متر مكعب، ثم تركمانستان باحتياطي 15.3 تريليون متر مكعب، ومن بعدها تأتي الولايات المتحدة باحتياطي مقدّر بـ 12.9 تريليون متر مكعب، ثم المملكة السعودية بحجم 8.4 تريليونات متر مكعب، تليها دولة الإمارات بحجم 7.7 تريليونات متر مكعب، ثم نيجيريا بحجم 5.7 تريليونات متر مكعب،، ثم تأتي مصر بحجم 2.1 تريليون متر مكعب. أما هولندا فلم تعد تمتلك الكثير من الاحتياطيات من الغاز، حيث لم تزد حالياً عن 1.1 تريليون متر مكعب، كما أغلقت أحد أهم حقولها من الغاز.
أما النرويج، فبالكاد يكفي إنتاجها احتياجاتها المحلية، وما يفيض يكفي لتلبية متطلبات بعض الدول الأوروبية، مثل المملكة المتحدة.
وبالنظر إلى الحصار الذي تعرّضت – وما زالت – تتعرض له إيران طوال أربعين عاماً، فإن سوق الغاز الطبيعي وصادراته تكاد تكون قد انفردت بالجزء الأكبر منه روسيا وقطر والنرويج وأستراليا لسنوات طويلة ماضية، وتأتي من بعدهما الجزائر ونيجيريا وتركمانستان والسعودية والإمارات.
أما مصر، والتي يقدّر حجم احتياطياتها المعلنة عام 2018 – والمشكوك في مدى دقتها – حوالى 77.0 تريليون قدم مكعب (أي ما يعادل 2.1 تريليون متر مكعب)، فهي في حالة عسر غازي، حيث اضطرتها الظروف إلى استيراد الغاز من الكيان الإسرائيلي عبر صفقتين طويلتي الأجل، واحدة في عام 2019، والثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.
ثانياً: خريطة الصادرات العالمية
رغم التناقضات والاختلافات بين سياسات الاتحاد الأوروبي وروسيا في كثير من القضايا والمحافل الدولية، فقد ظل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي يتزايد عاماً بعد آخر. ففي عام 2013 كانت حصة دول الاتحاد الأوروبي من الغاز الروسي نحو 27%، ورغم تفجر المشكلة الأوكرانية عام 2014، والقرار الروسي باستعادة شبه جزيرة القرم، ومعارضة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لهذا القرار، وتوقيع بعض العقوبات على روسيا، فقد ظلّ الغاز الروسي يتدفق بازدياد عاماً بعد عام، حتى بلغ عام 2021 حوالى 38% من إجمالي احتياجات أوروبا من الغاز، ولم يكن خط أنابيب "نوردم ستريم 2" قد بدأ العمل بعد.
وفي المقابل توفر النرويج 24% من احتياجات أوروبا من الغاز، تليها الجزائر بنسبة 8%، وقطر بحوالى 8% وبعدها أستراليا، والباقي يأتي من هولندا والولايات المتحدة وبقية دول الخليج، عبر شحنات الغاز المسال.
هكذا تشكلت خريطة أهم الدول المصدّرة للغاز الطبيعي حتى عام 2020 على النحو التالي:
1- روسيا بحجم 199.9 مليار متر مكعب.
2- أميركا بحجم 149.5 مليار متر مكعب.
3- قطر بحجم 143.7 مليار متر مكعب.
4- النرويج بحجم 112.9 مليار متر مكعب.
5- أستراليا بحجم 102.5 مليار متر مكعب.
وتتوزع صادرات روسيا من الغاز حتى عام 2020 على النحو التالي: ألمانيا 16%، إيطاليا 12%، فرنسا 8%، بيلاروسيا 8%، تركيا 6%، أي إن 50% من صادرات الغاز الروسي تذهب إلى هذه الدول الخمس، وتأتي بعدها الصين 5%، هولندا 5%، كازاخستان 5%، النمسا 5%، اليابان 4%، المملكة المتحدة 4%، بولندا 4%، المجر 3%، دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 10%، دول أوروبية أخرى غير منتمية إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 5%، دول آسيوية أخرى 3%.
ومن ثم فإن 92% من صادرات الغاز الروسي تذهب إلى الدول الأوروبية، لتدخل في تشابكات هائلة ومعقدة داخل الاقتصاد الأوروبي، وبين منازل المواطنين في القارة العجوز.
وتزوّد شركة غازبروم، المملوكة غالبيتها للدولة الروسية، أوروبا بالغاز بموجب نوعين مختلفين من التعاقدات: عقود طويلة الأجل، تستمر غالباً من 10 إلى 25 عاماً، وهناك أيضاً صفقات "فورية"، أو مشتريات لمرة واحدة لكمية ثابتة من الغاز. ومن هنا، تُعتبر روسيا أكبر مورّدي الغاز لأوروبا، سواء من خلال الأنابيب، أم من خلال الغاز المسال المصدّر على صورة شحنات من الغاز المسال المحمولة بالسفن المخصّصة لذلك.
ووفقاً لوكالة "رويترز" للأنباء، التي نشرت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي تقريراً استند إلى بيانات أوروبية، أظهر أن روسيا صدّرت من مشروعها "يامال للغاز الطبيعي المسال"، تسع عشرة شحنة من الغاز المسال بلغ إجمالي وزنها 1.41 مليون طن، وبعدها جاءت قطر في المرتبة الثانية بـ18 شحنة (1.33 مليون طن من الغاز المسال)، تلتها الجزائر فنيجيريا. وأضافت "رويترز" أن معظم شحنات الغاز الروسي اتجهت إلى محطات استقبال الغاز المسال في الجزء الشمال الغربي من أوروبا، ما يعدّ دليلاً على أن الغاز الروسي يتمتع بمزايا تنافسية عالية في أوروبا.
بينما أشار التقرير إلى أن الولايات المتحدة التي تسعى إلى غزو سوق الغاز الأوروبية، لم تصدّر إلى هناك سوى 0.64 مليون طن من الغاز المسال.
وهكذا تمتلك روسيا ميزتين لا تتوافران غالباً لغيرها من المنتجين والمصدّرين الكبار للغاز، وهما توفير الغاز من خلال خطوط الأنابيب (نوردم ستريم واحد، ونوردم ستريم اثنين وخط السيل التركي)، وكذلك عبر السفن المحمّلة بالغاز المسال.
ولا توجد دولة واحدة يمكنها استبدال هذا الحجم من الغاز الطبيعي المسال، حتى قطر لا تستطيع زيادة صادراتها إلى أوروبا لسببين، أولهما: أن معظم الأحجام القطرية محجوزة في عقود طويلة الأجل في الغالب لمشترين آسيويين، فإن كمية الأحجام القابلة للتحويل التي يمكن شحنها إلى أوروبا لا تتجاوز 10-15%. وثانيهما: أن قدرات التسييل وسفن الشحن المتاحة لديها لن تسعفاها في تلبية الطلب الطارئ بسبب الأزمة الأوكرانية.
كما أن غياب إيران عن السوق من ناحية، واندلاع النزاع بين الجزائر والمغرب من ناحية أخرى، وانعكاساته على وقف خط الغاز الواصل إلى أوروبا عبر المغرب ، جعلا للمركز الروسي دوراً لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله في الأجل المنظور.
ورغم المحاولات الأميركية المستمرة منذ عدة سنوات لوقف بناء خط أنابيب الغاز (نوردم ستريم 2) من روسيا إلى ألمانيا، بسعة 55 مليار متر مكعب سنوياً، والممتد من الساحل الروسي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، سواء في عهد إدارة دونالد ترامب، أم في ظل الإدارة الحالية لجوزيف بايدن، خوفاً من النفوذ الروسي في أوروبا، أو من أجل فتح المجال لإمدادات الغاز المسال الأميركي، فإن هذه الجهود لم تفلح بسبب إصرار المستشارة الألمانية السابقة (أنجيلا ميركل) من ناحية، والحاجة الماسّة للغاز من جانب بقية دول الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.
وها هي الحرب الروسية – الأوكرانية تطرح على أوروبا السؤال المستحيل: هل نستطيع تطبيق العقوبات على روسيا بما في ذلك وقف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا؟
الإجابة الحاسمة: كلا
لقد دفعت الولايات المتحدة الأميركية باستمرار في اتجاه تأجيج الحرب في الدونباس، لاعتبارات سياسية عديدة، لكن الدوافع الاقتصادية كانت حاضرة، وخاصة في ما يتعلق بمشروع "نوردم ستريم 2"، وكانت محاولات أميركا لخلق مواجهة أوروبية روسية في أوكرانيا أكثر وضوحاً كلّما اقترب المشروع من نهايته، وذلك بهدف وقف التعاون بين روسيا وأوروبا في مجال الغاز، وفرض نفسها كبديل لموسكو في هذا الجانب.
ولعل الزيادة الكبيرة في صادرات أميركا من الغاز الطبيعي المسال، وخاصة إلى أوروبا، تعكس هذه الرغبة الملحّة لإطاحة روسيا من سوق الطاقة الأوروبي.
لقد زادت صادرات الولايات المتحدة الأميركية من الغاز المسال للقارة الأوروبية في الشهور الـ6 الأخيرة من عام 2021، بشكل كبير، ما يعني أن أميركا دخلت حيّز المنافسة مع روسيا لتصدير الغاز إلى القارة الأوروبية.
لقد أصبحت أوروبا اليوم الوجهة الأولى للغاز المسال الأميركي، وبلغ إجمالي هذه الصادرات خلال كانون الثاني/ يناير 2022 حوالى 7.3 ملايين طن، علماً بأن سعر الطن كان يبلغ في ذلك الوقت نحو 730 دولاراً تقريباً، وهذا الرقم من التصدير مُغرٍ جداً لدولة مثل أميركا التي تعاني من عجز دائم في ميزانها التجاري.
ويشير بعض الخبراء إلى أن هذه الصادرات غير كافية لاستبدال معظم صادرات روسيا لأوروبا، لذلك تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى إيجاد البدائل للغاز الروسي تحت ضغط الاتحاد الأوروبي، ومن ضمن هذه المساعي مفاوضاتها مع إيران في الملف النووي، والذي تسعى إلى إنهائه لتتفرغ لمعاركها المقبلة مع روسيا والصين، وفتح آبار غاز جديدة شرق المتوسط قريبة للاتحاد الأوروبي، بعد فشلها في فتح الأراضي السورية أمام الأنبوب القطري.
كما يسعى الاتحاد الأوروبي أيضاً إلى توفير بدائل للغاز المسال الذي يتم استيراده عبر ناقلات خاصة، ويأتي جزء منه من الولايات المتحدة، وهو مستخرج من الزيت الصخري المرتفع التكلفة، وجزء آخر من قطر التي تملك قدرات كبيرة في إنتاج هذا الغاز والقدرة على تصدير كميات ضخمة. بيد أن هذا الغاز المسال لا يكفي حاجة السوق الأوروبي، وهو أكثر كلفة نظراً إلى تكاليف التسييل والشحن وإعادة التغويز، ومن ثم إعادة التوزيع، وتبقى عمليات الاستيراد عبر الأنابيب الضخمة، ومنها "التيار الشمالي" الذي يمر في بحر البلطيق ومنها إلى أوروبا، الأقل كلفة.
إذاً، من حيث الكميات لا تتوافر – وربما لن تتوافر – في الأجل المنظور بدائل أمام أوروبا للغاز الروسي.
ثالثاً: خريطة الاستهلاك والأسعار
وفقاً للبيانات المنشورة من النشرة الإحصائية السنوية لمنظمة أوبك، فإن خريطة توزيع الاستهلاك العالمي من الغاز الطبيعي تتوزع كالتالي: دول الاتحاد الأوروبي تستهلك عام 2021 حوالى 550 مليار متر مكعب من الغاز، تستحوذ ألمانيا منها على حوالى 88 مليار متر مكعب، ومن بعدها تأتي بقية الدول الأوروبية، أما الولايات المتحدة فهي تستهلك حوالى 846 مليار متر مكعب.
في أواخر عام 2010، وبسبب تعليق شركة "غاز بروم" الروسية لجميع عمليات بيع الغاز عبر منصاتها الإلكترونية، قفز سعر الغاز بنسبة 193%، وكذلك ما جرى في الأشهر الأخيرة من عام 2020، حيث زاد السعر من أقل من 0.9 دولار في مطلع عام 2021، إلى أن تجاوز 2.1 دولار للمتر المكعب في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2021، ومن المتوقع أن يزيد على ذلك بسبب الأزمة الأوكرانية.
وحتى اليوم، لم تحقق الولايات المتحدة هدفها من بناء تحالف غازي جديد يمثّل بدائل للغاز الروسي إلى أوروبا، ولا نظن أن هذه المحاولة سوف يُكتب لها النجاح في المستقبل المنظور، ما سيضع أوروبا كلها في محنة سياسية واقتصادية وأخلاقية غير معهودة.